زيارة الشرع إلى واشنطن
عباس شيخموس

تُعَدّ هذه الزيارة الثانية للشرع إلى الولايات المتحدة بعد مشاركته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والأولى إلى واشنطن للقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد قيام الأخير برفع أحمد الشرع من قائمة الإرهاب أثناء زيارته للمملكة العربية السعودية ومقابلة أحمد الشرع بوساطة سعودية. إلّا أنّ هذه الزيارة تحمل معها الكثير من التكهّنات السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ منها مكافحة الإرهاب، وحماية الأقلّيات، ورفع العقوبات، وإعادة إعمار سوريا، والاتفاق الأمني مع إسرائيل. ومن المتوقّع قيام أحمد الشرع بزيارة إلى أنقرة بعد الانتهاء من زيارته إلى واشنطن، وهو أمر أصبح اعتيادياً لدى السلطة الجديدة لإطلاع أنقرة على ما جرى في واشنطن والخطوات التي يجب عليه القيام بها.
يحاول أحمد الشرع إظهار نفسه كرئيس منفتح على الغرب، وأنّه ليس كما كان سابقاً زعيماً لتيار سلفي جهادي، ويمكن الاعتماد عليه في سوريا، وتحويل سوريا من دولة حليفة لروسيا إلى دولة حليفة للغرب، هذا إلى جانب إنهاء بعض الملفات وعقد اتفاقيات بما يضمن أمن إسرائيل ومصالحها في سوريا، وبالأخص في الجنوب، والمصالح الأمريكية الاقتصادية منها والاستراتيجية في سوريا (محاربة الإرهاب ومنع عودة النفوذ الإيراني إلى سوريا وغيرها من المصالح التي يمكن ربطها بحزب الله اللبناني… وبدعم غربي)، وتقييد حركة القواعد الروسية (قاعدة حميميم الجوية وطرطوس البحرية). الشرع يعمل على تغيير ثوبه لتمكين نفسه كرئيس لسوريا في المرحلة ما بعد الانتقالية، ويسعى لتثبيت أركان حكمه في سوريا بدعم من الغرب متجاهلاً نداءات المكوّنات السورية والتصالح مع الداخل.
أهم الملفات التي سيتم الاتفاق عليها
تمتلك سوريا عدة ملفات لا بدّ من إنهائها، لما تحملها من أهمية كبيرة تؤثّر على الوضع الداخلي السوري (كإعادة ترميم البيت السوري وفق منظور الهيئة)، وتؤثّر وعلى الوضع الإقليمي، وهذه الزيارة تأتي لوضع النقاط على الحروف والتوقيع عليها (الإملاءات الأمريكية) وليس لمناقشة تلك الملفات مع الرئيس الأمريكي. ومن هذه الملفات:
- ملف الاتفاق الأمني: وهو ملف مرتبط بالتطبيع السوري الإسرائيلي؛ فبعد سقوط الأسد بدأت المفاوضات بين السلطة الجديدة وإسرائيل تخطو خطوات سريعة، وكان من المفترض التوقيع على الاتفاق الأمني مع إسرائيل، إلّا أنّ المطالب الإسرائيلية الجديدة والمرتبطة بملف السويداء حالت دون الوصول إلى اتفاق نهائي. لكن يبدو أنّ أحمد الشرع، ولثبيت سلطته في دمشق، بحاجة إلى عقد هذا الاتفاق، ولكي لا يظهر بمظهر الرئيس الذي تنازل عن الجولان والمناطق التي سيطر عليها الجيش الإسرائيلي بعد سقوط الأسد، فقد يتم تعديل اتفاق فضّ الاشتباك 1974 والذي قد يتم الاتفاق على وجود رمزي للجيش السوري إلى جانب الجيش الإسرائيلي بالإضافة إلى الأمريكي في النقاط الاستراتيجية التي سيطرت عليها إسرائيل، كمرصد جبل الشيخ وبعض النقاط الأخرى، وجعل منطقة الجنوب منزوعة السلاح؛ فإسرائيل لن تتنازل عن المناطق التي سيطرت عليها، ووجود شكليّ للجيش السوري لا يغيّر من المعادلة شيئاً طالما أنّ هناك عسكري إسرائيلي في تلك المناطق. كما أنّ هذا الاتفاق يُعَدّ خطوة تمهيدية للتطبيع الكامل مع إسرائيل.
- ملف الإرهاب وانضمام سوريا للتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب: يُعَدّ هذا الملف من الملفات المعقّدة بالنسبة للسلطة الجديدة في دمشق؛ كون هذه السلطة لها خلفية سابقة (جبهة النصرة – جبهة فتح الشام – هيئة تحرير الشام) مع تنظيم القاعدة والتي كانت فرع من تنظيم القاعدة، ومن ثم الانشقاق عن تنظيم داعش، كما أنّ الكثير من مقاتلي هيئة تحرير الشام، وبالأخص المقاتلين الأجانب، يحملون الفكر الجهادي ويرفضون أي اتفاق مع الولايات المتحدة ولهم ولاءات إقليمية. لذا؛ فإنّ ملف محاربة الإرهاب وانضمام سوريا للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش سيخلق نوعاً من الخلافات والانشقاقات ضمن صفوف هيئة تحرير الشام؛ فروسيا لديها ملف مقاتلي الشيشان، والصين لديها ملف الأيغور وحزب الإسلامي التركستاني، وتركيا لديها مرتزقتها ممن لا سلطة دمشق عليهم، والولايات المتحدة ملف المقاتلين الأجانب وعناصر تنظيم داعش، فهؤلاء يشكلون قوة هيئة تحرير الشام، وبنفس الوقت يشكّلون نقطة ضعف للسلطة الجديدة من أجل تثبيت حكمها في سوريا، إلّا أنّ هذا الأمر (محاربة هؤلاء) لابدّ منه حتى تستطيع السلطة الجديدة كسب الشرعية الأممية ورفعها من قائمة العقوبات، ولتثبيت أركان حكمها في دمشق. فقد يُعَدّ انضمام سوريا إلى التحالف الدولي انقلاباً عسكرياً على الهيئة ولكل مَن يقوّض سلطة أحمد الشرع وكل مَن له تأثير على شرعيته الدولية.
لذا؛ فإنّ هذا الملف يحمل معه كثيراً من التكهّنات، ولا يمكن التنبّؤ بما سيحدث مستقبلاً، خاصة بين دول الحلفاء (الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا)؛ فهل يمكن لتجنّب أي خلاف على المصالح في سوريا، أن تظهر مرة أخرى سياسة المقايضة (التنازلات) بما يخدم أجندتها في سوريا، كالسماح لتركيا (الدولة الرعاية للإرهاب) إنشاء قواعد عسكرية في العمق السوري مقابل التخلّي عن مرتزقتها والفصائل الإرهابية، وبالأخص المقاتلين الأجانب، أو إشراكهم (بتنسيق أمريكي إسرائيلي تركي سوري) في عمليات عسكرية ضد حزب الله اللبناني الذي يرفض حتى الآن تسليم سلاحه للدولة اللبنانية؟
- ملف حماية المكوّنات السورية (الأقلّيات): ارتكب النظام السوري الجديد خطأ جسيماً، أثّر على الوضع الداخلي السوري، حيث ارتكب المجازر بحق المكوّن العلوي والدرزي، وكان بإمكانه تجنّب هذه المجازر والعمل على إعادة وحدة النسيج السوري، إلّا أنّ الفكر الذي يحمله هذا النظام، وضعف سيطرته على الفصائل المسلّحة (مرتزقة تركيا)، وارتباط هؤلاء بالأجندة التركية التي ترغب بإضعاف المكوّن العلوي في سوريا لما له تأثير على العلويين في تركيا؛ كل هذه العوامل أثّرت بشكل سلبي على مصداقية النظام، كما أنّ المجازر بحق المكوّن الدرزي قد أنهت هذه المصداقية الدولية تجاه النظام السوري الجديد في حماية المكوّنات السورية، وبدأ المجتمع الدولي يطالب بحماية حقوق المكوّنات السورية، والمطالبة – بشكل غير مباشر – بنظام فيدرالي يحمي حقوق هذه المكوّنات. لذا؛ فإنّ الشرع لا يملك أي أوراق تمكّنه من الحفاظ على النظام المركزي بعد هذه المجازر، وبالتالي قبوله بالسير بسوريا نحو نظام لا مركزي أو حتى فيدرالي، لذا؛ من المفترض قبول المطالب الأمريكية المتعلّقة بحماية وصون حقوق المكوّنات السورية.
- الملف الاقتصادي: تشهد سوريا تدهوراً اقتصادياً كبيراً، ولا تملك السلطة الجديدة أي رؤىً تمكّنها من تحسين الوضع الاقتصادي، إلى جانب الوضع الأمني الذي يؤثّر سلباً على الوضع الاقتصادي، بالإضافة إلى العقوبات المفروضة على سوريا، ويعتمد النظام الجديد بشكل كبير على المساعدات العربية الخليجية، إلّا أنّ هذا الملف وإعادة إعمار سوريا مرتبط بالملفّات السابقة وبالانفتاح الأمريكي على سوريا، لذا فإنّ رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا بعد موافقة الكونغرس الأمريكي قد يحسّن الوضع الاقتصادي، ويشكّل بداية دخول الشركات الأمريكية والغربية، ومنها تفعيل أنابيب النفط كركوك – بانياس، إلى جانب مشاريع متعلّقة بالغاز وإعادة الإعمار. تحاول تركيا الاستفادة من هذا الملف لزيادة نفوذها الاقتصادي في سوريا، إلّا أنّ قدرتها الاقتصادية لا تسمح لها بمدّ نفوذها، لذا فإنّها بحاجة إلى تمويل خارجي، وذلك عن طريق إطلاق برنامج دعم مخصّص لسوريا تحت إشراف اللجنة الدائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي “كومسيك”.
تداعيات هذه الزيارة على سوريا ومحيطها الإقليمي
تأتي هذه الزيارة لقبول الإملاءات الأمريكية، بما فيها الإسرائيلية، والتي قد يتمكّن الشرع من خلالها من تثبيت أركان سلطته وإطالة أمد رئاسته في سوريا بعد المرحلة الانتقالية، إلّا أنّ ما قد يوافق عليه الشرع في واشنطن قد يؤدّي إلى موجات ارتدادية في الداخل السوري وداعميه الإقليميين (تركيا)؛ ما قد يؤدّي إلى حدوث خلافات بين فصائله العسكرية المؤيّدة للشرع والمؤيّدة لتركيا والفصائل الجهادية التي ترفض أو تكفّر أي اتفاق مع الولايات المتحدة، وبما أنّ الشرع لا يمتلك القوة العسكرية لمواجهة هذه التحدّيات؛ فقد يطالب بدعم وحماية غربية له ولنظامه من أي انقلاب عسكري أو حتى استهدافه.
بعض التداعيات هذه الزيارة على سوريا ومحيطها الإقليمي:
- إنّ الاتفاق الأمني مع إسرائيل سيكون بداية لمرحلة التطبيع الكامل معها، وستوقّع على الاتفاق الإبراهيمي، وبذلك تكون سوريا قد خرجت بشكل فعليّ من محور المقاومة، ولن يبقى سوى لبنان والعراق في هذا المحور، وستلحق بالمركب السوري بعد الانتهاء من الأذرع الإيرانية في لبنان والعراق. وجعل منطقة الجنوب منزوعة السلاح، ولإسرائيل حرية الحركة فيها بالتنسيق مع دمشق والولايات المتحدة، وهو ما يعني منح السويداء (جبل الباشان) نقاط قوة نحو تحقيق إدارة ذاتية كاملة. بهذا الاتفاق مع ضمان حماية الدروز وإنشاء إدارة ذاتية لهم في السويداء ستكون سوريا قد بدأت بمرحلة جديدة في تاريخها الحديث نحو نظام لا مركزي.
- إنهاء ملف الفصائل المسلحة الخارجة عن سلطة دمشق والفصائل الجهادية بعد انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، ودخول سوريا إلى هذا التحالف يتطلّب منها التنسيق الكامل مع قوات سوريا الديمقراطية (القوة البرّية الوحيدة للتحالف الدولي) وهو ما يعني اندماج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري الجديد ككتلة عسكرية، بالتالي قد تكون قوات سوريا الديمقراطية نواة للجيش السوري الجديد بما يخصّ مكافحة الإرهاب في سوريا.
- إنهاء ملف مرتزقة تركيا بعد انتهاء دورها، وليس من المستبعَد حدوث صراع سُنّي – شيعي في المنطقة لإنهاء حزب الله في لبنان أولاً ومن ثم الميليشيات الإيرانية في العراق؛ وما يؤيّد ذلك هو تأكيد وزير الدفاع العراقي، ثابت العباسي، أنّ وزير الحرب الأمريكي قد أبلغه بوجود عمليات عسكرية مرتقبة في المنطقة، وطلب منه ضمان عدم تدخّل الفصائل العراقية، ملوّحاً بردّ أمريكي واضح إذا ما حدث تدخّل، وأوضح العباسي أنّ الأمريكيين أكّدوا أنّ العمليات ستكون في الجانب السوري، وأنّهم تلقّوا هذا التحذير قبل عشرة أيام. هذه الفصائل رغم وجودها على لوائح العقوبات الأمريكية، إلّا أنّ الولايات المتحدة لم تقم بأي عمليات عسكرية ضدّها؛ وهو ما قد يشير إلى حاجة النظام إلى هذه الفصائل في المرحلة المقبلة.
- إنّ خسارة تركيا لمرتزقتها، كون هذه الفصائل على لوائح العقوبات الأمريكية، حتى وإن نجحت تركيا بإقامة قواعد عسكرية جديدة لها، فقد تخسر نفوذها العسكري مستقبلاً؛ فالقواعد العسكرية التركية لن تخدم تركيا بقدر ما ستخدم الغرب في حال حدوث أي صراع جديد بين إسرائيل وإيران؛ وبالتالي فهذه القواعد – عاجلاً أو آجلاً- ستنتهي بانتهاء دور تركيا في مشروع الشرق الأوسط الكبير. فروسيا التي تُعَدّ دولة عظمى قد خسرت نفوذها وقواعدها في سوريا، وإذا أراد الغرب إنهاءها فستنتهي وتصبح بلا فائدة، فكيف بدولة مثل تركيا؟! فهؤلاء المرتزقة سيشكّلون خطراً على الولايات المتحدة وإسرائيل، وسينتهي ملفّهم عند انتهاء دورهم؛ كونهم يخضعون بشكل مطلق لتركيا، وهناك تنافس وصراع خفيّ بين إسرائيل وتركيا لا يمكن إغفاله، وقد ظهرت بعض بوادر هذا التنافس والصراع في سوريا بعد سقوط النظام البائد، والدور الإسرائيلي الجديد في منطقة الشرق الأوسط.
- تركيا تعارض بشكل مطلق منح المكوّنات السورية حقوقهم الدستورية والسير بسوريا نحو نظام لا مركزي؛ لما له تأثير كبير على القومية الكردية في سوريا (حسب زعمها)، وهي تحارب الإدارة الذاتية وتمنعها من تحقيق مشروعها الديمقراطي في سوريا، وترى تركيا أنّ أي خطوة من قبل النظام السوري الجديد (أحمد الشرع) نحو نظام لا مركزي أو فيدرالي سيخلق شرخاً بين تركيا والنظام السوري الجديد؛ لذلك تعمل تركيا على تقوية نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي في سوريا من خلال الاتفاقيات التي تبرمها مع النظام الجديد.
يبدو أنّ سوريا مع قدوم هذه السلطة قد بدأت تتحوّل من دولة حليفة لروسيا إلى دولة حليفة للغرب تعمل على تنفيذ أجندته في سوريا والمنطقة، على غرار مجيء أردوغان وحزبه الإسلامي (حزب العدالة والتنمية) إلى سدة الحكم والذي ورد على لسانه أنّه جزء من عملية تغيير الشرق الأوسط (مشروع الشرق الأوسط الكبير). ويبدو أنّ سوريا – رغم اعتراض بعض الدول الإقليمية – سوف تسير نحو نظام لا مركزي إن لم يكن فيدرالياً؛ إلّا أنّ هذا التغيير قد يحمل معه تداعيات سياسية وعسكرية، كعملية عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية إرضاءً لتركيا، إلّا أنّها لن تسفر عن نتائج ترضي دولة الاحتلال التركي كإنهاء الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية؛ كون هذه الإدارة وهذه القوات باتت أمراً واقعاً في الحياة السياسية والعسكرية السورية، وهناك مناطق أخرى بدأت تخطو خطوات سريعة نحو إنشاء إدارات لا مركزية في سوريا، كما أن ما يسمى بالصراع العربي – الإسرائيلي أو “محور المقاومة والممانعة” قد بات في مراحله الأخيرة بعد انضمام سوريا للاتفاق الإبراهيمي، وسينتهي هذا الصراع بانتهاء الأذرع الإيرانية والدور الإيراني في المنطقة، والتي هي أيضاً جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير، والذي بدوره (مشروع الشرق الأوسط الكبير) ستدخل مرحلة جديدة عندما تصبح تركيا جزءًا من هذا المشروع، أو يمكن القول أنّ تركيا، في حال لم تقم بإصلاحات داخلية تمكّنها من حماية نفسها من تداعيات مشروع الشرق الأوسط الكبير، قد تكون هي المرحلة الأخيرة من هذا المشروع،.



