اتفاقية الشرع – عبدي.. بين واقع التنكّر وآفاق الصراع
د. مرشد اليوسف

منذ وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة، ظلّت العلاقة بين دمشق والإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) تتّسم بالتوتّر والشدّ والجذب.
فبينما قدّمت الإدارة الذاتية نموذجاً مغايراً في الحكم والإدارة، يعتمد على اللامركزية والديمقراطية التشاركية، ظلّت الحكومة السورية متمسّكة بعقلية الدولة المركزية الصلبة التي لا ترى في أي تجربة موازية سوى تهديد لسلطتها التقليدية.
وفي هذا السياق؛ برزت اتفاقية الرئيس أحمد الشرع والجنرال مظلوم عبدي، كمحاولة جادّة لفتح نافذة تفاهم وطنيّ بين دمشق والمكوّنات السورية في شمال وشرق البلاد، والاتفاقية – حسبما نُشرت بنودها – تضمّنت خطوطاً عامة لإيجاد صيغة شراكة سياسية وعسكرية، تعترف بخصوصية المكوّنات الكردية والعربية والسريانية، وتحافظ في الوقت ذاته على وحدة سوريا.
ولكن المفارقة الصادمة أنّ الحكومة السورية سرعان ما تنكّرت لهذه الاتفاقية، وحاولت اختزالها في بند وحيد، وهو دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري المزعوم كأفراد لا ككتلة عسكرية لها خصوصيتها، وإخضاع المكوّنات لسلطة مركزية مطلقة؛ وما زاد من خطورة المسألة هو أنّ هذا الطرح قد جاء مترافقاً مع واقع تهيمن فيه الجماعات المتطرّفة (مرتزقة وسلفيّين) ومقاتلين أجانب على الساحة السورية، سواء في الشمال السوري المحتلّ أو في الداخل السوري؛ وهو ما يجعل خيار دمشق أقرب إلى إعادة إنتاج الفوضى بدلاً من السعي إلى بناء الدولة. ويمكن القول أنّ تنكّر الحكومة السورية للاتفاقية يعود إلى جملة من الأسباب البنيوية، أهمها:
1- العقلية المركزية التاريخية: هذه الدوغمائية تجاه النظام المركزي والاصرار عليه هو امتداد للفكر البعثي في صهر الجميع تحت عنوان: “الدولة الواحدة والسلطة الواحدة”، فهذه الدوغمائية هي إحدى أهم عوائق التوصّل إلى اتفاق بين الطرفَين؛ حيث ترفض أي شكل من أشكال اللامركزية، وترفض إدراجها في الدستور السوري الجديد. وما الإعلان الدستوري، والانتخابات البرلمانية، وتحديد العطل الرسمية التي ألغت مناسبات وتجاهلت أعياد المكوّنات السورية؛ سوى مؤشّر واضح على العقلية الدوغمائية لهذا النظام الجديد.
2 – هاجس السيطرة: النظام الجديد يصرّ على حلّ قوات سوريا الديمقراطية وضمّها إلى الجيش السوري كأفراد لا ككتلة عسكرية؛ وذلك من أجل بسط سيطرته على مناطق الإدارة الذاتية، في حين أنّ الجيش السوري الجديد الذي شكّله النظام في دمشق هو عبارة عن فصائل أغلبها مدرجة على قوائم الإرهاب، بالإضافة إلى أنّ هذه الفصائل موالية لجهات خارجية إقليمية (تركيا وقطر) ولا تتبع لسلطة وزارة الدفاع السورية، كالحمزات والعمشات وأحرار الشرقية وفصائل ممّا يسمّى بالجيش السوري الوطني، وانضمامها للجيش السوري ما هو إلّا انضمام شكليّ، وبالتالي؛ لا يمكن لقوات سوريا الديمقراطية الاندماج في الجيش السوري كأفراد، حفاظاً على أمن وسلامة مناطق الإدارة الذاتية من أيّة مجازر قد تُرتكَب بحق مكوّنات المنطقة.
3 -الرهان على عامل الوقت: يراهن النظام الجديد وكذلك تركيا على عامل الوقت، وعلى المفاوضات مع إسرائيل والولايات المتحدة للحصول على ضوء أخضر للقيام بعدوان ضدّ مناطق الإدارة الذاتية؛ حتى وإن كانت هناك اتفاقيات بين الحكومة المؤقّتة وقوات سوريا الديمقراطية؛ فهذه الاتفاقيات – من وجهة نظرهم – ما هي إلّا لكسب الوقت، وبمجرد حدوث تغيير في الموقف الأمريكي والدولي ستنقلب الحكومة المؤقّتة وتركيا على العهود والمواثيق مع قوات سوريا الديمقراطية.
إنّ حصر الاتفاق في بند ” ضمّ قوات سوريا الديمقراطية إلى الجيش السوري ” وتأويله على أنّه دمج كأفراد لا ككتلة عسكرية لها خصوصيتها، إنمّا يحمل أبعاداً خطيرة، ويعني إلغاء الشراكة الوطنية، ويُعَدّ تجاهلاً لمطالب المكوّنات التي أثبتت حضورها في الإدارة الذاتية الديمقراطية، ودورها في محاربة الإرهاب. وبدلاً من دعم قوات سوريا الديمقراطية، كقوة محلّية شرعية حاربت داعش، يُفتَح الباب على مصراعيه لعودة الفصائل المتطرّفة إلى سوريا؛ حيث باتت سوريا بيئة ملائمة للإرهاب نتيجة للسياسة التي تنتهجها الحكومة المؤقّتة وبدعم تركي.
كما أنّ سياسة الإقصاء ستؤدّي إلى مزيد من الشرخ بين دمشق والمكوّنات الكردية والعربية والسريانية.
ومن الواضح أنّ الحكومة السورية تنظر إلى الاتفاقية بوصفها ورقة تكتيكية لا أكثر، بينما تراها قوات سوريا الديمقراطية والمكوّنات الأخرى فرصة تاريخية لبناء مشروع وطني مشترك. هذا التناقض في الرؤية يجعل أيّةَ مفاوضات آيلةً للفشل ما لم يحدث تحوّل جوهري في عقلية النظام.
وضمن هذا السياق؛ فإنّ الحكومة المؤقّتة أمام معادلة صعبة؛ فإمّا الاعتراف بالتعدّدية واللامركزية كمدخل للحلّ السياسي، أو الاستمرار في سياسة التنكّر والإنكار، وهو ما سيؤدّي إلى استمرار النزيف السوري، وربّما إلى تقسيم البلاد فعلياً.
والحقيقة أنّ تنكّر دمشق لاتفاقية الشرع – عبدي ليس مجرّد خلاف على بنود تفاوضية، وإنّما هو انعكاس لصراع عميق بين نموذجَين: نموذج الدولة المركزية الأمنية التي تريد ابتلاع الجميع وبدعم تركي، ونموذج الإدارة الذاتية الذي يسعى إلى شراكة ديمقراطية حقيقية.
وبين هذين النموذجين يتحدّد مستقبل سوريا؛ فإمّا العودة إلى الدائرة المغلقة للفوضى والتطرّف، أو الانفتاح على أفق وطني جامع يعترف بالمكوّنات ويمنحها دوراً فاعلاً في صناعة القرار.
ورغم الكمّ الهائل من المعيقات؛ فإنّ الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية لم تفقدا الأمل بالوصول إلى اتفاق يُرضي الطرفَين.
واللقاء الذي حصل في 7 تشرين الأول الحالي بين الجنرال مظلوم عبدي والرئيس الشرع في العاصمة دمشق، وبحضور المسؤولين الأمريكيين، قد أسفر عن اتفاق لوقف فوري وشامل لإطلاق النار في حيّي الشيخ مقصود والاشرفية وفي شمال وشرق سوريا، وهو خطوة كبيرة. وجرى خلال اللقاء، مناقشة سبل تنفيذ اتفاق 10 آذار 2025 ومستقبل العلاقات بين الطرفين، كما ناقش الطرفان بشكل خاص مواضيع حساسة مثل اللامركزية الدستورية في كيفية دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري الجديد.
ورغم أنّ أمريكا تسعى جاهدة للتوصّل إلى اتفاق بين الطرفين (حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية)، إلّا أنّ تركيا تمنع حكومة دمشق من قبول اللامركزية؛ وزيارة وزير الخارجية إلى أنقرة تهدف لاطّلاع الأتراك على نتائج اللقاء، ومعرفة الموقف التركي من هذا اللقاء، وعلى أساسه سيحدّد موقف الحكومة المؤقّتة. وفي حال بقيت سوريا مرهونة للإرادة التركية فإنّ البلاد ستتّجه إلى أزمات جديدة وعميقة، وفي حال استمرار تعنّت الحكومة المؤقّتة وإصرارها على المركزية واستمرارها في الخضوع الكلّي لدولة الاحتلال التركي فقد تتّجه البلاد نحو التقسيم.