النفوذ التركي في الشمال السوري

تُعَدّ تركيا من أكثر الدول الإقليمية تدخّلاً في شؤون المنطقة بشكل عام، وسوريا بشكل خاص؛ وذلك لما لسوريا من أهمية كبيرة بالنسبة لتركيا، والتي تتعلّق بأطماعها الاستعمارية في المنطقة، حيث استطاعت تركيا قبيل الحرب العالمية الثانية سلخَ لواء إسكندرون عن سوريا بالاتفاق مع فرنسا وقتها، وحالياً تحاول السيطرة على سوريا من خلال مرتزقتها ونفوذها على السلطة الجديدة في دمشق.
فبعد أن فشلت دولة الاحتلال التركي في تنفيذ مخطّطاتها في سوريا، بإسقاط النظام البائد في بدايات الأزمة السورية، والسيطرة على سوريا وتحويلها إلى ولاية عثمانية عن طريق جماعة الإخوان المسلمين؛ وضعت تركيا عينها على الشمال السوري وبدأت بتنفيذ مجموعة من الخطوات تمهيداً لسلخه عن سوريا الأم، بدءًا بالسيطرة على منطقة جرابلس والباب واعزاز إبان دحر تنظيمها الإرهابي (داعش) على يد قوات سوريا الديمقراطية، مروراً باحتلالها لمنطقة عفرين 2018م، ومنطقتي كري سبي وسري كانيه 2019م، ومحاولاتها المتكرّرة للضغط على الولايات المتحدة للانسحاب من شرقي الفرات ومنحها الضوء الأخضر لشنّ عدوان بربريّ ضدّ مناطق الإدارة الذاتية.
وبعد فشلها خلال فترة النظام البائد في تعديل اتفاقية أضنة، وفي محاربة الإدارة الذاتية مقابل التطبيع؛ تجد تركيا الأردوغانية، وبعد سقوط النظام البائد وسيطرة هيئة تحرير الشام على السلطة في دمشق، أنّه بات بإمكانها تنفيذ مخطّطاتها في سوريا؛ لما لتركيا من نفوذ كبير على هيئة تحرير الشام (السلطة الجديدة في دمشق).
الأطماع التركية في سوريا
بعد سيطرة الإسلام السياسي على السلطة في تركيا (حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان)، وتكليفها بمهامّ ضمن مشروع “الشرق الأوسط الكبير” من قبل النظام العالمي، ومن شروطها تحويل تركيا من دولة عَلمانية إلى دولة إسلامية، حتى ظهرت أطماع أردوغان وأحلامه في إعادة أمجاد الدولة العثمانية، واستغلال أزمات الشرق الأوسط، ومنها السيطرة على سوريا عن طريق جماعة الإخوان، إلّا أنّ هذه الأحلام تقلّصت لتنحصر في الشمال السوري نتيجة تغيّر الأوضاع السياسية والعسكرية بعد التدخّل الروسي المباشر في سوريا عام 2015م، ونتيجة توافقات دولية (منح أردوغان حصة مقابل خدماته) تمكّن من احتلال منطقة عفرين، ثم منطقتي كري سبي وسري كانيه، ويحاول الآن شنّ عدوان جديد ضدّ مناطق الإدارة الذاتية بحجج لا تمت لتركيا بأيّة صلة (مزاعم أمنها القومي، عدم تقسيم سوريا، الفكر الانفصالي، عدم اندماج قسد ضمن الجيش السوري الجديد)، لتوسيع مناطق نفوذها في سوريا وترسيخ وجودها في الشمال السوري، لاستكمال المشروع العثماني (الميثاق الملّي الذي يهدف لاحتلال كامل الشمال السوري).
فوفقاً لمنظورها العثماني التوسّعي؛ تركيا لديها أطماع في الشمال السوري، وتربط تلك الأطماع بالميثاق الملّي، وتزعم أنّ هذه المنطقة مع جنوب كردستان (شمال العراق بما فيها الموصل وكركوك) كانت جزءاً من الدولة العثمانية، ومن خلال الدولة التركية الحديثة، تحاول بشتى الوسائل السيطرة على ما تبقى من هذه المنطقة (مناطق الإدارة الذاتية)، إلّا أنّها حتى الآن لم تتمكّن من الحصول على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة.
باستثناء مناطق الإدارة الذاتية التي تحاول إعادة بناء سوريا موحّدة على أسس ديمقراطية، فإنّ سوريا مقسّمة بين هيئة تحرير الشام (السلطة الجديدة في سوريا) وبين مرتزقة تركيا في الشمال السوري المحتل؛ فلا سلطة فعليّة لدمشق على الشمال السوري، ولا على إدلب (معقل هيئة تحرير الشام سابقاً)، فمرتزقة تركيا (العمشات والحمزات وأحرار الشرقية والجبهة الشامية وما تبقى من فصائل ما كان يسمّى بالجيش الوطني) لا يخضعون لأوامر الرئيس المؤقّت أحمد الشرع ولا لوزارة الدفاع السورية، وإن انضمّ أغلب هؤلاء المرتزقة إلى الجيش السوري الجديد، فإنّ هذا الانضمام ما هو إلى شكليّ، وهؤلاء يأتمرون بالأوامر التركية حصراً. فعلياً، وبحسب الخريطة العسكرية والسيطرة لمناطق سيطرة الحكومة الانتقالية، فإنّ تلك المناطق مقسّمة إلى قسمَين: الشمال السوري المحتل (محافظتا حلب، إدلب، ومنطقتَي كري سبي وسري كانيه)، وهي بيد مرتزقة تركيا (تركيا فعلياً، حيث أقامت قواعد ونقاطاً عسكرية فيها). ما تبقى من المناطق، باستثناء السويداء، بيد سلطة دمشق. ونظراً للتدخّلات الإقليمية في الشأن السوري؛ يحاول أحمد الشرع اتباع سياسة براغماتية تجاه الدول الإقليمية والدولية للحفاظ على سلطته، إلّا أنّ الضغوط الدولية الكبيرة (الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل) لا تسمح له باتباع هذه السياسة إلّا في حدود معيّنة. النفوذ التركي على النظام السوري الجديد، وتضارب أجندة تركيا مع الأجندة الغربية؛ يؤدّي إلى عدم قدرة النظام الجديد على اتّخاذ أيّة قرارات وطنية أو قرارات لصالح أيّة جهة نتيجة لهذه الضغوط. ولدى المقارنة بين تلك الضغوط تبدو كفّة الضغوط الغربية أرجح من كفة الضغوط التركية؛ وذلك لأسباب مرتبطة بالعقوبات الغربية أو بالحصول على الشرعية أو بمَن جيء به إلى دمشق. وعليه؛ فإنّ الخلافات بين أنقرة ودمشق قد تبرز في حال كانت المصالح التركية في سوريا مهدّدة بالانحسار.
السياسة التركية في سوريا
تتبع تركيا سياسة ازدواجية المعايير في سوريا؛ فمن جهة تطالب إسرائيل بعدم التدخّل في الشأن السوري، وتطالبها كذلك بالانسحاب من المناطق التي احتلّتها في الجنوب، ومن جهة أخرى تتدخّل هي في الشأن السوري، وتمنع سلطة دمشق من بسط سيطرتها على الشمال السوري، وتطالب بدمج قوات سوريا الديمقراطية بالجيش السوري كأفراد لا ككتلة عسكرية، لإفراغ المنطقة من قوتها العسكرية ومن ثم السيطرة عليها، وتطالب بإنهاء الإدارة الذاتية لما تحمله من مشروع ديمقراطي في سوريا، وتطالب كذلك بتعديل اتفاقية أضنة وفق أطماعها، وبتوسيع نطاقها من 5كم إلى 35كم؛ من أجل الحصول على شرعية تدخّلها في الشمال السوري قبل حدوث أي تغييرات سياسية غير متوقّعة في سوريا.
كما تعمل تركيا على عرقلة المفاوضات ومنع الوصول إلى أي اتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية ودمشق؛ فزيارة الجنرال مظلوم عبدي إلى دمشق وبرعاية أمريكية لرأب الصدع ولمنع التدخّلات التركية في الشأن السوري وإعادة بناء الجيش السوري؛ لم تسفر عن اتفاق صريح ومكتوب على غرار اتفاقية 10 آذار، وإنّما أسفر عن اتفاق شفهي، ويمكن اعتبار هذا الأمر، منفذاً قامت به سلطة دمشق للتهرب من الأمور التي جرى الاتفاق عليها من جهة، وخشية سلطة دمشق من إغضاب الدولة التركية من جهة أخرى. فزيارة وزير الخارجية الشيباني لأنقرة مباشرة بعد الاجتماع ما هي إلّا لوضع تركيا في صورة المحادثات التي جرت في دمشق برعاية أمريكية، ولمعرفة الإجراءات والأوامر التي يجب عليهم تنفيذها حيال قوات سوريا الديمقراطية والاتفاق الشفوي.
الشمال السوري المحتل
تُعَدّ مناطق الشمال السوري المحتل، والخاضعة لسيطرة مرتزقة تركيا (الريف الشمالي لحلب جرابلس والباب واعزاز ومنطقة عفرين ومنطقتا كري سبي وسري كانيه)، مستقلّة فعلياً عن سلطة دمشق، وتدير مناطقها بمعزل عن دمشق رغم محاولات النظام السوري الجديد فرض سيطرته على المنطقة. إلّا أنّ جميع محاولاته باءت بالفشل نتيجة الضغوط التركية بمنع عودة سلطة دمشق إلى تلك المناطق. وتخضع تلك المنطقة لسيطرة مجموعة من الفصائل المدعومة من تركيا (المرتزقة)، وأهمها الحمزات والعمشات وأحرار الشرقية والجبهة الشامية والسلطان مراد، ومنهم مَن انضمّ إلى الجيش السوري الجديد شكلياً، وهؤلاء لا سلطة للشرع عليهم كونهم يأتمرون بأوامر تركية، ومن خلال هؤلاء (وكلاء تركيا) تحافظ تركيا على نفوذها في الشمال السوري المحتل.
هذه المنطقة أمام سيناريوهَين متضاربَين (تركي – إسرائيلي)
تمكين النفوذ التركي في الشمال
تقوم السياسة التركية الحالية على تثبيت وجودها في الشمال السوري المحتل؛ فهذه المنطقة في نظرها باتت منطقة نفوذ تركية خالصة؛ نتيجة تجاهل المجتمع الدولي للتغييرات الديمغرافية التي تجريها تركيا، وكذلك نتيجة وجود النقاط والقواعد العسكرية التركية التي يتم إنشاؤها على الأراضي السورية، وتسير حالياً بخطىً ثابتة لسلخ الشمال السوري المحتل عن دمشق، من خلال: الاستمرار في سياسة التغيير الديمغرافي في المنطقة، ومنع عودة مهجّري عفرين إلى مناطقهم، حتى وإن كان هناك توافق شفويّ بين الجنرال مظلوم عبدي وأحمد الشرع حول عودة المهجّرين إلى مناطقهم، ودعم مرتزقتها ودفعهم للتمدّد من خلال انضمامهم إلى الجيش السوري الجديد، حيث تم تعيين المرتزق أبو عمشة قائداً للفرقة 25 في حماة، والمرتزق أبو حاتم شقرا قائداً للفرقة 86 في المنطقة الشرقية؛ هذه التعيينات من قبل وزارة الدفاع السورية الجديدة تثير الشكوك، فهؤلاء لديهم تاريخ أسود بارتكابهم انتهاكات وجرائم ضد حقوق الإنسان، ولديهم علاقات بتنظيم داعش، وهم مدرجون على لوائح العقوبات الأمريكية، إلّا أنّ هذه التعيينات قد تكون بضغوط تركيا لمدّ نفوذها في سوريا، وهو ما قد يؤدّي إلى حدوث تصادم مع إسرائيل التي ما إن أنهت النفوذ الإيراني في سوريا حتى وجدت نفسها أمام النفوذ التركي المتزايد في سوريا، وتُعِدُّ تركيا خطراً لا يقلّ عن خطر النفوذ الإيراني، خاصة أنّ لتركيا تاريخاً حافلاً من العلاقات التي تربطها بالتنظيمات الإرهابية (الإخوان المسلمين وتنظيم داعش والتنظيمات الجهادية من الشيشان والأيغور والتركستاني ومع القاعدة إلى جانب وكلائها من المرتزقة)؛ حيث عملت إسرائيل على وقف النفوذ التركي في العمق السوري، من خلال استهداف قواعد عسكرية في منطقة تدمر كانت تركيا تطمع في تحويلها إلى قواعد تركية بعد زيارة مستشارِين عسكريِّين أتراك لتلك القواعد.
بعد خسارتها أمام إسرائيل في العمق السوري؛ بدأت تركيا تزيد من ضغطها وتخرق اتفاق وقف إطلاق النار بين قوات سوريا الديمقراطية ودمشق عبر مرتزقتها، وتبعث برسائل تهديد لمناطق الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، أملاً منها بمد نفوذها في شرقي الفرات والسيطرة على مكامن النفط، خصوصاً في دير الزور عبر مرتزقتها (أحرار الشرقية) أو الفرقة 86 التي يترأّسها المرتزق أبو حاتم شقرا في حال شنّ عملية عدوانية ضدّ مناطق الإدارة الذاتية. فتركيا تعمل على سلخ الشمال السوري المحتل بشكل غير مباشر، سواء من خلال منع عودة السيادة السورية الفعلية على المنطقة، بما فيها إدلب، وذلك من خلال دعم فصائل مرتزقتها التي تشكّل العمود الفقري لسياستها القائمة على التغيير الديمغرافي وإقامة نقاط وقواعد عسكرية لها، لضمان سيطرتها العسكرية على المنطقة، إلى جانب منع تغيير شكل نظام الحكم في سوريا ( نظام مركزي) والذي يخدم سياستها في سوريا، ويخدم كذلك محاولاتها إنهاء الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، عن طريق شنّ عملية بربرية على غرار عفرين وكري سبي وسري كانيه، تمهيداً لضمّها للمناطق المحتلة.
لذا؛ فإنّ تركيا، وبعد خسارتها للعمق السوري أمام إسرائيل، تعمل على الحفاظ على مناطق نفوذها في الشمال السوري المحتل، كما تعمل على توسيعها لتشمل مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية باعتبارها لا توجد حماية إسرائيلية عليها كالسويداء، وتعتقد أنّها يمكنها التفاهم مع الولايات المتحدة ومنحها الضوء الأخضر لاجتياح المنطقة عسكرياً. لكن رغم كونها حليفة للولايات المتحدة وإسرائيل والغرب تبقى تركيا دولة لا يمكن الوثوق بها، فخروجها من الخط المرسوم لها يشكّل تهديداً للمصالح واستراتيجيات هذه الدول في المنطقة.
إنهاء النفوذ التركي
تُعَدُّ الفصائل المسلّحة، بمختلف أشكالها وأنواعها، تهديداً بعيد المدى سواء للولايات المتحدة أو لروسيا أو للصين أو لإسرائيل أو حتى لبعض الدول العربية، ولا يمكن لها الوثوق بها طالما أنّها وكلاء لتركيا في سوريا، وتدعم النفوذ التركي، ولما تحمله من فكر. ولكون النظام السوري الجديد يسعى للحصول على الشرعية الدولية، وتمكين نفسه في السلطة، والسيطرة على كامل الجغرافية السورية؛ فقد يحاول إضعاف نفوذ هذه الفصائل (المرتزقة) وبدعم غربي روسي إسرائيلي وحتى داخليّ.
أحمد الشرع، الرئيس المؤقّت لسوريا، يحاول بشتّى الطرق تثبيت حكمه في الوقت الحالي ورفع اسمه من قائمة العقوبات الأممية، حيث تتّخذ الصين وروسيا موقفاً معارضاً لشطب أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) من قائمة العقوبات الأممية، بسبب المقاتلين الأجانب (الأيغور والشيشانيين والأوزبك وغيرهم من التنظيمات الجهادية ذات الصلة بهم). ونتيجة لخضوع أحمد الشرع وهيئة تحرير الشام (الحكومة المؤقّتة) للنفوذ التركي، فإنّ القرارات التي يتم اتخاذها بضغوط خارجية تنعكس سلباً على حكمه؛ فلا يمكنه السيطرة على الجيش السوري الجديد الذي شكّله، حيث تم تأسيسه وفق هيكلية ضعيفة وبضغوط إقليمية، ويضمّ في صفوفه فصائل (مرتزقة وجهاديين وأجانب) ذات أجندة خارجية، أو حتى فصائل غير منضبطة لا يمكن السيطرة عليها؛ ممّا يشكّل تهديداً لسلطة الشرع في سوريا في حال حدوث أي متغيّرات على الملف السوري، ونتيجة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية لتحقيق الاستقرار في سوريا تتضارب مع الضغوط التركية لشنّ عملية عسكرية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية، ونتيجة لاختلاف موازين القوى بين الولايات المتحدة، ومعها الغرب وإسرائيل، وبين تركيا تجعل من كفّة الضغوط الغربية أقوى من الضغوط التركية، وبالتالي تحدث خلافات بين تركيا وسلطة دمشق، ورغم اتباع الشرع سياسة براغماتية في الوقت الحالي تجاه الدول المعنية بالملف السوري، إلّا أنّ ذلك يُضعف حكمه.
هناك صراع خفيّ بين القوى الإقليمية والدولية (تركيا وإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية) على الساحة السورية، وتُعَدّ تركيا – رغم سيطرتها على الشمال السوري المحتل – الحلقة الأضعف بين هذه الدول لاعتبارات داخلية وخارجية؛ فإسرائيل قد نجحت حتى الآن في منع التوغّل التركي في العمق السوري، كما أنّ الوجود العسكري الروسي في الساحل يحدّ من التوغّل التركي، كما أنّ الولايات المتحدة ترفض منح الضوء الأخضر لتركيا للقيام بعدوان عسكري ضدّ مناطق الإدارة الذاتية، ومرتزقتها مدرجون على لوائح العقوبات الأمريكية، وهؤلاء يشكّلون خطراً مستقبلياً على النظام السوري الجديد كونهم خارج سيطرة النظام، ونظراً للتغيّرات الجارية في منطقة الشرق الأوسط (مشروع الشرق الأوسط الكبير)، والدور الإسرائيلي البارز الذي يهدف لإنهاء أي دولة مركزية تهدّد أطماعها في المنطقة. وكون تركيا تشكّل تهديداً لإسرائيل في سوريا والغرب بما فيها روسيا، ولرغبة النظام الجديد في بسط سيطرته على الشمال السوري المحتل، وإعادة ضبط الأوضاع الأمنية والعسكرية والاقتصادية فيها؛ فإنّ هذا النظام يفتقر إلى قوة عسكرية منضبطة يمكن الاعتماد عليها بدحر التنظيمات الخارجة عن سلطته، وإعادة توحيد سوريا تحت سلطته.
وفي حال سارت المفاوضات بشكل إيجابي بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري الجديد – فإنّه ليس من المستبعَد إعادة هيكلة الجيش السوري ووضع نواة للجيش السوري وبما يخدم المصالح الوطنية السورية، والاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية، والتي تضمّ في صفوفها مجالس عسكرية من أغلب المناطق السورية، في محاربة الإرهاب وتطهير الشمال السوري المحتل من وكلاء تركيا (المرتزقة) وإعادة المنطقة للحاضنة السورية، كما أنّ الضغوط الغربية على الشرع لضمان حقوق المكوّنات (الأقلّيات)، ومحاربة الإرهاب، وتحقيق الديمقراطية في سوريا؛ تضعف من النفوذ التركي في سوريا.
ويبقى النفوذ التركي مرهوناً بمدى استقلالية القرار السياسي والعسكري في دمشق، وهو ما قد يؤثّر على السيادة السورية، فمن أهم أسباب سقوط نظام الأسد البائد هو عدم قدرته الخروج من تحت العباءة الإيرانية التي كانت تتحكّم بجميع مفاصل الدولة، نتيجة لنفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي الكبير في سوريا، وهو أمر قد ينطبق على السلطة الجديدة في دمشق من ناحية النفوذ التركي المتزايد. فالشرع يحاول إيجاد توازن بين الدول المنخرطة في الأزمة السورية دون المساس بالخطوط الحمراء لهذه الدول، وهو أمر قد يكون من الصعب السير فيه نتيجة تضارب مشاريع هذه الدول في سوريا وإن كانت دول حليفة (تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة) إلى جانب الوجود الروسي، بالإضافة إلى التدهور الاقتصادي في سوريا.
إلّا أنّ عملية السلام التي أطلقها المفكّر عبد الله أوجلان من سجنه في إيمرالي في تركيا ستؤثّر على السياسة التركية الخارجية ومشاريعها الاستعمارية في المنطقة، من ناحية التحوّل الديمقراطي في تركيا، وتأثيرها على محيطها الإقليمي بشكل إيجابي؛ والتي ستكون المحطة الرئيسية نحو تخفيف وإنهاء أزمات الشرق الأوسط. فالسياسة التي ستنتهجها تركيا تجاه مبادرة السلام بعد قيام حزب العمال الكردستاني بخطوات كبيرة، وآخرها سحب مقاتليه من الداخل التركي، هي التي ستحدّد مصير الدولة التركية كقوة إقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وكحلّ مستدام أمام التغييرات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط (مشروع الشرق الأوسط الكبير)؛ لما لها من تداعيات إيجابية في الداخل التركي، وتجاه الملف السوري، ومصالحها في سوريا بشكل خاص وفي المنطقة بشكل عام. وإلّا فإنّ رياح التغيير ستطال تركيا، وستدخل في دوامة من الحروب الأهلية والأزمات الاقتصادية التي ستؤثّر على مكانتها الإقليمية لصالح دول إقليمية ودولية.



