تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الغرب

بوتين الذي ظهر خلال السنوات الماضية بصفته الزعيم القوي الذي أعاد لروسيا هيبتها على الساحة الدولية كقوة عظمى، لم يغفل عن مخاطر الزحف الغربي “حلف الناتو” نحو الشرق، حيث باتت روسيا تخسر محيطها. فخلال عهده ضم حلف الناتو 11 بلداً جديداً، كما خسرت روسيا حضورها وتأثيرها الشعبي في بعض الدول المجاورة “أوكرانيا”. كل ذلك بات يشكل تهديداً على الأمن القومي الروسي، وأمام هذه الأوضاع لم يجد بوتين أي حل سوى التصعيد العسكري أمام الغرب وشن حرباً على أوكرانيا لضمان عدم تلقي ضربات جديدة.

ومع إعلان الحرب بدأ حلف الناتو بالتحرك وتدعيم جبهتها الشرقية لمنع أي اجتياح روسي لدول الحلف، دون أن تنخرط في الحرب الروسية الأوكرانية وترك أوكرانيا وحيدةً تواجه مصيرها، واكتفت بفرض عقوبات اقتصادية على موسكو وتقديم الدعم العسكري لكييف، إلا أن هذه العقوبات والتي يراها الحلف بأنها ستشل قدرة موسكو في حربها على أوكرانيا، لم تكن بتلك الجدية التي تؤثر على موسكو في بادئ الأمر، فقد اختلفت حدة العقوبات من دولة إلى أخرى وذلك بحسب مصالحها الاقتصادية مع موسكو وخشيتها من ردود فعل عكسية روسية تؤثر على اقتصادها، حتى إن بعض الدول عارضت فرض عقوبات على موسكو. 

أما لماذا شن الرئيس الروسي الحرب على أوكرانيا في هذا التوقيت وهو كان يشاهد انضمام الدول المحيطة بروسيا إلى حلف الناتو؟

بوتين كان يدرك مخاطر انضمام دول شرق أوروبا إلى حلف الناتو وتهديد أمنها القومي إلا أنه لم يكن لديه القوة للوقوف في وجه الغرب ومنعه من ضم دول جديدة، إلا بعد تقوية جبهته الداخلية واستغلال أزمات الشرق الأوسط لتقوية روسيا خارجياً، فالأزمة السورية منحت روسيا موطئ قدم لها في المتوسط ،وجعلت سوريا قاعدة عسكرية متقدمة لها “قاعدة حميميم الجوية، قاعدة طرطوس البحرية” في وجه حلف الناتو، وإقامة علاقات قوية مع الدول المصدرة للغاز، وحتى مع الدول المستورة للغاز الروسي “ألمانيا وتركيا” من خلال ربطهم بمشاريع اقتصادية ” السيل الشمالي2 والسيل التركي” مكنته من حماية أمدادات الغاز الروسية إلى الدول الأوروبية, كما أنها بتدخلها في أزمات الشرق الأوسط أوقفت المشاريع الغربية لنقل الغاز من الشرق الأوسط إلى أوروبا. فالدول الأوروبية حتى الآن لم تستطع الاستغناء عن الغاز الروسي مما يجعلها غير قادرة على اتخاذ موقف قوي تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن يبدو أن تطورات الحرب الروسية الأوكرانية بدأت تتسارع وباتت الدول الغربية أكثر إصراراً على فرض عقوبات على روسيا فقد عمدت دول كثيرة إلى إغلاق مجالها الجوي أمام الطيران الروسي وقيام بعض الدول بغلق موانئها أمام الملاحة الروسية، وابعاد بعض البنوك الروسية “والتي بلغت حتى الآن سبعة بنوك” من نظام سويفت، إلى جانب انسحاب عمالقة النفط والغاز من روسيا ” شركتي شل، وبيتروليوم” من روسيا التي تهدف إلى خنق موسكو بالضغط على شرايين الاقتصاد، فخروج كبرى شركات الطاقة الأجنبية سيعطل بشكل كبير الانتاج والاستثمار في قطاعي النفط والغاز حيث تشكل عائدات النفط والغاز 36% من الموازنة العامة. وغيرها من العقوبات، مما دفع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوضع “قوة الردع” في الجيش الروسي، وهي قوة تشمل عنصرا نووياً، في حال التأهب متهما الغرب باتخاذ مواقف “عدوانية” تجاه بلاده.

من السهل إعلان الحرب، لكن من الصعب إيقافها، وزيادة العقوبات على موسكو تجعل الأمور أكثر تعقيداً، والتي قد تدفع روسيا لوقف امدادات الغاز والنفط إلى أوروبا وهو ما تخشاه الدول الأوروبية، لذا فالعقوبات الغربية على الرغم من انسحاب كبرى شركات النفط والغاز من روسيا، إلا أنها لم تطل أمدادات الغاز والنفط الروسي، وهيَّ ورقة قوية بيد روسيا تجاه الغرب حتى الآن.

تعتبر دول الأتحاد الأوروبي من أكثر المتضررين من الحرب الروسية الأوكرانية، ارتفاع أسعار الغاز والنفط عالمياً إلى جانب وقوعها تحت رحمة الغاز الروسي، وموجة الهجرة التي هيَّ في الأساس تعاني منها دول الاتحاد الأوروبي، ومستقبل الاستثمارات الاقتصادية بين الطرفين . أما الولايات المتحدة فهي المستفيد الأكبر من الحرب، فالعقوبات التي تم فرضها على روسيا ستؤتي بثمارها في المستقبل القريب والتي قد تزيح روسيا كمنافس للولايات المتحدة كقطب ثاني “من الممكن تشبيه الغزو الروسي لأوكرانيا بالغزو العراقي للكويت وكيف تم تحييد العراق كقوة إقليمية”، كما أن الحرب جعلت الدول الأوروبية أكثر تمسكاً بالولايات المتحدة كطرف قوي قادر على حماية أمنها القومي . لذا فإن إطالة الحرب ستخدم الولايات المتحدة في الحفاظ على مكانتها العالمية وتستنزف قدرات روسيا العسكرية والاقتصادية، مما يجعلها تتفرغ للصين في المستقبل القريب، في حال لم تستطع روسيا إنهاء الحرب لصالحها. وما يثبت إن الولايات المتحدة تريد إطالة الحرب، اكتفائها بفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا وإرسال جنودها إلى شرق أوروبا، وعدم رغبتها حتى الآن في الانخراط  بأي مفاوضات مع روسيا. فالمفاوضات الروسية الأوكرانية لن تأتي بأي ثمار في الوقت الحالي ما لم تنخرط الدول الكبرى في هذه المفوضات، بل على العكس ستستمر الحرب وقد تتجه الأوضاع نحو تقسيم أوكرانيا “على غرار ألمانيا” إلى قسمين شرق نهر الدنيبر مع سواحل البحر الأسود تحت السيطرة الروسية وغرب نهر الدنيبر تحت الحماية الغربية، وفي حال دخول الروس إلى كييف من المحتمل أن يقوم حلف الناتو بفرض حظر جوي على غرب نهر الدنيبر، وذلك لحماية دول الناتو من أي اجتياح روسي لها. هذا التقسيم وإن كان سيؤثر على أوروبا إلا أنها ستكون وورقة قوية بيد الولايات المتحدة لاستمرار العقوبات على روسيا والتفرغ للصين.

 

زر الذهاب إلى الأعلى