الربيع التركي

مع مجيء حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان إلى السلطة بدأت ملامح الدولة التركية تتغير من دولة علمانية إلى دولة إسلامية، ولكونه يرى نفسه سلطاناً ويحلم في بناء دولة عثمانية جديدة، فقد حول النظام التركي إلى نظام ديكتاتوري. ومن أجل الحفاظ على سلطته تحالف مع الحركة القومية وألغى اتفاقية السلام مع حزب العمال الكردستاني وسخر الانقلاب العسكري المزعوم لخدمة أهدافه وأطماعه، فقام بحملة اعتقالات طالت جميع الفئات من عسكريين وسياسيين وصحفيين ورجال أعمال ومدنيين، جعلت السجون التركية تكتظ بالمعتقلين بتهم معدة سلفاً وهيَّ ارتباطهم بحركة غولن أو حزب العمال الكردستاني  لتصفية معارضيه ولزيادة سطوته أكثر، كما أن التعديلات الدستورية في ربيع عام 2017، كإلغاء منصب رئيس الوزراء، ومنح الرئاسة التنفيذية الجديدة سلطة تعيين القضاة، من دون استشارة البرلمان، سمحت له بممارسة السلطة التنفيذية كرئيس للجمهورية، وقد أتاح ذلك فرصة لأردوغان لاصطفاء القضاة الموالين له، من أجل ضمان القرارات القانونية التي تناسب حزبه وتراعي أولوياته، كما أعطته التعديلات سيطرة أكبر على القوات المسلحة. حيث عزّزت التعديلات الدستورية سلطات الرئيس، فأصبح الآمر الناهي في البلاد.

إنَّ السياسة الداخلية والخارجية التي أتبعها السلطان العثماني، جعلت تركيا في حالت تخبط. فمن الناحية الداخلية عصفت بالبلاد أزمة اقتصادية غير مسبوقة، حيث بلغ التضخّم إلى أكثر من 36% خلال عام واحد، وهو رقم قياسي منذ سبتمبر 2002، بسبب تراجع قيمة الليرة التركيّة، وفي هذا السياق فقد أقال أردوغان، رئيس هيئة الإحصاء سعيد إردال دينغر بعد كشفه معدل التضخم الحقيقي في تركيا. ويرجح الكثير من الاقتصاديين أن أسباب الأزمة الاقتصادية الحالية في تركيا تعود إلى سياسات  أردوغان، حيث صرح أحمد داود أوغلو بأن “أردوغان لا يفهم الاقتصاد، والناس من حوله لا يفهمون الاقتصاد، إنه على كوكب آخر”. وبعد ما يقرب من عقدين من الزمن في السلطة، طرد أردوغان كل مسؤول اقتصادي وقف في وجه سياسته الاقتصادية، الأمر الذي أسهم في وصول البلاد إلى هذه الأزمة التي تجعل الأتراك العاديين يواجهون صعوبة في تأمين احتياجاتهم بما في ذلك الأدوية. وأن “الإقالات والاستقالات” تعطي مؤشراً على عدم استقلالية السياسة النقدية لتركيا، وهو الأمر الذي قد ينعكس بالسلب على قطاع الاستثمار، خاصة بعد أن قامت الحكومة التركية برفع أسعار الكهرباء والمحروقات. أما خارجياً فقد تدخل أردوغان في جميع أزمات الإقليمية والدولية بدون استثناء في سوريا والعراق وليبيا واليمن وتونس وأذربيجان وأفغانستان، واستنزف موارد الدولة في سبيل إنفاقه على تدخلاته العسكرية بدل الالتفات إلى أزمات بلاده الداخلية، حيث بات حملاً ثقيلاً على الشارع التركي. كما وانتهج أردوغان سياسة الاستثمار في الحروب وعينه على ثروات المنطقة، بهدف إنقاذ اقتصاده المنهار وتأمين دعائم لحزبه وثبيت حكمه وإلهاء من تبقى من قادة الجيش في حروب جديدة وإغراق بلاده في مقامرات عسكرية لا طائل لها واستجلب عداوات مجانية لطالما كانت تركيا في غنى عنها خصوصا تجاه دولٍ حليفة لها.

ونتيجة لتلك السياسة بدأ حزب العدالة والتنمية يشهد تآكلاً في شعبيته في ظل استمرار نزيف الاستقالات، حيث يواجه الحزب الحاكم الذي يعيش منذ نحو سنتين على وقع انشقاقات في صفوف أبرز مؤسسيه وقياداته رفضاً لسياسات الحزب التي لا تتماشى مع احتياجات تركيا اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، شبح الخسارة والانتكاسة في الانتخابات القادمة. فمع نهاية عام 2021  تراجعت شعبية أردوغان بشكل كبير، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى انخفاض في شعبيته من 52% إلى ما بين 30 و40%. كما أن 64٪ من الأتراك لا يرون أن الحكومة قادرة على حل المشكلات الاقتصادية. لذا من البديهي ظهور دعوات لإجراء انتخابات مبكرة لإنقاذ تركيا من السقوط في الهاوية، واجتماعات مكثفة لأحزاب المعارضة من أجل الوقوف في وجه الحزب الحاكم، لإخراج البلاد من الأزمات التي تعصف بها.

إلا أن تعنت أردوغان في سياسته الداخلية والخارجية، قد تأتي على تركيا بوابل من الانعكاسات والأزمات التي لا يحمد عقباها. هذا التعنت جعلت المدن التركية الرئيسية تشهد احتجاجات وتصعيداً يتجه فيه الشارع التركي عاجلاً أم آجلاً وأكثر من أي وقت مضى وفقاً للتوقعات، نحو ثورة شعبية أو انتفاضة ضد أردوغان وحزبه، جعلت أردوغان يطلق تصريحات عدائية تجاه خصومه ورفضه التخلي عن الحكم وكونه يتمتع بالسلطة المطلقة ما يجعل من المشكوك فيه أن يتخلى عن السلطة دون قتال، ولأن أردوغان يخشى في حال خسارته في الانتخابات من فتح ملفات الفساد التي تدينه وتدين الدائرة المقربة منه. لذا فأغلب السناريوهات المتوقعة ضمن هذه السياسة التي ينتهجها أردوغان هيَّ شبيهة بما حصلَ في الدول العربية “الربيع العربي”. وبالتالي فإن أردوغان من أجل الحفاظ على السلطة قد يلجأ وداعميه إلى زعزعة الاستقرار في الداخل، والدخول في حروب خارجية خاصة في سوريا، وتقديم التنازلات لبعض الدول ذات الثقل الاقتصادي والسياسي “الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة” للحصول على الدعم الاقتصادي والسياسي تمكنه من الفوز بولاية ثالثة. وفي حال فشله بإخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية والسياسية واستمرار تدهور شعبيته قبيل الانتخابات فقد يلجأ إلى عمليات تزوير نتائج الانتخابات أو توجيه تهم الخيانة لمنافسيه وزجهم في السجون, لضمان فوزه لولاية جديدة، لذا من المستبعد التخلي عن السلطة بسهولة والكثير من ملفات الفساد تطارده، الأمر الذي سيقلب الشارع التركي رأساً على عقب.

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى