إدلب .. والصراعات الدولية ..؟

إدلب .. والصراعات الدولية ..؟
بعد تمكن النظام السوري بالتعاون مع روسيا وحلفائه بالسيطرة على مناطق متعددة من الجغرافية السورية, ونجاحه بإبعاد الجماعات المسلحة عن دمشق ومحيطها ودرعا في الجنوب السوري وصولاً إلى مدينة القنيطرة, وبعد إجراء جملة من التفاهمات الدولية والإقليمية في مؤتمر أستانا بين روسيا وتركيا الضامن للفصائل المسلحة والتي أدت بدورها إلى نقل مقاتلي الفصائل المسلحة وعائلاتهم من مناطق متعددة في سوريا إلى مدينة إدلب المعقل الرئيس لتجمع الفصائل المسلحة, والمتشدِّدة منها كجبهة النصرة التي غيّرت اسمها إلى جبهة فتح الشام, ومن ثم تشكيل هيئة تحرير الشام بناء على طلب من المخابرات التركية تفادياً لضربات من قبل روسيا والنظام والجماعات المسلحة التي تدور في فلكها والمدعومة من طهران، وهكذا أصبحت إدلب محكومة بأجندات تركية والفصائل المتشددة المرتبطة بها، حيث كان مخططاً لإدلب أن تكون الفصل الأخير في الأزمة السورية للقضاء على الفصائل المسلحة بعد تجميع الفصائل الرافضة للمصالحات الروسية فيها, حيث كانت مدينة إدلب المنطقة الرابعة ضمن مناطق خفض التصعيد, والتي نتجت عن مؤتمر أستانا /6/ بين الدول الضامنة لحل الأزمة السورية (روسيا وتركيا وإيران), حيث شكلت سيطرة النظام السوري على منطقة الجنوب في مدينة درعا, بعد مباحثات ماراثونية بين الجانب الروسي والإسرائيلي والتي أفضت بدورها إلى موافقة إسرائيلية بعودة سيطرة قوات النظام السوري على كامل الشريط الحدودي بينهما مقابل رفع الغطاء الأمريكي عن الجماعات المسلحة في الجنوب مقابل ضمان أمن إسرائيل بإبعاد الميلشيات الإيرانية عن الحدود لمسافة لا تقل عن /80/ كيلومتراً, حيث ظهر ذلك جلياً في تصريح من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بأنها “لن تساعد الفصائل المسلحة في درعا في حربها ضد النظام السوري”, و مطالبتها كل من ترامب وبوتين خلال لقائهما في مدينة هلسنكي في /16/ تموز بعودة الجنوب السوري وخاصة الجولان إلى ما كان عليه قبل الأزمة السورية أي إلى اتفاق فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل عام 1974.

وبدأت بعدها التصريحات الإعلامية من النظام وإيران بأن الحملة المقبلة لهما ستكون مدينة إدلب المعقل الرئيس للفصائل المسلحة, حيث صرح علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية “بأن إدلب ستكون الوجهة المقبلة لما سماه جبهة المقاومة لتحريرها من سيطرة الفصائل المسلحة”, لتتزايد بعدها التصريحات الدولية والإقليمية المحذرة حول الهجمة المحتملة للنظام السوري وحلفائه على إدلب, حيث حذر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان من وقوع كارثة إنسانية في إدلب, حيث قال “يجب تقرير مصير إدلب من خلال عملية سياسية تتضمن نزع سلاح الميلشيات فيها”, وكما صرح المبعوث الدولي إلى سوريا ديمستورا في مؤتمر “دعم مستقبل سورية والمنطقة” هذا المؤتمر هو النسخة الثانية من مؤتمر المانحين والمنظمات الدولية العاملة في سوريا في بروكسل: بأنه “في حال تعرض مدينة إدلب لهجمات عسكرية بدعم مباشر من إيران و روسيا قد تواجه مصير حلب والغوطة الشرقية”, وبذلك تكون مدينة إدلب قد دخلت في نفق مظلم ومجهول بسبب وجود خليط من الفصائل المسلحة غير المتجانسة في توجهاتها, من هنا تحاول الأطراف المشاركة في الأزمة السورية التوصل إلى اتفاق مبدئي تسعى من ورائه التوصل إلى تفاهمات حول مصير مدينة إدلب ترضي جميع الأطراف.

وبسبب تعقد المشهد في إدلب فقد ظهرت عدة رؤى ترجمت على شكل سيناريوهات للحل, ولعل أبرزها السيناريو العسكري, حيث يعتقد أن تعمل روسيا وإيران مع نظام الأسد على استعادة المحافظة من سيطرة الفصائل المسلحة المتشددة بالقوة, حيث تتكفل روسيا بتأمين غطاء جوي عبر توجيه ضربات مركزة ضد مواقع هيئة تحرير الشام, ثم تبدأ القوات البرية بالتقدم نحو المدينة, ويعتقد ولكن المشكلة تكمن فيما سيتم تقديمه إلى تركيا مقابل انسحابها من المدينة, لذلك تحاول تركيا رفع سقف مطالبها قبل المشاركة في عملية مفاوضات أستانا /10/ التي جرت مؤخراً في سوتشي, حيث بدأت بإرسال رسائل واضحة إلى كافة الأطراف من خلال تصريح وزير الخارجية التأن هذا السيناريو إن حدث فأنه سيحتاج إلى توافق روسي تركي كون تركيا تعتبر القوة الرئيسة الضامنة لمنطقة خفض التصعيد هذه, لذلك ستحاول روسيا استخدام كافة أساليب الضغط الدبلوماسي على تركيا من أجل قبول هذا السيناريو, ركي حيث قال: “إن أيّ هجوم على إدلب يُنهي المفاوضات السياسية”، مهدداً بأن أي اعتداء من قِبل روسيا وإيران على إدلب سيقضي على الاتفاق, وتسعى تركيا إلى احتواء الموقف كونها تدرك بأن أي عملية مقبلة على إدلب يعني خروج تركي من المشهد السوري, وبالتالي إفلاس سياستها في المنطقة, لذلك تسعى إلى طرح حلول تعتقد من خلاله بأنها ستضمن مصالحها ومصالح القوى المتصارعة في سوريا, ومن أبرز ما تم طرحه من قبل تركيا لإبعاد شبح أي عمل عسكري عن إدلب:
1- تشكيل هيئة إدارة محلية مدنية للمدينة تتكفل بإدارة شؤونها مع تحييد التنظيمات المسلحة المتشددة عن المشاركة في إدارتها.
2- تكوين جهاز شرطة رسمي من عناصر الفصائل المسلحة المعتدلة المكلفة بحفظ الأمن.
3- حل هيئة تحرير الشام نفسها, وإخراج العناصر المتشددة إلى خارج حدود مدينة إدلب.

وهنا يعتقد بأن الحل العسكري في مدينة إدلب قد يكون معقداً للغاية, وخاصة أن هذه المدينة يتواجد فيها ما يقارب مليونين من المدنيين المهجرين من مناطقهم قسراً من جهة, ووجود نحو /70/ ألفاً من عناصر الجماعات المسلحة المتطرفة الذين ينتمون إلى عشرات الفصائل المتصارعة فيما بينها من جهة أخرى, خاصة أن هذه الجماعات المسلحة ترفض مبدأ المصالحات القائمة في مناطق متعددة في سورية, كون قبول هذه الجماعات مبدأ الخروج من إدلب فإنه لن تقبل أية دولة أخرى وجودهم على أراضيها, ما يجعل قبولهم بمبدأ المصالحة أمراً مرفوضاً, حيث سيكون بقاؤهم في مدينة إدلب مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم, وكذلك مسألة بقائهم من عدمه مسألة مرتبطة بقرار تتحكم فيه تركيا, من هنا يعتقد أن تركيا قد تلجأ إلى نوع من المقايضة مع روسيا, محاولةً الحصول على ضمانات لحماية مصالحها وأمنها القومي مقابل تخليها عن هذه الجماعات كما فعلت سابقاً في حلب وعدة مناطق أخرى في سوريا, كما أن روسيا قد تقبل مبدأ المقايضة كون التدخل العسكري ستكون تكاليفه باهظة اقتصادياً وعسكرياً, حيث يعتقد بأن روسيا قد تقبل بمبدأ عدم شن ضربات عسكرية على إدلب مقابل التزام غربي بالمساهمة في إعادة إعمار البنية التحتية السورية المدمرة, مقابل السماح بنوع من السيطرة التركية على المدينة بحيث تتكفل تركيا بحل كافة الجماعات المسلحة وتسليم أسلحتها الثقيلة إلى النظام السوري, وتحفيز هذه الجماعات المسلحة للقبول بمبدأ المصالحات التي فرضتها روسيا على مناطق متعددة من الجغرافية السورية.

ومن جهة أخرى تسعى بعض الدوائر الاستخباراتية الدولية إلى نشر خطة سياسية طويلة الأمد يمكن من خلالها السيطرة على مدينة إدلب دون تدخل عسكري, وذلك من خلال تطبيق حصار مطبق على المدينة تتفق فيه جميع الأطراف, يؤدي إلى إحداث شرخ بين الجماعات المسلحة والحاضنة الشعبية التي تلجأ إلى القيام باحتجاجات ضد هذه الجماعات, ما سيثير نوعاً من البلبلة والاقتتال الداخلي بين الفصائل المسلحة, وهنا تتدخل الأطراف ذات التأثير على الجماعات المسلحة, لإجبارها على الاستسلام وبالتالي تجنب الضربات العسكرية من روسيا وحلفائها, وهنا لجأت تركيا في الآونة الأخيرة إلى إقامة جدار عازل حول مدينة إدلب تمهيداً لضمها إليها, أو محاولة حمايتها “حسب زعمها” من العملية المرتقبة للنظام و روسيا وإيران.

وفي حال عدم التوافق بين الدول الضامنة للأزمة السورية حول ملف إدلب فإن روسيا قد تلجأ إلى التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية حول القيام بحملة عسكرية مشتركة على مدينة إدلب تسعى من ورائها لإخراج المدينة من سيطرة الجماعات المسلحة الإرهابية وخاصةً هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقاً”, وبذلك تكون روسيا قد حققت هدفها بإبعاد يد تركيا من التدخل في الأزمة السورية, كون هذا التدخل بات يؤرق النظام في سوريا, والوقوف في وجه الأطماع التركية في الشمال السوري التي تسعى بدورها إلى ضم مدينة إدلب إلى ولاياتها الجنوبية, ولكي تواجه تركيا هذا السيناريو فأنها ستلجأ للضغط على مرتزقتها وخاصة هيئة تحرير الشام في إدلب لحل نفسها, لتقديم تنازلات شكلية وليست جوهرية, محاولة الإبقاء على نوع من التواجد العسكري للفصائل المسلحة المنضوية تحت مظلتها مدعية حفاظها على أمنها القومي, محاولة إبداء نوع من المرونة في الحل السياسي بحكم حاجتها للتوصل إلى حل مناسب يرضي طموحها في ملفي إدلب وشمال شرقي سوريا, وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حذر في وقتٍ سابق في مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين قبل لقائه ترامب في /16/ من شهر تموز في هلسنكي، من أن أي استهداف للنظام لإدلب سيكون انتهاكاً لاتفاق أستانا، وبالتالي سيؤدي إلى انهيار جوهر اتفاق أستانا حول مناطق خفض التوتر في سوريا.

وأخيراً يعتقد أن حل معضلة إدلب ليس بالأمر اليسير, حيث تتشابك مصالح عدة قوى إقليمية ودولية حول هذا الملف, وسيسعى كل طرف إلى تحقيق نجاح يحفظ له امتيازاته في المنطقة, وكون ملف إدلب يعتبر آخر ملف في الأزمة السورية لازال يثير الكثير من الجدال حول سبل إمكانية وضع حلول مناسبة له, ولعل محاولة الأطراف الضامنة لمناطق خفض التوتر عقد مؤتمرها العاشر /أستانا/ في سوتشي في هذا التوقيت بالذات وذلك بعد النجاحات التي حققتها روسيا والنظام في ملف الجنوب السوري, إنما يعتبر بمثابة امتحان للقوى الإقليمية والدولية المشاركة في حل الأزمة السورية, كون حل ملف إدلب يعني البدء بمفاوضات حول الحل السياسي, حيث تسعى كل الأطراف إلى زيادة أوراق القوة بيدها, من هنا يعتقد بأن هذا المؤتمر لن يضع حلاً نهائياً لهذه الأزمة بقدر ما أنه سيمهد الطريق أمام توافقات إقليمية ودولية تسهم في حل هذه الأزمة في المستقبل القريب.

زر الذهاب إلى الأعلى