انتخابات مجلس الشعب اختبارٌ للحكومة الانتقالية في سوريا الجديدة
وليد الشيخ

المقالة تعبر عن رأي الكاتب
مع تسارع التحضيرات لإجراء انتخابات مجلس الشعب في سوريا تحت إشراف الحكومة الانتقالية التي تمّ إعلانها مطلع عام 2025، تُطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة هذه الانتخابات، ومدى قدرتها على تجسيد تحوّل سياسي فعليّ نحو دولة تعدّدية عادلة. في هذا المفصل السياسي الحاسم، لم تعد الانتخابات مجرّد آلية إجرائية لملء المقاعد التشريعية، بل أداة اختبار لصدق التوجّه الإصلاحي، ومدى الاستعداد لتجاوز إرث الدولة المركزية الأحادية التي هيمنت لعقود على الحياة السياسية السورية.
تمثّل الانتخابات اليوم مرآة للمسار الانتقالي ككل، ومختبرًا حيًّا للنوايا السياسية التي ترفع شعار التغيير؛ فهل ستُفتح من خلالها أبواب دولة المواطنة المتساوية والتمثيل الحقيقي، أم أنّ الصناديق ستُستخدم من جديد لتغليف الاستثناء والاستبعاد بمظهر شرعي ديمقراطي؟
تشكّلت الحكومة الانتقالية بفعل توافق إقليمي ودولي جزئي، هدفه وقف النزيف العسكري وإعادة توجيه الأزمة السورية نحو أدوات مدنية ودستورية، وقد تبنّت هذه الحكومة، منذ تأسيسها، خطابًا يؤكّد على وحدة سوريا وتعدّديّتها، كما يؤكّد على احترام المكوّنات وحقوق الإنسان؛ غير أنّ الواقع التنفيذي، حتى الآن، يكشف عن فجوة كبيرة بين النوايا المُعلَنة والبيئة السياسية والمؤسساتية الفعلية، خصوصًا في ظل استمرار انقسام السيطرة الميدانية، وانعدام التوافق الدستوري، وغياب الضمانات الحقوقية للمكوّنات القومية والدينية والسياسية.
وما يزيد المشهد تعقيدًا هو أنّ العملية الدستورية، التي يُفترض أن تشكّل القاعدة الناظمة للانتخابات، لم تُنتج حتى اللحظة ميثاقًا متّفَقًا عليه بين الأطراف المختلفة؛ فلا دستور جديداً تم التوافق عليه، ولا قانون انتخابي حديث يعكس مطالب القوى المجتمعية التي ظلّت لعقود على هامش التمثيل. وحتى الآن، يجري العمل وفق “وثيقة المبادئ العامة للمرحلة الانتقالية” التي لا ترقى لأن تكون مرجعية دستورية مُلزِمة؛ الأمر الذي يترك مساحات واسعة للسلطة التنفيذية للتحكّم في شكل ومضامين العملية الانتخابية.
وفي ظل غياب نصوص صريحة تضمن التعدّدية السياسية والمجتمعية، تبدو العملية الانتخابية وكأنّها تُدار وفق قواعد النظام القديم، ولكن بلغة جديدة؛ فالقانون الانتخابي لم يشهد تعديلات جوهرية حتى الآن، وما زال يعتمد نظام الأغلبية الفردية بدلًا من التمثيل النسبي؛ وهو ما يُقصي فعليًا القوى والمكوّنات الصغيرة. كما أنّ تشكيل الهيئة العليا للانتخابات لم يُراعِ مبدأ الاستقلالية الفعلية؛ إذ تبقى الهيئة خاضعة لتأثيرات السلطة التنفيذية التي يُفترض أن تنفصل عنها.
جغرافيًا؛ لا تزال العملية تعاني من التقطّع، إذ تغيب الضمانات لمشاركة فعلية بسبب نهج الحكومة المركزية، خصوصًا في شمال وشرق البلاد؛ حيث يتم رفض الاعتراف بالإدارة الذاتية الديمقراطية ذات المساحات واسعة. كما أنّ مناطق النفوذ التركي في الشمال الغربي، وكذلك مناطق الجنوب بدرعا والسويداء، تظلّ في موقع سياسي رمادي تجاه العملية الانتخابية؛ وهذا الانقسام يعكس هشاشة السردية الوطنية الجامعة، وغياب عقد اجتماعي جديد يُنظّم العلاقة بين الدولة والمجتمعات.
أمّا البيئة السياسية العامة فلم تشهد انفتاحًا كافيًا لتشجيع مشاركة واسعة؛ فما زال قانون الأحزاب عالقًا في أدراج المماطلة، والحياة السياسية تُدار من خلال تحالفات وشخصيات أقرب إلى الصيغ السابقة، ولم تتوفّر بعدُ المساحات اللازمة لصعود تيارات شبابية ونسوية، أو قوىً تمثّل المهمّشين واللاجئين. كما أنّ المجتمع المدني يعاني من قيود قانونية وأمنية تحدّ من فاعليته.
في ضوء كل هذا؛ يواجه الاستحقاق الانتخابي جملة من التحدّيات البنيوية والسياسية التي تهدّد بتحويله إلى مشهد انتخابي دون مضمون ديمقراطي؛ أولى هذه التحديات هو استمرار مركزية السلطة في مقابل غياب صيغة لامركزية واضحة تعترف بإدارات محلّية قائمة بحكم الواقع والتجربة، مثل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا. وثانيها، يتمثّل في غياب الضمانات الحقوقية والدستورية لتمثيل المكوّنات القومية والدينية، بما يعكس ثقلها السياسي والثقافي والتاريخي، وليس فقط عددها السكاني.
كما تشكّل أزمة الثقة السياسية حاجزًا حقيقيًا أمام أي مشاركة جماهيرية فاعلة؛ إذ لا يزال جزء كبير من السوريين، خاصة من فئات النازحين والمجتمعات المهمَّشة، غير واثق بأنّ صوتهم سيُترجَم إلى تمثيل حقيقي في البرلمان المقبل؛ وهذه الثغرة في الثقة تُضاعفها بنية أمنية لا تزال ناشطة في كثير من المناطق، وهو ما يحدّ من حرية الترشّح، ويُبقي على مناخات الترهيب والتخويف التي تعارض جوهر التحوّل الديمقراطي؛ والمثال الحي على ذلك منطقة السويداء والأحداث الأخيرة.
في موازاة ذلك؛ تبدو المواقف الدولية إزاء الانتخابات حَذِرة وموزّعة، فبينما تسعى دول عربية إلى تعزيز شرعية الدولة من خلال هذه الانتخابات، تُصِرّ فرنسا ودول أوروبية أخرى على ربط أي اعتراف بالعملية الانتخابية بمستوى التغيير الفعلي، خصوصًا فيما يتعلّق بتمثيل المكوّنات وضمان الحريات السياسية. أمّا الولايات المتحدة، فتدفع نحو إشراك القوى المحلّية، بما فيها الإدارة الذاتية، ولكن دون الدخول في تفاصيل دستورية قد تفتح أبوابًا على الاعتراف الضمني بتغييرات سياسية عميقة لا ترغب واشنطن بالخوض فيها علنًا. في حين تُظهر تركيا قلقًا كبيرًا من أي مشاركة كردية تُترجَم سياسيًا، وتسعى إلى تحجيم تلك المشاركة أو منعها بالكامل.
أمام هذه اللوحة المركّبة، يمكن افتراض ثلاثة سيناريوهات رئيسية لنتائج العملية الانتخابية:
السيناريو الشكلي: حيث تجري الانتخابات في نطاق ضيّق وبقواعد قديمة؛ ما يعيد إنتاج سلطة مركزية بوجوه جديدة، دون تمثيل فعليّ للمكوّنات. في هذا السيناريو، تتفاقم الأزمة الوطنية وتُفقد العملية أي صدقية محلّية أو دولية.
السيناريو الانتقالي المحدود: تجري فيه الانتخابات بتعديلات جزئية، ويُتاح لبعض القوى الجديدة الدخول، مع إشراف دولي جزئي؛ ينتج عن ذلك مجلس شعب معدّل الشكل دون الجوهر، يخفّف من الاحتقان، لكنّه لا يقدّم حلولًا جذرية.
سيناريو الإصلاح بضغط دولي: التلويح بسحب الدعم الدولي السياسي والاقتصادي وطلب إجراء إصلاحات حقيقية تحت رقابة دولية؛ هذا السيناريو يفتح الباب أمام كتابة عقد اجتماعي جديد، ويؤسّس لانتقال فعليّ من دولة السيطرة إلى دولة المشاركة.
انطلاقًا من الرؤية التي تركّز على تعزيز التشاركية، وبناء الدولة من القاعدة إلى القمّة، فإنّ أي انتخابات قادمة ينبغي أن تلبّي الحدّ الأدنى من الشروط التالية:
- تعديل قانون الانتخابات جذريًا، بما يضمن التمثيل النسبيّ، ويُلغي الغلبة العددية لصالح العدالة السياسية.
- إشراك فعليّ للمكوّنات القومية والدينية، عبر آليات واضحة، مثل “الكوتا” أو التمثيل الجغرافي المستقل.
- الاعتراف بالإدارات الذاتية كشركاء سياسيين في المرحلة الانتقالية، لا كخصوم أو هامش.
- تأمين رقابة دولية نزيهة، فنّية وحقوقية، على العملية الانتخابية بالكامل.
- توفير بيئة مدنية حرّة للحملات الانتخابية، وحماية المجتمع المدني من التدخّلات السلطوية.
في النهاية، لا تُبنى الدول الجديدة عبر لغة البيانات والخطابات، بل عبر مؤسسات تمثّل شعوبها بعدالة وشفافية. وإذا فشلت الانتخابات، المعلن عنها في 2025، في أن تكون نقطة انطلاق لتعاقد سياسي جديد، فإنّها قد تتحوّل إلى لحظة تفويت تاريخية لإطالة عمر الأزمة دون أن تداويها.