هل تلعب السعودية دور الراعي لاتفاق “طائف” سوريّ؟
د. مرشد اليوسف

رغم مرور أكثر من عقد على اندلاع الأزمة السورية، لا تزال البلاد غارقة في دائرة الصراع والانقسام، دون أفق واضح لحل سياسي جامع يُنهي المأساة المستمرة؛ فالسلطة القائمة في دمشق، ومن خلال السياسة التي انتهجتها، لم تتمكّن من استعادة الشرعية الداخلية الكاملة، سواء من حيث الاعتراف الشعبي أو القبول السياسي من جميع المكوّنات المجتمعية السورية، في حين أن ما تسمّى بقوى المعارضة السياسية هي الأخرى فشلت في تقديم بديل موحّد يحظى بثقة الشارع السوري بكلّ أطيافه.
وضمن هذا السياق؛ فإنّ الشرعية الداخلية لأي نظام حكم لا تقوم فقط على السيطرة العسكرية أو الاعتراف الخارجي، بل تتطلّب توافقًا مجتمعيًا بين المكوّنات الرئيسية التي تشكّل النسيج السوري المكوَّن من العرب والكرد والسريان، ومن السُّنّة والعلويون والدروز وغيرهم.
وهذا التوافق يبدو متعذَّرًا في الظروف الحالية ما لم يتم توفير ضمانات من أطراف خارجية موثوقة ووساطة نزيهة قادرة على بناء جسور الثقة المفقودة، دون أن يكون لتلك الأطراف أي دور أو مخطّط يهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي من أجل تحقيق مكاسب تخدم أجندتها في سوريا.
وهنا تبرز المملكة العربية السعودية كطرف مؤهَّل للعب هذا الدور الصعب؛ تمامًا كما فعلت سابقًا في اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وإذا ما دخلنا في العمق فإنّ سوريا ومنذ الاستقلال، لم تُبنَ على أساس عقد اجتماعي حقيقي يضمن شراكة متوازنة بين مختلف مكوّناتها؛ فالدولة المركزية التي نشأت تحت راية الجمهورية العربية السورية همّشت، سياسيًا وثقافيًا، المكوّنات غير العربية، وكرّست حكم الحزب الواحد والزعيم الأوحد؛ وهو ما عمّق الانقسام بدلاً من معالجته.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، ثم تحوّلها إلى حرب أهلية مركّبة الأبعاد، ظهرت كيانات سياسية وعسكرية متباينة، أبرزها الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، والتي تمثّل تطلّعات الكرد وشركائهم من العرب والسريان نحو نموذج جديد من الحكم اللامركزي القائم على التشاركية والديمقراطية المحلّية.
ومع ذلك؛ لا تزال الهوة شاسعة بين هذا المشروع وبين مشروع الحكومة المركزية في دمشق، وذلك نتيجة إصرار الأخيرة على اللون الواحد، والنظام المركزي، والاعتماد على الفصائل الإرهابية في تأسيس الجيش السوري الجديد، هذا عدا عن الفجوة العميقة بين أطراف المعارضة التقليدية التي تمركزت في الخارج وتشرذمت في الداخل؛ وبذلك باتت سوريا بحاجة إلى وسيط موثوق يستطيع جمع هذه القوى المتنافرة على طاولة حوار وطني شامل.
ولكن السؤال هنا: لِمَ السعودية؟
إنّ اختيار المملكة العربية السعودية للقيام بهذا الدور ليس مجرّد افتراض سياسي، بل يستند إلى اعتبارات واقعية تتعلّق بمكانتها الإقليمية والدينية، وعلاقاتها المتوازنة مع مختلف أطراف النزاع السوري، إضافة إلى كونها لم تكن طرفًا مباشرًا في الحرب على الأرض كما فعلت أطراف إقليمية أخرى؛ وهذا يمنحها فرصة الظهور كوسيط محايد أكثر من غيرها.
لقد نجحت الرياض في نهاية ثمانينات القرن الماضي في جمع الفرقاء اللبنانيين حول طاولة الطائف، ورعت اتفاقًا أنهى الحرب الأهلية الطويلة هناك، وفتح الباب أمام صيغة حكم توافقية رغم ما اعتراها من صعوبات لاحقة. وقد يكون من الممكن – وبعد تعديلات تراعي الواقع السوري المختلف – إعادة إنتاج مبادرة مشابهة تحت اسم “الطائف السوري”.
والسعودية اليوم تتحرّك ضمن سياسة خارجية أكثر براغماتية، وتسعى للعب أدوار دبلوماسية أكثر هدوءًا وتأثيرًا، كما ظهر في وساطتها بين الهند وباكستان، وبين أطراف أخرى في المنطقة.
فهل سيكون الملف السوري هو الفصل التالي في هذه السياسة؟
وهل يمكن أن تشكّل رعايتها لحوار سوري جامع فرصةً لإطلاق مسار “طائف سوري” ينقذ البلاد من أزمتها البنيوية؟
وإذا ما تولّت السعودية الرعاية فإنّ الحل الحقيقي للأزمة السورية لا يمكن أن يقوم على منطق الغلبة أو الإقصاء، بل على أساس صياغة عقد اجتماعي جديد يعترف بالتعدّدية القومية والثقافية، ويؤسّس لنظام حكم لا مركزي ديمقراطي تشاركي، يضمن حقوق كل المكوّنات ويعالج المظلومية التاريخية التي لحقت ببعض السوريين، وعلى رأسهم الكرد.
وهذا العقد لن يُكتب إلّا بحوار سوري – سوري حقيقي، وبرعاية جهة خارجية تحظى بقبول الجميع.
وفي ظل تراجع أدوار القوى الغربية، وتصاعد العِداء الإقليمي من بعض الدول تجاه مكوّنات بعينها، تبدو السعودية اليوم خيارًا منطقيًا وموضوعيًا للاضطلاع بهذا الدور الحسّاس.
والفرصة قائمة أمام المملكة العربية السعودية لتلعب دورًا محوريًا في إعادة صياغة مستقبل سوريا، من خلال رعاية حوار وطني شامل يفضي إلى تسوية تاريخية، تُعيد الشرعية إلى الداخل السوري من خلال التوافق لا الفرض، ومن خلال الشراكة لا التبعية.
فهل تبادر الرياض وتلبّي دعوة الجنرال مظلوم عبدي إلى إطلاق هذه المبادرة التاريخية؟
وهل تتجاوب الأطراف السورية – على اختلاف مشاريعها – مع هذا الخيار؟
الإجابة مرهونة بالإرادة السياسية، وبمدى استعداد الجميع للانتقال من مرحلة الصراع إلى مرحلة البناء.