“ملاذكرد” في خطاب أردوغان التاريخ كأداة سياسية ورسائل مشفّرة إلى الكُرد
د. مرشد اليوسف

في الخامس والعشرين من أغسطس، أحيت تركيا الذكرى الـ 954 لمعركة ملاذكرد، تلك المعركة المفصلية التي وقعت عام 1071 بين السلاجقة الأتراك، بقيادة السلطان ألب أرسلان، والإمبراطورية البيزنطية، وأسفرت عن نصر كبير فتح الباب أمام الأتراك للدخول إلى الأناضول وإعادة رسم خريطة المنطقة سياسيًا وديموغرافيًا.
لكن في تركيا المعاصرة، وخصوصًا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، لم يعد التاريخ مناسبة تُستدعى لأغراض التذكير أو الاحتفاء فحسب، وإنّما بات أداة سياسية تُستخدم بعناية لإعادة صياغة الخطاب القومي، وتثبيت مواقف سياسية داخلية وخارجية.
وما كان لافتًا هذا العام هو الرسائل السياسية المشفّرة التي وجّهها أردوغان خلال خطابه الذي ألقاه بهذه المناسبة، لا سيّما إلى الكُرد في روجافا وشمال وشرق سوريا، حيث وصفهم أردوغان بشكل غير مباشر بأنّهم يُقيمون علاقات مع أصدقاء جدد، في إشارة فُهمت على النطاق الواسع بأنّها موجَّهة إلى إسرائيل والقوى الغربية وأمريكا.
والحقيقة أنّ معركة ملاذكرد تحوّلت إلى حجر زاوية في السردية القومية التركية، لا لأنّها مهّدت لسيطرة الأتراك على الأناضول، وإنّما لأنّها حملت رمزًا للتحالف التاريخي بين الأتراك والكُرد ضد العدو البيزنطي. وفي كل مرة تُستدعى هذه الذاكرة، لا يكون ذلك أمراً عفويًا، وإنّما هي محاولة لإحياء فكرة أنّ الأتراك والكُرد شركاء في مشروع تاريخي وجغرافي واحد؛ وبالتالي، فإنّ أي محاولة كردية للانفصال أو التحالف مع أطراف خارجية تُعتبَر خيانة لهذا العهد التاريخي.
ورغم أنّ هذا التوظيف للتاريخ ليس بجديد على أردوغان، إلّا أنّ الملفِت في خطاب هذا العام هو توقيته؛ ففي ظل التوتّرات المتزايدة على الحدود السورية – التركية، واستمرار الدور الأمريكي في دعم قوات سوريا الديمقراطية؛ يأتي هذا التحذير ليعكس قلق أنقرة المتصاعِد من تعاظُم المشروع الكردي في روج آفا، ومن تحوّله إلى كيان لا مركزي، وعبارة “الأصدقاء الجدد” التي استخدمها أردوغان جاءت محمّلة بالدلالات، ورغم أنّه لم يذكر إسرائيل أو الولايات المتحدة صراحة، إلّا أنّه ترك الباب مفتوحًا لفهم مقصده.
وقد فُسّرت هذه العبارة على نطاق واسع كتحذير مباشر للكرد من الانخراط في تحالفات إقليمية قد تُغيّر ميزان القوى على الحدود الجنوبية لتركيا. يبدو أردوغان هنا وكأنّه يقول للكُرد: ” لقد كنتم معنا في ملاذكرد، فلا تخونوا هذا التاريخ “؛ وهو بذلك يُعيد تعريف الهوية الوطنية التركية – ليس فقط باعتبارها تركية – بل باعتبارها تحالفًا عثمانيًا – سلجوقيًا واسعًا يشمل الكُرد، شريطة ألّا ينحرف الكرد عن المشروع القومي التركي.
وفي العمق، لا يهدف هذا الخطاب لإعادة فتح صفحات التاريخ فحسب، وإنّما إلى شرعنة السياسات التركية المعاصرة في سوريا والعراق، بما فيها العمليات العسكرية، وإنشاء مناطق آمنة، ومواجهة التطلّعات الكردية للحكم الذاتي.
ومن خلال استدعاء النصر في ملاذكرد، يُعيد أردوغان تقديم تركيا كقوة وريثة لتاريخ من الفتوحات، ويبرّر في ذات الوقت سياسات ردع وقائية ضدّ كل مَن يحاول تغيير الخريطة الجيوسياسية من جديد، هذه المرة من داخل روجافا أو بدعم من حلفاء دوليين.
كما أنّ الخطاب يحمل رسائل للداخل التركي أيضاً؛ حيث يُستخدم لإعادة تعبئة القاعدة القومية – الإسلامية، وتذكيرها بأنّ الرئيس لا يقود فقط دولة حديثة، وإنّما هو وريث لإرث السلاجقة والعثمانيين.
وفي لحظة سياسية حرجة يعاني فيها الاقتصاد التركي من ضغوطات، وتواجه الحكومة انتقادات داخلية، يُصبح الخطاب التاريخي ملاذًا آمنًا لحشد الدعم، وصرف الأنظار عن التحدّيات اليومية.
أمّا خارجيًا؛ فهو رسالة واضحة إلى واشنطن وتل أبيب بأنّ تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء أي مشروع كردي مدعوم دوليًا، خاصة إذا رأت فيه تهديدًا لحدودها أو وحدة ترابها الوطني.
نريد أن نقول إنّ التاريخ لا يموت، بل يُستعمل، وملاذكرد، في خطاب أردوغان، ليست ذكرى من القرن الحادي عشر، وإنّما هي منصّة أيديولوجية لصياغة الحاضر والمستقبل.
وفي عالم تتداخل فيه الهويات القومية مع التحالفات الإقليمية، يُستخدَم التاريخ كأداة لصياغة الخطوط الحمراء، وبناء شرعيات جديدة.
ولكن المفارقة تبقى موجودة؛ فما كان يوماً ما تحالفًا بين السلاجقة والكُرد، قد يتحوّل اليوم إلى ساحة صراع محتمَل إذا لم تُفهم الرسائل المتبادَلة بدقّة، وكذلك إذا لم تُقرأ النوايا السياسية بعيدًا عن الغطاء الخطابي.
وفي نهاية المطاف، مَن يكتب التاريخ ليس مَن عاشه، وإنّما مَن يُحسِن توظيفه.