القيادة السورية الجديدة من الراديكالية إلى البراغماتية
شرفان سيف الدين

المقالة تعبر عن رأي الكاتب
لم يعد خافياً على أحد أنّ وصول القيادة السورية المؤقّتة إلى سدّة الحكم قد جاء نتيجة توافقات دولية وإقليمية، وحصيلة فترة زمنية طويلة من التحضير والترتيب لها؛ ويبدو أنّها كانت الخيار الأفضل للجميع نتيجة توافق ضمنيّ فيما بينها، ويبدو أنّ الغرف السوداء والاستخبارات كانت متكفّلة بترتيب كل شيء، ويتبيّن كل ذلك من خلال النقلات النوعية والجذرية التي تنقّلها التنظيم من جبهة النصرة إلى هيئة تحرير الشام، ومن ثم التحالف مع بعض الفصائل العسكرية تحت مسمّى “إدارة العمليات” ودمجها بالجيش السوري الجديد وإلباس عناصرها لباس الدولة والمؤسسات؛ وهذا دليل إضافي على مدى التوافق ما بين مديري الملف السوري في المحافل الدولية والإقليمية، يُضاف إلى كل ما سبق كيفية الاستفادة من القوى الإسلامية الراديكالية وتحويلها إلى قوىً تحمل المسؤوليات المدنية، ومدى قدرة الإسلام الراديكالي على إدارة الدولة، ووضعها تحت الضغط البيروقراطي، وبالتالي الاستفادة منها كقوة منضبطة ومنغلقة بعيدة عن التوسّع والتمدّد.
كيفية الاستفادة الدولية والإقليمية من الاستثمار في ضبط القوى الراديكالية:
الولايات المتحدة الأمريكية تجد في هذا الوصول نوعاً من ضبط الأمن على حساب الفوضى التي كانت تخلقها هذه الحركات أساساً، بالإضافة إلى محاربة الإرهاب بأداة من نفس جنسه، والتقويض نوعاً ما من التمدّد الإيراني الإقليمي على حساب حلفائها وشركائها في المنطقة، وبالتالي تؤدّي نوعاً ما إلى استقرار إقليمي، خاصةً مع وجود احتمالية اندلاع أي حرب أهلية وتدخّل الحشد الشعبي العراقي الشيعي على الخط بحجّة حماية الحدود أو المراقد الشيعية، كما أنّه يُضاف إلى ما سبق أنّ الوجود الأمريكي في المنطقة (سوريا) يكتسب شرعنة مستقبلية من خلال هذه القيادة.
في حين تجد روسيا في هذا المشروع (القيادة السورية الجديدة) نوعاً من التخلّص من الهيمنة المطلقة للحليف المفترَض (إيران) على جميع المفاصل، مع ضرورة حماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، خاصةً في الساحل السوري الذي يضمّ قواعد روسية ضمن ما يبدو أنّه تفاهم مع الغرب حول ذلك، ويُضاف إلى ذلك تجنّب نوع من الفوضى غير المنضبطة في المنطقة ما بعد الأسد.
في حين أنّ إسرائيل، اللاعب الإقليمي الرئيسي في المنطقة بعد أحداث السابع من أكتوبر عام 2023م، تجد في وجود القيادة المؤقّتة الحالية الحاكمة لدمشق نوعاً من التهدئة لجبهتها الشمالية، دون أن تخلق لها القلاقل، خاصةً بعد تدمير كافة الأسلحة الاستراتيجية التي كان يمكن أن يستفيد منها الجيش السوري في شنّ أي هجوم أو إبداء أيّة مقاومة، ويُضاف إلى ما سبق كبح النفوذ الإيراني في هذه الجبهة، وكذلك قطع طرق الإمداد للحليف الاستراتيجي المزعج لها والمتمثّل في حزب الله اللبناني.
المملكة العربية السعودية تتمثّل رؤيتها في عودة سوريا (السُّنّية) إلى الحضن العربي، وابتعادها عن المحور الإيراني، والانتهاء من تجارة الكبتاغون وتصديره للمجتمعات الخليجية، يُضاف إليها كيفية الاستفادة منها في ضخّ الاستثمارات الخليجية فيما بعد في مرحلة التنمية والإعمار.
تركيا وقطر، الحليفتان السُّنّيتان في المنطقة، يبدو أنّهما قد أقنعتا الولايات المتحدة الأمريكية بأنّ أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) هو أفضل الخيارات المطروحة، لتجنّب الفراغ الذي سيحصل ما بعد إسقاط الأسد في ظل معارضة سياسية وعسكرية مترهّلة.
خلق “سوريا مفيدة” ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد:
هناك نظرية غربية تقول: إنّ أفضل حلّ لتفكيك الجماعات الراديكالية هو إيصالها إلى سُدّة الحكم، وبالتالي تكون تلك الجماعات أمام خيارَين اثنين؛ إمّا التأقلم مع الظرف الجديد والتهيئة مع العلاقات الدولية الجديدة والتعامل مع الغرب على هذا الأساس، أو الانغلاق على نفسها والتقوقع، وبالتالي – ومع مرور الوقت – سيكون مصيرها الفشل الحتمي؛ وهذا ما يجري بالضبط في كل من أفغانستان وسوريا على حدٍّ سواء، ففي أفغانستان – ورغم مرور أكثر من أربعة أعوام على الانسحاب الأمريكي منها- لم تتمكّن حركة طالبان من التأقلم مع الوضع الإقليمي والدولي بعد، وبالتالي فهي حبيسة الإدارة الداخلية فحسب، وتحاول الضبط المحلّي بعيداً عن أي انفتاح خارجي، وبالتالي باتت منغلقةً على ذاتها.
في سوريا يبدو أنّ الأمر مختلف نوعاً ما، وذلك مع صعود القيادة الجديدة للحكم والخطوات المتسارعة التي تخطوها، ربّما لإثبات الجزء الآخر من النظرية الغربية، وهو فشل هذه الحركات في قيادة الدولة والمجتمع، وبالتالي إسقاط هذه التجربة من خلال الحشد الدولي والإقليمي لإجهاضها، كما أنّ هذه التجربة تُعَدّ خطراً وجودياً على هذه الحركات الراديكالية أساساً؛ وذلك لما تحمله في داخلها من خطر على العقيدة الأممية التي تربّت عليها، وبالتالي وجود أو إيجاد الصعوبة في اقناع التيار الأكثر تشدّداً الموجود ضمن صفوفها.
إنّ الخروج من تحت العباءة الجهادية والدخول في العباءة الغربية سيرتّب بعض الأمور وسيخلط بعضها الآخر؛ فمثلاً تجميد العقوبات الغربية لفترات قصيرة نسبياً لن يكون لها وقع على الاستثمارات طويلة الأجل، أمّا رفع أسماء الأشخاص القياديّين عن قوائم الإرهاب، أثناء الاجتماع بهم في بلدانهم، فهي خطوة لحماية المسؤولين الغربيين وقادتهم مستقبلاً من أي مسائلة قانونية تحت بند “التعامل مع الإرهابيين أو الجماعات الإرهابية”، قبل أن يكون رفع العقوبات لحماية أشخاص في القيادة السورية.
أيّهما سينتصر؛ أحمد الشرع أم أبو محمد الجولاني؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ ما قدّمه الغرب حتى الآن، للقيادة الجديدة في دمشق كافٍ لأن تبدأ دمشق الآن بالقيام بالدور المنوط بها واسترداد الدَّين. فسيناريو إسقاط الأسد خلال أحد عشر يوماً لم يكن مقنِعاً منذ البداية لا للقاصي ولا للداني، خاصةً مع بقائه على مدى أربعة عشر عاماً من القتل والدمار في سدّة الحكم، كما أنّ توقيف أو رفع العقوبات الاقتصادية تُعَدّ ميزة إضافية وفرصة أخرى لإثبات الذات، وكذلك رفع العقوبات عن شخص الرئيس ووزير داخليته (الذي يُعَدّ العقل المدبّر والفعّال في كل الخطوات السابقة واللاحقة أيضاً) إنّما هو فرصة لإفساح المجال.
في المقابل؛ ومع دخول القوى الدولية إلى المنطقة بشكل مباشر أو غير مباشر، يحاول الرئيس السوري المؤقّت خلق نوع من التوازن بين المصالح الدولية ولكن برؤية جديدة، وبالتوازي مع ذلك يحاول ترسيخ نفوذه وتقوية سلطته والسيطرة على الاقتصاد والمال السياسي لخدمة مصالحه؛ فبالإضافة إلى التطبيع مع إسرائيل والدخول للاتفاقية الإبراهيمية، فإنّ الشرع ملزَم بتطبيق ما يملي عليه الغرب: من ضبط للقوى الأجنبية المتواجدة ضمن صفوف قواته، وترويض تلك القوى بما يتناسب مع المعطيات الجديدة، وهو – كشخص – ملزَم بالعدول عن الفكر الجهادي والدخول في اللعبة السياسية الغربية؛ فهو على موعد مع التوقيع على محاربة زملاء الأمس في الفكر الأممي المتطرّف (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “داعش”)، وفي حال التوقيع أو عدم التوقيع سيكون أمام فخّ ذو شقّين، من جهة فخّ أمام المتشدّدين والعقائديين الذين هم معه، ومن جهة أخرى فخّ أمام القوى الدولية الراعية لمشروعه الذي هو ملزَم بإقناع تلك القوى به؛ من خلال المحاربة معها ضدّ هذه القوى الراديكالية. كل ما سبق يدفع بالقيادة المؤقّتة في دمشق إلى:
– إمّا تثبيت الأمن والأمان، واحتواء جميع المكوّنات السورية، وحلّ النزاعات الداخلية بالتراضي والتوافق والانخراط في العملية السياسية بشكل كامل غير منقوص، والتوجّه إلى حالة لا مركزية على جميع الأصعدة، وبالتالي المحافظة على الخصوصية الجغرافية والمذهبية والطائفية ضمن الجغرافية السورية العامة.
– أو الفشل في كل ما سبق والعودة إلى المربّع الأول؛ حيث حالة الفوضى والفلتان الأمني، وحيث التبعية الإقليمية المتستّرة بتبعية دولية أوسع.
في خضمّ كل ما سبق؛ فإنّ السؤال الأهمّ المطروح والمفتوح في المرحلة المقبلة هو: هل سيتمكّن أحمد الشرع من إثبات نفسه على أنّه رئيس يمكن أن يكون جامعاً لكل السوريين أو أنّه سيظلّ حبيسَ “أبو محمد الجولاني”؟



