مشروع الأمّة الديمقراطية إفشال لمشروع العثمانية الجديدة

أكثر من اثنتي عشر عاماً وسوريا والمنطقة تعيش حالة رعب بعد ما عُرف بالرّبيع العربيّ الذي اجتاح الشمال الأفريقي والشرق الأوسط، ربما لسوء حظ شعوب المنطقة إنها تعيش جغرافياً على حدود دولة جارة كتركيا، تركيا التي ما برحتْ في خلق الفوضى ما بين شعوب المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية والسلطنة العثمانية، وإرغامها على توقيع اتفاقية لوزان التي كانت بمثابة رصاصة الرّحمة في نعش الرجل المريض، وتم تقسيم المنطقة ما بين الدول الغربية المنتصرة على أساس الجغرافية الطبيعية وتقسيم الحصص ما بينها بعيداً عن الأخلاق والقيم الإنسانية، وإهمال   – ربما عن قصد – للجغرافية البشرية والتاريخية للشعوب العريقة التي كانت ومازالت تعيش على جغرافية هذه المنطقة، وبطبيعة الحال كان المتضرر الأكبر في كل ما سبق هو الشعب الكردي الذي تمّ تقسيمه إلى أربعةِ أجزاءٍ في إجراءٍ أقل ما يمكن القول عنه إنه سافرٌ وبعيدٌ كلّ البعد عن حقوق الإنسان في العيش الكريم والحياة الحُرة.

تركيا والفوبيا الكردية عموماً والإدارة الذاتيّة الدّيمقراطيّة في شمال وشرقِ سوريا خصوصاً:

حتى الآن لا تُوفّر القيادات التركية أية مناسبة للتذكير في إن افساح المجال وعدم التدخّل في حينها من أكبر الأخطاء التاريخية التي اقترفها الساسة التُرك في إعلان إقليم جنوب كردستان في شمال العراق، وإن من أكبر الأخطاء التاريخية التي اقترفها النظام العراقي والقادة العراقيين هو إعطاء أو الاعتراف الدستوري بالحكم الذاتي الكردي للإقليم، الذي أصبح بمثابة الإنعاش لباقي أجزاء كردستان في المطالبة بالحقوق الكردية المشروعة، في شمال وشرق سوريا وبقيادة حركة التحرر الكردستانية تنبهت إلى أخطاء الكرد التاريخية في كيفية تحصيل الحقوق وعدم الانجرار وراء الأوهام والوعود الخُلبيّة، وعليه ومع الحراك الشعبي في عموم سوريا انخرط الكرد أيضاً في الحراك السلمي والمطالب بالحريّة والكرامة، ومع انحراف الثورة السلمية إلى العسكرة، بدأت ملامح القِوى الراديكالية الإسلامية والمدعومة إقليمياً تتوضّح وتطفو على السّطح، وبطبيعة الحال بدأت القوى الديمقراطية والعلمانية بالتنبه إلى حالة الفوضى التي تريد بعض الأطراف جر الساحة السورية إليها، في حين بدأت حركة التحرر الكردستانية في تبني نهج الخط الثالث المتمثّل في الأمّة الديمقراطية المستندة إلى أفكار منظّرها السيد عبد الله أوجلان، في تحقيق العدالة الاجتماعية وقيادة المجتمع نفسه بنفسه، وعليه تم طرح مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية بشقيها النظري والعملي، وعلى هذا الأساس بدأ العمل على تطبيق هذه المبادئ على أرض الواقع وطرحه على جميع مكونات المنطقة من القوميات والأديان والأعراق للانخراط فيه وتبنيه.

تصادم المشروع الديمقراطي مع أوهام المشروع الاستعماري:

ما زالت تركيا الحديثة المنبثقة عن الإمبراطورية العثمانية تجد نفسها الوريث الشرعي والوحيد في إحياء أمجاد الجيش الإنكشاري في التوسّع شرقاً وغرباً، وإن اتفاقية لوزان خطأ تاريخي يجب تجاوزه مع حلول الذكرى المئوية لها، وبطبيعة الحال فإنها تتصور بإن الميثاق الملّي هو الحل الأمثل لاسترجاع الأمجاد الغابرة، وكلُ عينها على الشريط الممتد من حلب السورية إلى الموصل فكركوك، مستبيحة كل الأراضي والشعوب التي تعيش عليها، فقط من أجل اشباع رغباتها التوسعيّة، وتحقيق أوهام رجلها المريض في إحياء الخلافة الإسلامية وقيادة العالم الإسلامي السّني واظهاره على إنه بطل وأسد السَنة القادم، وفي مسعىً للوقوف في وجه العدو التاريخي (الإمبراطورية الفارسية)، وأيضاً التمدد المذهبي المخالف له (الشيعي)، لكن كل الأوهام والأحلام الوردية التي يعيشها رأس النظام التركي الحالي المتمثل في الرجل الأوحد الذي انشقّ عنه حتى معظم رفاق دربه في بداية المشوار، تصادم مع واقع الإدارة الذاتية الديمقراطية التي بدأت بالفعل في التطبيق وطرح الحل البديل لكلِ سوريا والمنطقة، وبدأ العداء الفعلي لشمال وشرق سوريا بعد فشل المفاوضات مع الكرد في شمال كردستان لإيجاد حل ديمقراطي للمشاكل التي يعيشها الداخل التركي، وعليه بدأ التحول إلى دعم الجماعات الراديكالية الإسلامية المتطرّفة والتي تمثلت بتنظيم القاعدة، وجناحها السوري جبهة نصرةُ أهل الشّام واندماجها مع ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش)، وهناك العديد من الوثائق والصور والفيديوهات التي تثبت تورّط النظام التركي في ذلك والتي لم تعد خافية على أحد من دعم لوجستي وتسهيل حركة المقاتلين على أراضيها وسهولة تحرّكهم وكيف أن الأراضي التركية كانت بمثابة الترانزيت للجماعات الإرهابية في التنقل ما بين سوريا والعالم الخارجي والتي كانت بؤرة التخطيط للكثير من الهجمات التي طالت الدول الأوربية والغربية، بالإضافة إلى المعاملات التجارية التي كانت تحصل بين الطرفين وتهريب لمقدرات وخيرات سوريا واستثمارها وتمويلها للأعمال الإرهابية، في المقابل ومع تطوّر التجربة الديمقراطية الكردية لم يرقْ ذلك للمعسكر المقابل، فبعد الانتصار التاريخي لقلعة الصمود كوباني في وجه أعتى تنظيم إرهابي، أصبح العالم مجبراً على احترام ودعم هذه القِوة التي تحارب نيابةً عن العالم أجمع، هذا الاجراء زاد من الضغط التركي وعدائه للكرد والقضية الكردية.

تصدير للأزمات الداخلية والتوسّع في الأزمات الخارجية:

بعد النجاح الأخير لحزب العدالة والتنمية وحلفائه في الانتخابات التركية (والمشكوك فيها أصلاً)، بدأت الأزمات الداخلية والخارجية تطفو على السطح وبدأ الداخل التركي يتململ من السياسات الفاشلة في إدارة البلاد سياسياً واقتصادياً، فقد بدأت آثار التدهور الاقتصادي تتوضح معالمه على المواطن التركي خاصةً بعد تدهور العملة التركية وتضخمها بشكل متسارع وتواصل الليرة التركية هبوطها إلى ما يقارب الثلاثين في الآونة الأخيرة، وتململ الدول الاوربية والخليجية من التسوّل المستمر لرئيس النظام التركي على أبوابها بحجة دعم المهاجرين وايوائهم واستخدام تلك الأموال في مشاريع توسعية وتمويلية لحركات حاضنة لهم في عدة جبهات داخلية وخارجية، والتدخلات السافرة له في عدة قضايا إقليمية مثل ليبيا ومصر وسوريا والعراق واليونان وأذربيجان …..الخ. وقد بدأت السياسة العدوانية التركية تتوضح بشكل جليّ مع تعيين رجل المخابرات الأول أو ما كان يعرف ب (رجل الظل) حقان فيدان وزيراً للخارجية، وما إن تسلّم مهامه بشكل رسمي حتى بدأ جولاته المكوكية على الدول الموالية والتي تجمعها مصالح سياسية مشتركة وذلك لحشد الموافقات على الخطط المرسومة مسبقاً لتغيير وجه ومعالم المنطقة بما يتناسب مزاج وهوى النظام التركي، فبدأت الهجمات على أراضي الدفاع المشروع وحركة التحرر الكردستانية بجميع الأسلحة المحرّمة دولياً، كما دعمت وحرضت على النزاع الأذري-الأرمني في دعم مباشر لوجستياً وسياسياً لأذربيجان على حساب أرمينيا، وأخيراً الهجمات الهمجية على البنية التحتية والمدنية في شمال وشرق سوريا متذرعةً بمكافحة الإرهاب الغير موجود أصلاً إلا في المخيلة التركية المريضة.

لماذا شمال وشرق سوريا؟ ولماذا هذا الصّمت الدولي؟

لا يخفى على رجل السياسة أن المصالح الدولية هي التي تتحكّم في علاقات الدول فيما بينها، وعليه فإنه يمكننا تعريف هذا الصمت الرسمي الدولي ضمن نفاق دولي متعمّد ومستند على المصالح البعيدة كل البعد عن القيم الإنسانية والأخلاقية، لكن ما لا يمكن تبريره هو هذا الصمت المريب والغير مبرر لمنظمات المجتمع المدني الدولية ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمات حماية المدنيين في حالات الحرب ….. الخ. هؤلاء الذين يتقاعسون عن أضعف واجباتهم في التنديد وإصدار بيانات الإدانة والتوثيق وتقديمها للجهات المختصة.

الولايات المتحدة الامريكية كلاعب أساسي على الأرض السورية وقيادتها للتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تتغاضى بين الحين والأخر عن الاعتداءات التركية على مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية وذلك للأسباب التالية:

– ترضية تركيا حليفتها في الناتو وثاني أكبر قوة عسكرية فيها.

– إبعاد تركيا عن حضن الدّب الروسي بالشكل المطلق.

– إبعاد تركيا عن دول حلف وارسو المنافس لحلف الشمال الأطلسي (الناتو).

– الضغط على قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومجلس سوريا الديمقراطي (مسد)، بحجة فك ارتباطهم بحزب العمال الكردستاني.

– الضغط على قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، لتنفيذ اجندات أمريكية خاصة لتقويض الدور الإيراني وميليشياتها في سوريا ومحاربتها.

– خلق نوع من التوازن ما بين الحليفين التركي في الناتو، وقوات سوريا الديمقراطية ضمن التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.

 روسيا أيضاً كلاعب أساسي متواجد بقوة على الأراضي السورية تحاول خلق دور قوة وذلك للأسباب التالية:

– توجيه الأنظار وابعادها عن السّاحة الأوكرانية المشتعلة وإلهاء العالم بمشاهد وصراعات أخرى.

– إرضاء الحليف والشريك التركي في منصة أستانا بغية إبعادها عن المحور الغربي.

– الضغط على الإدارة الذاتية الديمقراطية ومؤسساتها لتقديم التنازلات والرضوخ والجلوس مع نظام دمشق.

أما تركيا فلها عدة أسباب لما تقوم به من هجمات همجية على مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا أهمها:

– التغطية على فشلها الداخلي سياسياً واقتصادياً.

– التغطية على تدهور الليرة التركية بشكل متسارع والتضخم الحاصل في البلاد واستياء الشّعب من الصراعات العبثية التي تخلقها حكومة العدالة والتنمية وحلفائها القوميين المتشددين.

– ترضية حلفاء حزب العدالة والتنمية في الحكومة لضمان عدم انسحابهم من الائتلاف القائم.

– التغطية على فشل أذرعها في كل من سجن الغويران، والفتنة الأخيرة التي حاولت أن تقوم بها ما بين العشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في دير الزور.

– تضييق الخناق الاقتصادي على الإدارة الذاتية الديمقراطية في خلق المتطلبات الحياتية اليومية لسكان شمال وشرق سوريا وذلك بضرب البنية التحتية، وبالتالي خلق حالة شرخ وفوضى ما بين الإدارة والشعب.

– ضرب مشروع الأمة الديمقراطية ومنجزاتها وحالة القبول من قبل مكونات المنطقة بهذا النموذج لحل المشكلة السورية عموماً.

– خلق حالة رعب وعدم الاستقرار ما بين فئات الشعب وبالتالي دفعهم إلى الهجرة كنوع من سياسة الحرب الخاصة.

– أسباب خاصة بشخصية الرئيس التركي الجدلية والتي تفضي إلى خلق صورة له على إنه أسد الإسلام السّني في المنطقة.

– إمكانية أخذ ضوء أخضر من القوى الكبرى الفاعلة على الأرض بغية غزو المنطقة برياً والاستفادة من خيراتها، كما يحصل في عفرين وسري كانيه (رأس العين) وكري سبيه (تل أبيض) وغيرها من المدن السورية تحت الاحتلال التركي ومرتزقتها من السوريين.

في الخلاصة وبحسب المعطيات على أرض الواقع نستنتج من الهجوم على الكليّة الحربية في حمص، والحرب الدائرة رحاها في غزة أثر الهجوم الأخير لحركة حماس على إسرائيل، وتصعيد النظام وروسيا لغاراتها على غرب الفرات وعلى الجماعات الإسلامية وفصائل ما يسمى بالجيش الحر أو الوطني، حيث أن هناك افرازات جديدة بالنسبة للمنطقة عموماً وربما يكون بدايةً لحرب شاملة كما نوه إليها السيد عبد الله أوجلان خلال مرافعاته عن الشرق الأوسط وإمكانية إعادة فرزه وتقسيمه على أسس قومية ودينية وعرقية ومذهبية، ما يتبين للقاصي والداني خلال الهجمة البربرية التركية الأخيرة أن شعوب المنطقة اليوم وأكثر من أي يوم مضى متشبثة بأرضها وملتزمة أخلاقياً بدماء أبنائها التي تُسفك على هذه الأرض ومن أجلها، وأن الشعب الكردي إلى جانب إخوانه العرب وباقي المكونات ملتزمون بالحرب الشعبية الثورية في وجه الطاغية التركي. ربما من المفيد خلق حالات صداقة وبناء حالات من التوازن على أساس المصالح المشتركة مع القوى الكبرى، ولكن في كل الأحوال لا يمكن التوكّل أو الإعتماد على أحد لنيل حقوق الشعوب المظلومة، وأن الطريق الوحيد أمام هذه الشعوب هو التضحية بالغالي والنفيس للحصول على حريتها ونيل حقوقها.

زر الذهاب إلى الأعلى