ما بين” نداء السلام والمجتمع الديمقراطي ” والذهنية الطورانية؛ إلى أين تتّجه تركيا؟
كرديار دريعي

منذ تأسيس الدولة التركية عام 1923 كانت القضية الكردية هي الهاجس الأكبر الذي يشغل بال مؤسّسي الجمهورية؛ فعلى أساس التمايز الديني تمكّنت تركيا من القضاء على اليونان والأرمن والسريان، أمّا بخصوص القضاء على الكرد فإنّ الأسلوب الديني لم يكن ممكناً ولا مفيداً؛ فغالبية الكرد – على غرار الشعب التركي – يعتنقون الدين الإسلامي والمذهب السنّي، ولذلك لجأت الدولة التركية إلى اتّباع النهج العَلماني، فادّعت أنّ الكرد يسعون لإعادة الجمهورية إلى عهد تخلّف الدولة العثمانية التي كانت تسير على النهج الإسلامي، وأنّ الكرد يشكّلون عَقبة أمام تطوّر الدولة على غرار التطوّر في أوروبا؛ ورغم العقيدة الدينية لدى الشيخ سعيد، حيث ينتمي إلى الطريقة النقشبندية (إحدى الطرق الصوفية)، فقد وصف كمال أتاتورك ثورة الشيخ سعيد بيران 1925 بالمؤامرة المتخلّفة والخيانة والتخريب، ولم يوضّح أتاتورك الأسباب الرئيسية للثورة على أنّها اندلعت بسبب حرمان الكرد من حقوقهم داخل الجمهورية، وقد وصف أتاتورك الثورة بأنّها ضدّ الدولة المعاصرة، وأنّها موجّهة ضدّ سلطته وضدّ قومية الدولة التركية الجديدة.
أشار الكماليون إلى أنّ أسباب انهيار السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى إنّما تعود إلى تعدّد واختلاف القوميات والأديان والمذهب؛ ولذلك وجدوا أنّ تأسيس دولة على أساس قومية واحدة ولغة واحدة وعَلَم واحد ودولة واحدة يُعَدّ ضرورة تاريخية، ومن أجل بناء دولة من القومية التركية لم يعترفوا بالكرد بل قالوا عنهم أنّهم “أتراك الجبال” ومارسوا بحقّهم جميع سياسات الصهر والتهجير والإبادة والتتريك؛ وبالتالي وجد الشعب الكردي أنّه لا بديل عن مقاومة يمكن القول عنها أنّها مقاومة الوجود أو اللاوجود، ومع إخماد الثورات الكردية – خاصة بعد ثورة ديرسم 1937 اعتقدت الدولة التركية أنّ القضية الكردية قد انتهت وأنّه لم يبقَ ضمن حدود الدولة التركية سوى أولئك الذين تسمّيهم تركيا “الكرد الجيّدون”، بمعنى الكرد الأموات الذين يأكلون ويشربون ويلبسون، الكرد الذين فقدوا الأمل، الكرد المتخاذلون الذي تتلخّص كلّ آمالهم في أن يتحوّلوا إلى أتراك، بل أن يصبحوا أتراكاً أكثر من الأتراك أنفسهم.
ظهور حزب العمال الكردستاني وعصر الانبعاث
إنّ ظهور حزب العمال الكردستاني في شمال كردستان عام 1978 قد أحدث زلزالاً في أحلام ووعي تركيا والكرد؛ فالقضية الكردية التي كان يُظَنّ أنّها قد انتهت انبعثت من جديد، كما أنّ الشعب الذي كان قد فقد الأمل بات لديه حلم كبير واستعاد ثقته بنفسه. السيّد أوجلان، قائد حزب العمال الكردستاني، قاد ثورة تحرير كردستان تحت شعار “كردستان مستعمَرة”، وتركيا وصفت حربها في مواجهة الثورة بحرب البقاء أو الزوال؛ وبنتيجتها تمّ إفراغ 3000- 5000 قرية من كردستان وتمّ إحراقها خلال سنوات من 1985- 1988، ودخلت الحرب مرحلة وحشية تجاوزت كلّ المعايير، وبلغت حصيلة تلك الحرب 35-40 ألفاً من مقاتلي حزب العمال الكردستاني والجنود الأتراك والمدنيين من أبناء الشعب الكردي، ممّا لا شكّ فيه أنّ غالبية الضحايا كانوا من الشعب، كما أنّ الآلاف من المثقّفين والمفكّرين والسياسيين الكرد قد تمّ قتلهم واعتقالهم على يد جهاز الاستخبارات التركية (مِيْت)، وفي العام 1993 طلب رئيس الوزراء التركي آنذاك تركوت أوزال من السيد أوجلان إعلان وقف القتال، وذلك من أجل حلّ القضية الكردية بالطرق السلمية؛ إلّا أنّ ذلك لم يُكْتَب له النجاح، وفي ظروف غامضة مات تركوت أوزال؛ وهذا ما فتح الباب أمام حرب ضروس لا حدود لها، وفي العام 1998 وخلال مؤامرة دولية تمّ تسليم السيد أوجلان للدولة التركية.
جدير بالذكر أنّ السيد أوجلان قد أعلن وقف إطلاق النار من جانب واحد لأكثر من ثماني مرّات، حتى دون أن تقدّم الدولة التركية أيّة ردود إيجابية بل استمرّت في حربها. تسليم السيد أوجلان للدولة التركية قد فتح الباب أمام اندلاع حرب داخلية وارتكاب المجازر وحدوث الدمار الكبير في كردستان وتركيا؛ وفي مواجهة تلك المخاوف أعلن السيد أوجلان نداء الحلّ السلمي للقضية الكردية.
إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد من أجل السلام
لم تتمكّن الدولة التركية من القضاء على حزب العمال الكردستاني؛ لذا فقد لجأت إلى سياسة “ضرب الكرد بالكرد”؛ ففي العام 1992 ومن خلال اتفاق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني بدأت تركيا مواجهة عسكرية كبيرة مع حزب العمال الكردستاني، وفي النتيجة وبعد حرب دامت 45 يوماً تمّ التوصّل إلى هدنة؛ ففي 17 آذار من 1993 وبناءً على طلب من رئيس الوزراء التركي آنذلك، وبوساطة من السيد جلال طلباني، أعلن السيد أوجلان عن وقف إطلاق النار من جانب واحد، وذلك من أجل حلّ القضية الكردية بطرق سلمية كما وضّح تركوت أوزال.
في العام 1995 وبعد مواجهات عسكرية مع الحزب الديمقراطي الكردستاني دامت لثلاثة أشهر، والتي كانت ردّة فعل على مؤامرة دبلن ضدّ حزب العمال الكردستاني، أعلن السيد أوجلان مرة أخرى وقف إطلاق النار من جانب واحد، وفي الوقت ذاته تمّ اعتبار وقف إطلاق النار ذاك كإعلانٍ لوقف إطلاق النار مع تركيا أيضاً.
في أيلول من العام 1988، وبناء على تعيين رئيس الوزراء التركي نجم الدين أربكان ليقوم بحلّ القضية الكردية بطرق سلمية مرة أخرى؛ أعلن السيد أوجلان عن وقف إطلاق النار من جانب واحد مرة أخرى.
بعد تسليم السيد أوجلان للدولة التركية عن طريق مؤامرة دولية في 15 شباط 1999، ومن أجل تحقيق السلام وكرغبة حقيقية في هذا المجال أعلن حزب العمال الكردستاني في الأول من أيلول لعام 1999 وقف إطلاق النار من جانب واحد واتّخذ قراراً بسحب قوات الكريلا خارج الحدود التركية.
في 22 من شهر تشرين الثاني من العام 2002 أعلن حزب العمال الكردستاني مشروع السلام الديمقراطي مع تركيا؛ إلّا أنّ تركيا قد فسّرت ذلك الإعلان على أنّه ضعف لحزب العمال الكردستاني.
في العام 2006 قدّم حزب العمال الكردستاني لتركيا مرة أخرى خارطة طريق من أجل السلام؛ وكانت خارطة الطريق تلك تتألّف من عشرة بنود (إنهاء الحرب، والاعتراف بهوية الشعب الكردي، والقيام بتغييرات سياسية وديمقراطية، وتأسيس الإدارات المحلّية، وحرية تأسيس الجمعيات والأحزاب، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والحقوق الثقافية واللغة الكردية، وعودة المهجّرين، وأهداف السلام ومتابعتها، واعتبار السيد أوجلان ممثّلاً رسمياً)
في 29 آذار من العام 2009 أعلن حزب العمال الكردستاني مرة أخرى وقف إطلاق النار من جانب واحد.
في 13 نيسان من العام 2009 أعلن حزب العمال الكردستاني مرة أخرى وقف إطلاق النار.
واسمرّ وقف إطلاق مرة أخرى من العام 2013 حتى 2015، وكانت هناك مفاوضات ونقاشات بين السيد أوجلان وتركيا، وكان هناك تفاهم واتفاق. استمرّت الحرب والمواجهات بين الطرفين منذ 2015 حتى 2024م.
ومع تطوّرات حرب 7 تشرين الأول/أكتوبر بين حماس وإسرائيل، ومع خروج إسرائيل عن صمتها، وكشفها إصرارها على بناء شرق أوسط جديد؛ بدأت تركيا تتخوّف من بناء كردستان وتقسيم تركيا، خاصة بعد انتصار حركة حرية كردستان وتفوّقها في حملتها العسكرية، وارتفاع مستوى نفوذ حركة الحرية في كردستان وفي الشرق الأوسط؛ لذا ومن خلال رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، وتحت مسمّى “القضاء على الإرهاب” تمّ الحديث مرّة أخرى عن وقف الحرب وإيجاد الحلول.
وبالتزامن مع حديث بهجلي أطلق السيد أوجلان نداء السلام والمجتمع الديمقراطي، وفي هذا السياق تمّ الإعلان عن إلقاء السلاح وحلّ حزب العمّال الكردستاني.
فما بين نداء أوجلان ومبادرة تركيا إلى أين ستتّجه الأمور؟ هل يمكن لتركيا أن تتجاوز حدود ذهنيتها الطورانية وتتخلّص من فوبيا وهاجس القضية الكردية وتحلّها بالطرق السلمية والديمقراطية؟
الذهنية الطورانية هي أساس العنصرية التركية
قام العنصريون الأتراك بتقديم الذهنية الطورانية والمشروع الطوراني بناء على تطوير الذهنية التركياتية والقومية التركية وتتريك جميع المكوّنات الموجودة ضمن حدود تركيا، وكذلك إحياء التاريخ بما يحقّق أجندات ومشاريع العنصريين الأتراك. تقوم الذهنية الطورانية على أساس أنّ الأتراك هم مصدر وأصل كل الحضارات، وأنّ الأتراك الأوائل قد توجّهوا من الأناضول نحو مصر والعراق والشام وبنوا حضارات العالم، وأنّ جميع الأنبياء والرسل هم من أصول تركية، وأنّ جميع لغات العالم مصدرها اللغة التركية، وأنّ التتار والمغول والتركمان والخزر هم أتراك بالأصل؛ لذا ترى أنّ القومية التركية أرقى وأسمى من كلّ القوميات.
مصطفى كمال أتاتورك هو مؤسّس الجمهورية التركية، وهو الذي عمل وناضل من أجل الطورانية، هو الذي روّج لها وسخّر مليارات الدولارات في سبيلها، ووفقاً لهذه الذهنية فقد قدّم أتاتورك سياسات الإبادة وإنكار القوميات الأخرى في تركيا؛ بمعنى أنّ العنصرية التركية انطلقت من ذهنية طورانية. الذهنية الطورانية ترفض التعددّية والحقوق الثقافية والقومية والسياسية، ولا تقبل بوجود أي شيء سوى التركياتية، فمنذ تأسيسها تمارس الجمهورية التركية سياسة عنصرية كهذه؛ بمعنى: أن تكون تركياً فهذا يعني أنّك سعيد الحظّ، أمّا عدا ذلك فأنت غير موجود وغير معترَف بك أصلاً. وضع أتاتورك جميع مؤسّسات الجمهورية، سواء التعليمية أو الإعلامية أو العسكرية أو السياسية، في خدمة التتتريك؛ ولذلك فقد انتهج مع الكرد – على وجه الخصوص – مختلف أنواع سياسات الإبادة والصهر، وجميع الحكومات التركية سارت على هذا النهج ولم تخالفه، وحتى في تلك الأوقات التي كانت هناك خطوات ومؤشّرات على المرونة في التعامل مع الكرد، مثل محادثات 2013 – 2015، لم تتراجع تركيا خلالها عن الذهنية الطورانية ولا عن العنصرية كذلك. إنّ إبداء بعض المواقف المرنة، مثل موقف رئيس الوزراء الأسبق تركوت أوزال 1993 أو موقف رئيس الوزراء الحالي أردوغان 2002- 2009، لم تغيّر من حقيقة الذهنية الطورانية المتسلّطة في تركيا؛ بل إنّ مواقف كهذه كانت ترتبط بتصاعد المخاوف على تركيا وتقدُّم حزب العمال الكردستاني.
تجاوز الذهنية الطورانية هي أساس نداء السلام والمجتمع الديمقراطي
تأسّس حزب العمال الكردستاني في العام 1978 كحركة لتحرير كردستان، بدأت حملة 15 تموز العسكرية عام 1984 من خلال مانيفيستو تحرير وتوحيد كردستان، في العام 1991 انهار الاتّحاد السوفييتي، ودخل العالم في مرحلة القطب الأوحد التي كانت تقودها الولايات المتّحدة الأمريكية، قام السيد أوجلان بإجراء مراجعة فكرية وسياسية للقضية الكردية ولأزمات الشرق الأوسط؛ وتوصّل لتلك القناعة أنّ الدولة القومية ليست حلّاً للقضية الكردية، وأنّ تلك الدولة هي أداة ووسيلة للرأسمالية لتقاسم الشرق الأوسط والسيطرة عليه وإثارة الخلافات وافتعال الأزمات فيه؛ لذا فقد بحث السيد أوجلان عن حلول أخرى عدا حل الدولة القومية، لكسر الدائرة المغلقة للحرب والإبادة، وحينها تعامل أوجلان مع نداء تركوت أوزال لإنهاء الحرب وحلّ القضية الكردية؛ إلّا أنّ الذهنية الطورانية قد أبعدت تركوت أوزال عن المشهد، واعتمدت إنهاء القضية الكردية وتصفيتها بالطرق العسكرية؛ بحيث لم تمنح السيد أوجلان الفرصة المناسبة لإجراء التغييرات الجذرية في النهج العسكري.
إنّ حجم مؤامرة 1999 والتطوّرات المرتبطة بها، وكذلك ظهور حقيقة النظام العالمي الذي وصفه السيد أوجلان بـ”لوياثان” (ذلك المتوحّش الذي ورد ذكره في التوراة)، والتحليل المرتبط بالبناء والتطوّر، ومواجهة البشر مع السلطة، وتوجّه العالَم نحو الحرية؛ كل ذلك قد جعل السيد أوجلان يتوصّل إلى تلك القناعة بأنّ حل الأزمات والمشاكل في الشرق الأوسط إنّما يكمن في المجتمعات الديمقراطية والكونفيدراليات الديمقراطية وأخوة الشعوب، وذلك تحت مسمّى “باراديغما الأمة الديمقراطية “؛ بمعنى تجاوز ذهنية الدولة القومية والنظام ذي اللون الواحد والعَلَم الواحد والدولة الواحدة والحدود الحالية بين المجتمعات في عموم الشرق الأوسط، من خلال تأسيس الكونفيدرالية الديمقراطية للشرق الأوسط، وكذلك من خلال تجاوز الذهنية الطورانية في تركيا وتأسيس الجمهورية الديمقراطية، والتي بدت بشكل واضح من خلال نداء السلام والمجتمع الديمقراطي.
قام السيد أوجلان بتوضيح مشروعه الديمقراطي على أسس تجاوز الدولة القومية؛ بمعنى تفكيك أساس الدولة القومية دون الانفصال عنها، من خلال تأسيس الديمقراطية المجتمعية وكذلك توزيع السلطة من الأعلى نحو الأسفل.
وفي هذا السياق برزت مصطلحات مثل “أخوة الشعوب” و”حرية المرأة” و”الإدارات الذاتية” كأساس، وباتت تلك المصطلحات بديلاً عن السلطة.
عدم تطابق المشروعَين (التناقض بينهما)
ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك ذهنيتان ومشروعان متناقضان في تركيا وجنوب كردستان، وجود أحد المشروعَين يُلغي المشروع الآخر؛ فكلّما حقّق الكرد مكاسب ديمقراطية في تركيا أو في أماكن أخرى، فإنّ الذهنية والأيديولوجية الطورانية تتمترس حول نفسها، وترفع من وتيرة الطورانية والقوانين غير الديمقراطية، وتعمل للتضييق على النضال الديمقراطي، وتقوم باعتقال الساسة الكرد، وتشنّ الحملات العسكرية ضدّ الكرد على نطاق واسع. وهنا نستحضر تطوير نموذج الإدارة الذاتية في غرب كردستان (روجافا)، ورغم أنّ هذه النموذج يقع خارج حدود الدولة التركية إلّا أنّ الذهنية الطورانية في تركيا قد تصاعدت؛ وبالتالي أعلنت تركيا حرباً مستمرّة ضدّ غرب كردستان (روجافا) وشمال كردستان وجنوب كردستان، وضربت باتفاقيات ولقاءات “دولمة باخجة” عرض الحائط، والتي كان من المفترَض أن يتمّ وفقها حلّ القضية الكردية بالطرق السلمية.
المشروعان مختلفان عن بعضهما، ومتناقضان أيضاً؛ كلاهما يستهدف الأساس الذي تأسّست الجمهورية التركية عليه؛ فمشروع السيد أوجلان يتضمّن: الديمقراطية التشاركية، والقضاء على العنف، وحرية المرأة، والحفاظ على البيئة، والتعايش السلمي، وحلّ القضية الكردية، وإزالة التمييز الجنسي، وإنهاء الدولة القومية، ولامركزية السلطة. أمّا مشروع الذهنية الطورانية فيهدف إلى: فرض التركياتية، وتتريك البشر والبيئة والثقافة واللغة والشعوب، والتوسّع في المناطق واحتلالها، ورفض اللغات والثقافات والقوميات الأخرى، بمعنى أنّها تهدف – من خلال إبادة القوميات الأخرى – إلى بناء قومية تركية صِرفة.
إلى أين تتّجه تركيا؟
رئيس حزب الحركة القومية المتطرّف دولت بهجلي، وبعد اندلاع حرب إسرائيل ضد هجمات حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2023 في محيط غزة، كان قد قال أنّه يمكنه إتاحة الفرصة لأوجلان كي يأتي ويتحدّث داخل البرلمان، وقال أيضاً أنّه سيطلق سراحه إذا ما قام أوجلان بحلّ حزب العمال الكردستاني؛ وإثر ذلك أعلن السيد أوجلان استعداده للسلام، وفي 27/2/ 2025 أعلن وفد إيمرالي رسالة السيد أوجلان (نداء السلام والمجتمع الديمقراطي) للرأي العام.
في 5-7 من شهر نيسان عام 2025 عقد حزب العمال الكردستاني مؤتمره الثاني عشر، وخلال المؤتمر أعلن الحزب حلّ نفسه وأعلن وضع سلاحه أيضاً، وفي 11/7/2025 وخلال مراسيم خاصّة وكخطوة رمزية قام مجموعة من مقاتلي الحزب بإحراق سلاحهم في مدينة السليمانية في جنوب كردستان؛ وفي هذا السياق عبّر الرئيس التركي أردوغان عن سعادته بهذه الخطوة وقال: “هذه الخطوة التي تمّ اتّخاذها على طريق تحقيق أهدافنا في سياق إقامة (تركيا بلا إرهاب) نأمل أن تكون سبيلاً ووسيلة إلى الخير، كما ندعو الله أن يمنحنا الفرصة لتحقيق أهدافنا في ترسيخ الأمن لبلادنا والاستقرار لشعبنا ونشر السلام الدائم في منطقتنا”. (وكالة الأناضول).
إلّا أنّ تركيا دوماً ما تتحدّث عن القضاء على الإرهاب، والموضوع الرئيسي بالنسبة لها هو وضع حركة حرية كردستان لسلاحها، ليس سلاح حزب العمال الكردستاني فحسب؛ بل سلاح جميع المجموعات والأحزاب والحركات التي تتّخذ من السيد أوجلان والباراديغما الخاصة به أساسا لها، مثل حزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK) وقوات سوريا الديمقراطية (QSD) ووحدات المرأة الحرة ستار (YJASTAR)، وكذلك جميع التنظيمات في المنطقة والعالم، في الوقت الذي تمارس فيه التنظيمات المذكورة آنفاً عملها بعيداً عن حزب العمال الكردستاني، وهي تعمل خارج الحدود التركية وتتبع دولاً أخرى مثل إيران والعراق وسوريا؛ بمعنى أنّ تركيا لا تتعامل مع جوهر المشاكل (القضية الكردية)، وإنّما تتحدّث عن حلّ تلك التظيمات ووضع سلاحها؛ وهذا ما يثير الهواجس والتساؤلات لدى الجميع: ما الذي تخطّ له تركيا؟
لقد أشار السيد أوجلان بوضوح إلى أنّ نداءه يفتح الطريق أمام السلام، وأنّ هذا النداء بحاجة إلى مفاوضات ونقاشات ديمقراطية، كما أنّ حزب العمال الكردستاني قد بيّن أنّه لن يتّخذ خطوات من طرف واحد، ولن يبدي أية نوايا إيجابية وحَسَنة، وأشار الحزب إلى أنّه سينتظر الخطوات التي ستتّخذها تركيا؛ بمعنى أنّه ليست هناك ثقة ما بين حزب العمال الكردستاني وتركيا، وأنّه على تركيا – بعيداً عن الكلام والشعارات – أن تتّخذ خطوات عملية؛ مثل: حرية السيد أوجلان ومعتقلي السجون، وتشكيل لجان الحلّ والنقاشات، التغيير الجذري في دستور البلاد.
بناءً على تجارب السلام السابقة؛ لم تبدِ تركيا جدّيتها في عملية السلام؛ وتعتبر أنّ خطوات السلام من جانب حزب العمال الكردستاني نابعة من ضعف الحزب وهزيمته، أمّا هذه المرّة فيبدو أنّ الوضع مختلف عن سابقاته وتبدو تركيا متردّدة؛ فموافقتها إزاء نداء السلام والمجتمع الديمقراطي يعرّض بنية الدولة التركية القائمة على الذهنية الطورانية للانهيار، كما أنّ رفض نداء السلام والمجتمع الديمقراطي يجعل تركيا معرّضة لرياح التغيير المتسارع في الشرق الأوسط ويجعلها معرّرضة للتقسيم أيضاً؛ وكان السيد أوجلان قد حذّر من ذلك مراراً، كما أنّ استمرار حزب العمال الكردستاني في اتّخاذ خطوات من جانب واحد، وكذلك استمراره في إلقاء السلاح إنّما يعرّض القضية الكردية لخطر التصفية ويجعل الشعب الكردي دون حماية؛ لذا فإنّ تركيا ليست لديها تلك الجرأة للسير في مشروع السلام حتى النهاية، كما أنّ حزب العمال الكردستاني أيضاً لا يثق بتركيا حتى النهاية؛ ولذلك فإنّ الطرفين يتّخذان خطوات يمكن وصفها بالبطيئة والمتردّدة.
تركيا وحزب العمال الكردستاني أمام تحوّل كبير؛ فإمّا حلّ القضية الكردية بالطرق السلمية وفقاً لنداء السيد أوجلان للسلام والمجتمع الديمقراطي، وذلك سيخدم السلام وسيسهم في إنهاء الحروب، وكذلك سيتم الحفاظ على تركيا وسيتم حل القضية الكردية بالطرق السلمية، أو أن تستمرّ حالة انعدام الثقة وعدم جدّية تركيا التي تستمرّ بذهنيّتها الطورانية؛ وحينها لن تبقى أية فرصة للسلام، وستدخل تركيا مع الشعب الكردي في حرب مدمّرة، حرب الوجود أو اللاوجود.
في النتيجة؛ ما هي السيناريوهات المحتمَلة؟
- تحوُّل تركيا نحو الديمقراطية كضرورة حتمية وعاجلة، وقبولها نداء السيد أوجلان للسلام والمجتمع الديمقراطي، الذي يُعَدّ الحلّ الأمثل والأنسب للقضية الكردية والأزمات في تركيا، وأن تتوصّل تركيا إلى تلك القناعة بأنّ مشروع السيد أوجلان هو الفرصة الأخيرة من أجل الحلّ السلمي للقضية الكردية.
- تعامل تركيا مع النداء بأسلوب المراوغة أو كمحاولة لكسب الوقت على أمل أن تتغيّر أو تزول الظروف السياسية التي تشكّل خطراً على تركيا، وإصرارها على الاستمرار في العنصرية والذهنية الطورانية؛ والذي من شأنه أن يطلق الرصاصة الأخيرة على فرص السلام في البلاد.
- عودة تركيا إلى ممارسة سياسة الإبادة والحملات العسكرية، وحينها لن يبقى لنداء السلام والمجتمع الديمقراطي أي معنى، وسيتراجع حزب العمال الكردستاني عن جميع الخطوات التي اتّخذها؛ وحينها ستتّجه الأمور نحو تقسيم تركيا وتمزيقها؛ لأنّ الحرب ستتجاوز مرحلة الحرب في الجبال إلى حرب داخلية تجلب معها الويلات، ولن يعود من الممكن أن يستمرّ الشعب الكردي داخل حدود تركيا؛ بمعنى أنّه سينفصل عنها.
ممّا لا شكّ فيه أنّه ينبغي ألّا نتجاهل دور وتأثير القوى الإقليمية والدولية؛ خاصة إسرائيل وأوروبا وأمريكا، ورؤيتها لمستقبل تركيا والخطط التي أعدّتها؛ ومن هنا يبدو أنّ هناك ذهنيّتان متناقضتان في تركيا، وكلّ ذهنية منهما لن تحدّد مستقبل تركيا أو مستقبل الكرد فحسب، بل سترسم مستقبل المنطقة والشرق الأوسط عموماً؛ لذا ينبغي على تركيا إمّا أن تتّخذ من الذهنية الديمقراطية ومن التعدّدية أساساً لها؛ وبالتالي تضمن بقاءها ووجودها، أو أن تستمرّ في الذهنية الطورانية والعنصرية القومية؛ وبالتالي ستتّجه تركيا نحو التقسيم والانهيار.