مستقبل العلاقة السورية – الإيرانية في ضوء المتغيّرات الإقليمية والدولية
تُعَدُّ العلاقة السورية – الإيرانية من أقوى العلاقات في منطقة الشرق الأوسط؛ حيث قامت على أساس التعاون الاستراتيجي المشترَك منذ الثمانينات، لكن المستقبل القريب والبعيد لهذه العلاقة يبدو محاطاً بالعديد من المتغيّرات الإقليمية والدولية، خاصة مع التطوّرات الجارية في غزة ولبنان، والاحتمالات المرتبطة بولاية ترامب الجديدة لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى مواقف الدول الغربية والسعي نحو التطبيع مع الدول العربية وتركيا. هذه العوامل ستؤثّر بشكل كبير على العلاقة بين سوريا وإيران، فضلاً عن تأثيراتها على مختلف القوى الداخلية مثل “الإدارة الذاتية” في شمال وشرق سوريا.
العلاقة السورية – الإيرانية في المستقبل القريب:
تُعتبَر إيران داعمًا رئيسيًا للمقاومة الفلسطينية، لاسيّما حركة حماس والجهاد الإسلامي، وتصاعد الأحداث في غزة يعزّز دور إيران كقوة مؤثّرة في القضية الفلسطينية، ممّا يدفع النظام السوري للبقاء في تحالف وثيق مع طهران، حيث تُعدّ سوريا منصّة استراتيجية لإيران في دعم المقاومة ضدّ إسرائيل.
وفي لبنان، ومع استمرار النفوذ الإيراني عبر حزب الله، يزداد تماسك العلاقة السورية – الإيرانية، حيث يعزّز حزب الله التحالف بين دمشق وطهران، وهذه العلاقة العسكرية والسياسية تُعتبَر محورية للنفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ما يربط سوريا بطهران بشكل وثيق في مواجهه تهديدات إسرائيل والغرب.
وبعد فوز ترامب مجدّدًا، فإنّه من المتوقّع أن تتّبع الولايات المتحدة سياسة الضغط القصوى على إيران، بما في ذلك فرض عقوبات شديدة؛ وهذا من شأنه أن يدفع إيران لتعزيز وجودها العسكري والاقتصادي في سوريا كقاعدة أمامية في مواجهة الضغوط الأمريكية.
قد يسعى النظام السوري إلى تحسين علاقاته مع الدول الغربية والعربية كجزء من استراتيجياته لتخفيف العزلة، لكنّه سيظلّ بحاجة ماسّة إلى الدعم الإيراني في مواجهة التحدّيات الأمنية والاقتصادية، وهو مّا سيعزّز الاعتماد السوري على طهران.
تسعى الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بشكل مستمرّ لممارسة ضغوط على النظام السوري لتحقيق تسوية سياسية تتضمّن تغييرًا في الهيكل السياسي وإجراء إصلاحات، وإذا ما استمرت هذه الضغوط فقد يحاول النظام السوري توسيع قاعدة علاقاته الدولية وتخفيف اعتماده على إيران بشكل تدريجي، ولكن في الوقت ذاته ستظلّ إيران الشريك الاستراتيجي الأهمّ، خاصة في مواجهة التهديدات الغربية.
بدأ النظام السوري، بعد عقد من العزلة، بالتقارب مع بعض الدول العربية، خصوصًا الإمارات والسعودية؛ والتطبيع مع هذه الدول قد يخفّف من الضغط الغربي على سوريا، ويوفّر لها فُرصًا اقتصادية، ولكن هذا التطبيع قد يفرض على النظام السوري تقليص النفوذ الإيراني، خصوصًا في المجالات العسكرية والأمنية.
لكن، في نفس الوقت، قد يكون التطبيع العربي مشروطًا بتقليص الوجود الإيراني، وهو ما يضع النظام السوري في موقف صعب للاختيار ما بين الحفاظ على تحالفه مع إيران أو فتح آفاق جديدة مع الدول العربية.
وعلى الرغم من التوتّرات التاريخية بين سوريا وتركيا، إلّا أنّ التطبيع بين البلدَين قد يشهد خطواتٍ متسارعةً في المستقبل القريب، خاصة في ظلّ التغيّرات في السياسة الإقليمية؛ فتركيا تسعى لتقليص نفوذ مشروع الأمّة الديمقراطية في شمال سوريا، بينما تسعى دمشق لتعزيز سيادتها على الأراضي السورية، وهذا التقارب بين أنقرة ودمشق قد يعزّز موقف سوريا في المنطقة، لكنّه قد يؤدّي في الوقت ذاته إلى توتّرات مع إيران التي تعتبر أي تقارب مع تركيا تهديدًا لمصالحها في المنطقة.
العلاقة السورية-الإيرانية على المدى البعيد:
1- احتمالات التحوّل في طبيعة العلاقة:
قد تشهد العلاقة السورية – الإيرانية في المستقبل البعيد تحوّلًا نحو نموذج أكثر استقلالية للنظام السوري، وإذا استمرّ تطبيع سوريا مع الدول العربية وتركيا وبدأت العقوبات الغربية بالتخفيف، فحينها قد يسعى النظام السوري لتقليل اعتماده على إيران في العديد من المجالات، خاصة إذا ما كانت هذه العلاقة تعيق استعادة علاقات سوريا مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى.
2- تأثّر العلاقة بحسابات القوى الإقليمية:
من المرجّح أن تؤثّر العلاقات بين إيران وروسيا على مدى تمسّك سوريا بتحالفها مع طهران، وإذا ما تحقّق توازن في النفوذ بين طهران وموسكو، فحينها قد يسعى النظام السوري لتحجيم علاقته مع إيران لتحقيق توازن إقليمي أكبر، ومع ذلك، ستظلّ إيران تشكّل شريكًا أساسيًا في الاستراتيجيات الأمنية والاقتصادية السورية على المدى الطويل، خاصة في ظلّ التحدّيات الداخلية والخارجية.
3- تأثير التطبيع العربي والتركي على النفوذ الإيراني:
إذا استمرّ التطبيع العربي مع النظام السوري ونجحت تركيا في التأثير على السياسة السورية بشكل أكبر، فإنّ النفوذ الإيراني قد يضعف في بعض المناطق السورية، أمّا إذا فشل هذا التطبيع أو تعرّضت العلاقة التركية -السورية للاهتزازات، فإنّ إيران قد تظلّ الضامن الرئيسي لبقاء النظام السوري، وهو ما يعزّز من تماسك العلاقة على المدى الطويل.
تأثير هذه العلاقة على “الإدارة الذاتية” في إقليم شمال وشرق سوريا:
تُعَدُّ “الإدارة الذاتية” في شمال وشرق سوريا إحدى القوى التي قد تتأثّر بشكل مباشر بمستقبل العلاقة السورية -الإيرانية.
تعزيز النفوذ الإيراني:
إذا استمرّت العلاقة السورية – الإيرانية بشكل قويّ، فإنّ “الإدارة الذاتية” ستواجه المزيد من الضغط، خاصة في ظلّ الرفض الإيراني لمزيد من النفوذ التركي في سوريا.
وإذا نجح التطبيع بين سوريا وتركيا، فقد تتعرّض “الإدارة الذاتية” لمزيد من التهميش في السياسة السورية؛ فالتطبيع قد يعزّز موقف تركيا في شمال سوريا، ممّا سيضعف من قدرة “الإدارة الذاتية” في الحفاظ على استقلالها السياسي.
وقد شهدت الفترة الأخيرة زيارات متتالية لوفود وقيادات إيرانية إلى دمشق، وهو ما يعكس استمرار العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، حيث تجمعهما مصالح أمنية واقتصادية وسياسية عميقة، فزيارة القيادات الإيرانية في هذه الفترة تحديدًا تأتي في سياق عدد من التطوّرات الإقليمية والدولية الكبرى، أبرزها استمرار حرب إسرائيل ضدّ غزة، وفوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة، والتعيينات السياسية المهمّة في الإدارة الأمريكية.
لنطرح سؤالًا حول دوافع هذه الزيارة في ضوء هذه المتغيّرات ونحاول الإجابة على الشكل التالي:
أولًا: الدوافع الاستراتيجية لزيارة القيادات الإيرانية إلى دمشق:
تعزيز التعاون في مواجهة الضغوط الغربية والإقليمية، فإيران وسوريا تشتركان في مواجهة الضغوط الأمريكية والغربية، والتي تزداد وتيرتها في ظلّ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ويمثّل فوز ترامب، المعروف بسياسة الضغط القصوى على إيران، تحدّيًا كبيرًا على طهران، وهو ما يجعل التعاون مع دمشق أمرًا بالغ الأهمية.
من ناحية أخرى؛ قد تكون زيارة القيادات الإيرانية إلى دمشق محاولة للتأكيد على الاستمرار في التحالف الاستراتيجي بين البلدين، ومواصلة التنسيق العسكري والأمني، خاصة في سوريا والعراق.
ترى إيران في سوريا أرضًا استراتيجية لمواجهة تهديدات إسرائيل، وهي تدعم بشدّة الوجود العسكري في سوريا عبر ميليشياتها التي تديرها، كما أنّ هذا التعاون يعزّز موقف طهران في مواجهة محاولات إضعاف نفوذها في المنطقة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
هناك دعم إيراني للوجود العسكري في سوريا في ظل حرب غزة، فالصراع المستمرّ في غزة يوفّر لإيران فرصة لتعزيز دورها كداعم رئيسيّ للمقاومة الفلسطينية عبر حركات مثل حماس والجهاد الإسلامي، وتأتي زيارة القيادات الإيرانية إلى دمشق في وقت حسّاس؛ حيث تسعى طهران لتأكيد قوّتها الإقليمية وتنسيق جهودها مع سوريا وحلفائها في المنطقة، خصوصًا في ظلّ تزايد الهجمات الإسرائيلية على غزة والمخاوف من تصعيد أوسع في المنطقة.
من المحتمَل أنّ طهران تسعى أيضًا، من خلال هذه الزيارة، لتعزيز التنسيق مع سوريا بشأن كيفية مواجهة التحدّيات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية ولبنان وسوريا.
ثانيا: الاستعدادات لإدارة المرحلة المقبلة في المنطقة:
إيران، وفي ظلّ احتمال استمرار سياسة ترامب المعادية لها، بحاجة إلى حلفاء أقوياء لتأمين مصالحها في المنطقة، وقد تكون زيارة القيادات الإيرانية مؤشّرًا على استعداد طهران لإدارة المرحلة المقبلة من المواجهة مع الغرب، والتي قد تتضمّن زيادة الدعم العسكري والاقتصادي لسوريا، بما في ذلك تعزيز الوجود الإيراني في المناطق الاستراتيجية مثل دير الزور ودرعا.
العلاقات الإيرانية – السورية في سياق المتغيّرات الدولية:
1- فوز ترامب وتأثيره على العلاقة بين سوريا وإيران:
فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية يعزّز من فرص تعزيز التحالف بين سوريا وإيران، فسياسة الضغط القصوى التي يتّبعها ترامب تجاه طهران ستجعل من سوريا نقطة ارتكاز استراتيجية لإيران في الشرق الأوسط، حيث يمكن أن ترفع من مستوى التنسيق العسكري والاقتصادي بين دمشق وطهران.
على الرغم من محاولات الدول العربية وسوريا للتقارب مع الغرب، خاصة عبر مسارات التطبيع مع الدول العربية، فإنّ إيران تظلّ حليفًا رئيسيًا بالنسبة للنظام السوري في مواجهة التحدّيات الأمريكية. لذا؛ يمكن أن تكون زيارة القيادات الإيرانية في إطار تكثيف التنسيق مع دمشق في مواجهة الضغوط الخارجية، وتأكيدًا على أنّ سوريا لن تبتعد عن طهران في هذه المرحلة الصعبة.
- التعيينات الأمريكية الجديدة وتأثيرها على العلاقة:
التعيينات التي يقوم بها ترامب في إدارته، خصوصًا في مجالات الأمن والدفاع، قد تؤدّي إلى مزيد من التصعيد في سياسة الضغط على إيران؛ فهؤلاء المسؤولون الجدد قد يساهمون في تأكيد سياسة التصعيد ضدّ طهران، ممّا يضع سوريا في موقف صعب بين دعم طهران والضغط الدولي. ومع ذلك؛ ستظل سوريا معتمدة على إيران من أجل تعزيز قدرتها الدفاعية والأمنية، وهو ما يعزّز العلاقة بين البلدين.
ثالثا: انعكاسات زيارة القيادات الإيرانية على الوضع الإقليمي:
1- توتّر العلاقات مع إسرائيل:
الزيارة الإيرانية قد تثير التوتّر مع إسرائيل التي تراقب عن كثب أي تحرّكات إيرانية في سوريا، فتل أبيب ترى في تعزيز التعاون الإيراني – السوري تهديدًا مباشرًا لأمنها، وتستعدّ لشنّ هجمات ضدّ المواقع الإيرانية في سوريا، ومن المتوقّع أن تستمرّ الضغوط الإسرائيلية على دمشق وطهران، ممّا يجعل الزيارة الإيرانية في هذه الفترة تأكيدًا على الثبات في السياسة الإقليمية لكلا البلدين.
2- تداعيات على الدول العربية وتركيا:
قد تكون لزيارة القيادات الإيرانية إلى دمشق تبعات على عملية التطبيع بين النظام السوري والدول العربية، فبينما تبذل بعض الدول العربية جهودًا لتطبيع العلاقات مع دمشق، فإنّ تحالف سوريا مع إيران قد يعرقل هذه الجهود، خاصة في ظلّ التحفّظات الخليجية على النفوذ الإيراني في المنطقة.
أمّا بالنسبة لتركيا، فإنّ الزيارة الإيرانية قد تعيد تأكيد التحالف بين دمشق وطهران في مواجهة التحدّيات المشتركة، وتركيا التي تتنافس مع إيران على النفوذ في سوريا قد تراقب هذه التطوّرات عن كثب، وقد تشهد زيادة في التدخّلات الإيرانية في المناطق التي تعتبرها تركيا ذات أهمية أمنية.
رابعًا: تأثير الزيارة على “الإدارة الذاتية” في شمال وشرق سوريا:
زيارة القيادات الإيرانية إلى دمشق تأتي في وقت حسّاس بالنسبة للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، التي تسعى لتحقيق نوع من الاستقلالية.
تعزيز النفوذ الإيراني في شمال سوريا:
من الممكن أن تكون الزيارة بمثابة دعم إضافي للنظام السوري في الضغط على “الإدارة الذاتية”، خصوصًا في مناطق مثل منبج ودير الزور والرقة؛ حيث تحاول إيران تعزيز دورها عبر الميليشيات الموالية لها.
إضعاف موقف “الإدارة الذاتية”:
مع استمرار دعم إيران للنظام السوري، قد تجد “الإدارة الذاتية” نفسها تحت ضغط أكبر لتنسيق سياساتها مع دمشق، خاصة في ضوء العلاقة الاستراتيجية بين طهران ودمشق، وهذا الضغط قد يتصاعد في المستقبل، ممّا يجعل من الصعب على “الإدارة الذاتية” الحفاظ على استقلاليتها في ظلّ هذه المتغيّرات.
إنّ زيارة القيادات الإيرانية إلى دمشق، في هذه الفترة الحاسمة، تعكس أهمية العلاقة الاستراتيجية بين البلدين في مواجهة المتغيّرات الإقليمية والدولية، خاصة في ظلّ حرب غزة وفوز ترامب، ومن المرجّح أن تكون لهذه الزيارة تأثيرات كبيرة على السياسة السورية والإيرانية في المستقبل القريب، بما في ذلك تعزيز التعاون في مواجهة الضغوط الغربية والإسرائيلية، والتأكيد على تماسك العلاقة بين طهران ودمشق رغم المحاولات الإقليمية والدولية للضغط على هذا التحالف.
مستقبل العلاقة السورية – الإيرانية في ظلّ المتغيّرات الإقليمية والدولية سيكون معقّدًا، وفي المستقبل القريب ستظلّ هذه العلاقة محورية للنظام السوري في مواجهة الضغوط الغربية والعربية، إلّا أنّ التطوّرات في غزة ولبنان وفوز ترامب قد تؤدّي لتحولات تدريجية في هذه العلاقة، أمّا في المستقبل البعيد، فقد يسعى النظام السوري لتحقيق توازن في علاقاته الإقليمية لتخفيف الاعتماد على إيران، خاصة في ظلّ تطبيع العلاقات مع الدول العربية وتركيا.