الشمال السوري، أي رهانات تحكم تركيا؟

كما كان من متوقعاً استثمرت الدولة التركية ذريعة تفجير شارع الاستقلال في منطقة التقسيم في اسطنبول للإعلان عن عملية عسكرية بدأت جواً ولا زالت التهديدات التركية تتلاحق بشن اجتياح بري وسط بيانات دولية خجولة تكاد تكون غير جدية، في حين يعيش الشعب في سوريا عموما وشمال شرق سوريا خصوصا مخاوفاً من هذا الاجتياح وما يمكن أن يؤول إليه الوضع فالقسم الكبير منهم مضطر لنزوح جديد ويشتت ما تبقى من العائلة وسط تجاهل الأمم المتحدة لمعاناة النازحين من عفرين وتل أبيض ورأس العين في العمليات السابقة.

عُقدت الجولة التاسعة عشرة من مباحثات استانا على وقع جولة جديدة من الاعتداءات التركية على الأراضي السورية، وفي ذات التوقيت تم إصدار البيان الختامي الذي اعتبر فضفاضا، حيث وقع العديد من الشهداء والجرحى غالبيتهم من المدنيين وتم تدمير منشآت حيوية في شمال وشرق سوريا ، وبررت تركيا تلك الاعتداءات بأنها عملية عسكرية تستهدف الإرهاب.

وفي واقع الأمر يتوجب البحث عن تقديرات مواقف الدول الفاعلة في الأزمة السورية في ظل هذا التصعيد الميداني الجديد، ومستقبل العلاقات السورية التركية في هذا الإطار؟ وإمكانية تطور هذه العملية إلى اجتياح بري في الشمال السوري؟

ازداد خلال الأسبوعين الماضيين حدة الصراع الميداني أو بالأحرى كثافة الاعتداءات التركية التي لم تنقطع سابقا، إنما الجديد في هذه الاعتداءات إنها شملت كامل الحدود الشمالية السورية، واستخدمت تركيا فيها زخماً كبير من القوة العسكرية والأسلحة منها الطائرات الحربية والصواريخ الموجهة والمدفعية وقد لعبت طائرات الاستطلاع دورها بكل حرية في الأجواء السورية، واللافت في ذلك حرية العمل العسكري التركي في عمق الأراضي السورية حيث تتواجد قوات للأطراف (الضامنة) دون أي رد فعل والدليل استهداف مخيم الهول وموقع قريب من مدينة الحسكة على بعد ما يقارب 110 كم عن الحدود السورية التركية وقرية المكمن في ريف دير الزور على بعد 200 كم عن الحدود السورية التركية. هذا ما يوضح مواقف الدول الفاعلة لا التي تندرج في إطار قناعة روسية وتفهم إيراني وصمت امريكي عما يجري من اعتداءات على مكونات المنطقة من قبل النظام التركي. فالستهدافات أوضحت حجم الدمار الذي من الممكن أن تخلفه استمرار العملية جواً أو في حال تطورت إلى اجتياح بري من خلال استهداف المنشآت الحيوية وإلحاق الضرر بالخدمات العامة وتجويع المنطقة وافراغها من مكوناتها في حال استمرار هذه العملية.

الاستعداد للعملية العسكرية وتنفيذها بهذه الصورة جويا على الأقل يؤكد من جديد ذريعة تفجير إسطنبول وتوظيفه لإقناع الداخل التركي واستخدامه كورقة ضغط وحجة لتجاهل أي تنديد دولي بالعملية العسكرية.

وفي مستقبل العلاقات السورية التركية وبعد محاولات التطبيع بين النظامين برعاية روسيه، فإن روسيا تعلم جيدا أن أي عمل عسكري في الشمال السوري يزيد من توتر العلاقات السورية التركية والتي تعاكس الشروط السورية للتطبيع المتمثلة بالانسحاب من الأراضي السورية ووقف دعم الفصائل الإرهابية، ومن خلال التصريحات المتتالية من المسؤولين الاتراك التي تشير نحو الاندفاع للتقارب مع الدولة السورية إلا أن حقيقة الأمر وفي ظل الصمت الرسمي السوري عن ذلك بذريعة واضحة وهي التشكيك بالنوايا التركية وأن هذه التصريحات عبارة عن مناورة سياسية تخدم البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ولكن في ظل الفشل الإداري والسياسي والأمني والاقتصادي في مناطق السيطرة التركية أصبحت تركيا بحاجة لتدارك الموقف مع قرب الانتخابات الرئاسية فأن المناطق التي تقع تحت سيطرة تركيا ومرتزقتها تعيش حالة من الفوضى وانتشار المخدرات وعمليات الخطف والسرقة وتهريب البشر كما هو الحال في إدلب منطقة نفوذ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة )، وفي هذا السياق تتوقف عملية التقارب السوري التركي أيضا على توافق الأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري والمشاركة في ترتيباته ومستوياته، كما أن الوضع الشاذ في مناطق سيطرة تركيا يؤثر على الداخل التركي بشكل كبير.

إن استراتيجية العلاقات الروسية التركية وزخم الملفات بين الطرفين والقواسم المشتركة تفرض بتقبل روسيا لما يحدث باعتبار أن تركيا الباب الوحيد المفتوح لروسيا في ظل حربها على أوكرانيا، ولا يستبعد أبدا غض الطرف الروسي عن ممارسات تركيا خاصة في مناطق النفوذ الروسي في غرب الفرات والتي من الممكن أن تشهد اجتياح بري والذي يسبب ضغطاً على الولايات الأمريكية في سبيل التخلي عن قوات سوريا  الديمقراطية سياسيا وعسكريا وتتشارك معهم للهدف نفسه الدولة السورية متجاهلين الإنجازات الديمقراطية التي حققتها الإدارة الذاتية على كل الأصعدة مقابل ما يجري في المناطق السورية الأخرى الخاضعة لسيطرة المعارضة أو النظام.

الموقف الأمريكي هو موقف ضبابي وغير حازم حيال ما يجري أو ربما تتضح معالمه في حال إعلان اجتياح بري .

الخلاصة، بعد مرور أسبوعين على العملية الجوية كل المؤشرات تدل على أن الاستهدافات المتكررة توضح شيئا من التنسيق التركي من جهة والروسي والأمريكي من جهة أخرى بشكل أو بآخر، ولا يستبعد شن اجتياح بري لزيادة الضغط على قوات سوريا الديمقراطية للقبول بالشروط التي تقدمها روسيا لوقف العملية العسكرية التركية وكل ذلك يدخل في إطار متطلبات الاستحقاق الانتخابي التركي حيث يعمل حزب العدالة والتنمية على تحقيق إنجازات ونجاحات عسكرية قبل حزيران 2023.

زر الذهاب إلى الأعلى