الأزمة البنيوية في الشرق الأوسط وإعادة توزيع الأدوار

أحمد بيرهات

 

قراءة سياسية – تحليلية في تحوّلات الشرق الأوسط بعد سقوط النظام السوري

مقدّمة:

عند محاولتنا قراءة المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، سنلاحظ، وبشكل لا يدع مجالاً للشكّ أنّ التوازنات القديمة التي كانت مطبّقة في المنطقة طوال قرن كامل آخذة في الانهيار والتفكّك، وأنّ أدواتِ الحداثة الرأسمالية بأشكالها المختلفة يُعاد تدويرها وتبديل أدوارها بما يتناسب مع حاجات النظام العالمي وإعادة رسم خرائط النفوذ، يترافق ذلك مع مساعٍ جدّية لإيجاد حلول للأزمات البنيوية المتفاقمة التي تعيشها أنظمة الشرق الأوسط من جهة، ومع محاولات تكريس الهيمنة على شعوب المنطقة من جهة أخرى.

وفي هذا السياق المتداخل تتصاعد الأسئلة التأمّلية الكبرى التي تتعلّق بطبيعة المأزق التاريخي الذي تعيشه المنطقة، وهو ما يذكّرنا بما عبّر عنه المفكر الألماني ثيودور أدورنو (1903–1969) حين قال: “الحياة الخاطئة لا يمكن أن تُعاش بصواب”، وهي عبارة تؤكّد، أنّه لا يمكن بناء حلول صحيحة فوق بنية سياسية خاطئة أو مشوّهة وغير سليمة.

وعلى هذه الحالة فإنّ الخطوة الأولى نحو أي مشروع للحل تبدأ من تشخيص دقيق لوضع المنطقة، وتحليل عناصر الانسداد التاريخي، وتحديد مواقع الخلل البنيوي فيه، وتوجيه البوصلة نحو الاتجاه الصحيح قبل القيام بأي عملية بناء جديدة، فكلّما كان التشخيص صائباً، كانت إمكانية تحديد طبيعة الأزمة أو المرض أكثر وضوحاً، وكانت بداية الحل أكثر متانة وواقعية وقبولاً، وعليه؛ يصبح من الضروري أن نكون في قراءتنا هذه واضحين في أهدافنا، واقعيين في أسئلتنا التأمّلية، و في رؤانا الفكرية والسياسية والاجتماعية، وأكثر مرونة في وسائل الوصول إلى تلك تحقيق هذه الرؤى، خاصة في ظل التحوّلات السريعة التي تعصف بالمنطقة عامةً، وانهيار أنماط واشكال السيطرة التي كانت تبدو راسخة لسنوات طويلة خلت.

كرنولوجية التحوّلات في المنطقة

مع بداية القرن العشرين، وفي خضمّ تشكل الشرق الأوسط الحديث، برز هدفان رئيسيان لدى القوى الاستعمارية الكبرى (انكلترا وفرنسا):

أولاً: تفكيك الإمبراطورية العثمانية وتوزيع إرثها عبر إنشاء دول قوموية ضعيفة قابلة للإدارة والسيطرة.

ثانياً: تأسيس دولة يهودية (أرض الميعاد) في فلسطين، ليكون القوة المهيمنة مستقبلًا في منطقة الشرق الأوسط. وعلى هذا الأساس صُمّمت خرائط النفوذ، وتم ترتيب علاقات إقليمية تُسهّل استمرار هيمنة رأس المال الغربي.

وعندما كشف قائد “ثورة أكتوبر” الاشتراكية فلاديمير لينين (1871-1924) معاهدة سايكس-بيكو بعد انتصار الثورة البلشفية عام 1917، انكشف جزء كبير من المخطّط الذي قاد إلى الحرب العالمية الأولى؛ صراع القوى على منطقة الشرق الأوسط وثرواته وموقعه الاستراتيجي لكل الاطراف.

بعد انسحاب روسيا القيصرية من الحرب، سارعت الحركة الكمالية في تركيا بقيادة مصطفى كمال “أتاتورك” إلى ملء الفراغ في الأناضول، وقد استفادت من الدعم المباشر الذي تلقّته من الثورة السوفييتية آنذاك، كما استفادت من تشتّت القوى الكردية التي لم تكن قد وصلت بعد إلى شكل تنظيمي موحّد (رغم محاولاتها المتعدّدة، بالتعبير عن نفسه كشعب صاحب قضية ويجب حلّها، وفق مطالب شعب مضطهد يطالب بحقوقه)، وبانتصار الحركة الكمالية في حربها مع اليونان، تعذّر تنفيذ معاهدة سيفر1920 وما تضمّنته من اعتراف واضح بالحقوق السياسية القومية للكرد (بنود61-62-63)، فاستبدلت القوى الغربية بها اتفاقية لوزان (1923) التي كرّست نشوء تركيا الحديثة دولة مركزية ذات طابع قومي صارم (فاشية)، ومنذ ذلك التاريخ تم تكليف تركيا بمهمّتَين استراتيجيّتَين في الشرق الأوسط:

1- حماية المصالح الغربية وتأمين البيئة المناسبة لبناء إسرائيل مستقبلاً، حيث قدمت تركيا نفسها نموذجاً للحداثة القومية المتماشية مع مصالح الغرب، واعتُبرت أول شكل للدولة التي ستمهّد لنشوء إسرائيل لاحقاً (إسرائيل البدائية)، وهذا ما عبّر عنه المفكّر عبد الله أوجلان (1949-…) في مانيفستو الحضارة الديمقراطية: “قامت القومية الصهيونية بإنشاء ذاتها في الأناضول أولاً (قبل قيام إسرائيل)، وبسطت سيطرتها تحت ستار “التركياتية البيضاء” والقومية التركية، موضوع الحديث هنا هو إسرائيل بدائيةٌ صغرى”(1)

2- تطويق الاتحاد السوفييتي من الجنوب، وبموجب هذا الدور، قبلتها واشنطن في حلف الناتو، وجرى تعزيز مكانتها كدولة مانعة لأي تمدّد اشتراكي – شيوعي نحو الشرق الأوسط، هذا الدور شكّل الأساس الأيديولوجي والسياسي لسياسات الإبادة والصهر بحق الشعب الكردي، إذ جرى تعريف الكرد كعدوّ داخلي مطلق للدولة القومية التركية، فالدولة التركية تأسّست على سياسة الانكار (جمهورية الانكار).

وقد استمرّت هذه التفاعلية (التي تجمع بين خدمة الحداثة الرأسمالية وممارسة القمع الداخلي) دون أي تعديل جوهري طوال قرن كامل، إلى أن بدأت التوازنات تتصدّع مع نهاية الحرب الباردة وتراجع فعالية الدولة القومية كأداة ضامنة لمصالح قوى الهيمنة العالمية.

إعادة رسم وتصميم خريطة الشرق الأوسط

ممّا لا شكّ فيه أنّ مشروع إعادة تصميم الشرق الأوسط ليس وليد اللحظة، بل هو عملية ممتدّة بدأت فعلياً منذ سقوط جدار برلين في تشرين الثاني عام 1989، وما تلاها من اندلاع حرب الخليج الثانية*، وكذلك انهيار الاتحاد السوفيتي رسمياً في 26-11-1991، وجاءت مفاوضات مدريد عام (1991) واتفاقيات أوسلو عام (1993) لتؤسّس لمسار تفاوضي بين العرب وإسرائيل، شمل بشكل مباشر المسار الفلسطيني، وبصورة غير مباشرة المسار السوري-الإسرائيلي، في لحظة بدا فيها أنّ المنطقة تتّجه نحو تسويات سياسية كبرى تحت رعاية دولية، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي، وفي هذا السياق المتحوّل، برزت التهديدات التركية لسوريا وخاصة في عام 1998، التي انتهت بخروج القائد والمفكّر الكردي عبد الله أوجلان، ثم أسره في كينيا عام 1999 بمشاركة دول عديدة، في واحدة من

*(حرب الخليج الثانية بدأت باحتياج العراق للكويت في 2آب عام 1990 وانتهت في 28شباط بوقف اطلاق النار مع قوات التحالف الدولي التي تشكلت آنذاك من ثلاثين دولة) المعرفة

أكثر اللحظات دلالة على هشاشة السيادة الوطنية في ظل الضغوط الإقليمية والدولية، وقد شكّل هذا الحدث مؤشّراً على التحالفات الناشئة آنذاك، وعلى بدء إعادة ترتيب موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط.

ثم جاءت هجمات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة لتفتح مرحلة جديدة من التدخّلات العسكرية تحت عنوان “الحرب على الإرهاب”، وكانت نتيجتها الأبرز في منطقتنا سقوط نظام البعث في العراق عام 2003، وما رافقه من تفكيك للدولة والمجتمع، وإشعال لانقسامات طائفية وقومية عميقة ما تزال آثارها حاضرة حتى اليوم.

ومع حلول عام 2011، شهدت العديد من البلدان العربية موجة احتجاجات شعبية واسعة عُرفت في الإعلام الغربي بـ “الربيع العربي”، بينما وصفها المفكّر عبد الله أوجلان بأنّها كانت في جوهرها “ربيع الشعوب” التي تنشد الحرية والديمقراطية. وقد أدّت هذه الانتفاضات إلى توالي سقوط أنظمة عربية في تونس ومصر وليبيا واليمن، ودخول سوريا في واحدة من أعقد وأقسى الحروب منذ إعلان استقلالها عام 1946.

وفي خضمّ هذه التحوّلات تراجعت تدريجياً قوة ما عُرف بـ “محور المقاومة”، مع ما تعرّضت له قوىً مثل حركة حماس في عملياتها في 7 تشرين الأول 2023 ضد إسرائيل، ومشاركة حزب الله في النيل من تبعات الهجوم الذي نفّذته حركة حماس، وبنتيجتها تلقّى الطرفان ضربات سياسية وعسكرية، وتم التضييق الإقليمي والدولي عليهما، وصولاً إلى إضعاف الدور الإيراني في عدد من ساحات النفوذ التقليدية لها.

وتوّجت أخيراً هذه السلسلة الطويلة من التحوّلات بسقوط نظام الأسد، في لحظة مفصلية أعادت طرح سؤال المستقبل السياسي لسوريا، وشكل الدولة، وطبيعة النظام القادم، لتدخل البلاد من جديد في مفترق طرق تاريخي تتصارع فيه مشاريع متعدّدة: بين إعادة إنتاج المركزية، أو الذهاب نحو نماذج جديدة قائمة على اللامركزية والديمقراطية المجتمعية.

هذه الأحداث المشار إليها أدخلت النظام العالمي في طور إعادة تموضع جديد وشامل، التي تخلّلتها من اندلاع حوّلت العالم إلى قرية صغيرة وتحوّلت أدوات القوة الدولية؛ عاد الشرق الأوسط إلى واجهة الاهتمام كمنطقة تحتاج إلى إعادة هيكلة سياسية جديدة تتوافق مع شكل العالم الجديد، ولأجل تحقيق هذا الهدف، كان لا بدّ من تجاوز نموذج الدولة القومية الكلاسيكية التي ُشيّدت في مطلع القرن العشرين، لأنّ هذه الدولة (بحجمها وحدودها وهياكلها المغلقة) لم تعد قادرة على تلبية متطلّبات أصحاب الرأس المال العالمي التي لا تعرف حدوداً، ولا على توفير الاستقرار الذي تريده القوى الكبرى، غير أنّ هذه العملية (عملية التجاوز) كانت وما زالت مُكلِفة للغاية، وتدفع ثمنها بشكل أساسي شعوب المنطقة، وعلى رأسهم الكرد والفلسطينيون، باعتبارهم الأكثر معاناة من الخرائط الجيوسياسية التي رُسمت على حسابهم في المنطقة.

ولعلّ السبب الرئيسي في تأخّر تطبيق الخريطة الجديدة، أو تعثّرها، إن صح التعبير، يكمن في تضارب المصالح بين القوى العالمية من جهة، وبين قوى الوضع الراهن في المنطقة من جهة أخرى، فكل طرف يسعى لأن يكون نصيبه أكبر في إعادة التوزيع القادمة، وهذا يؤدّي بطبيعة الحال إلى إطالة أمد الصراع، وتأجيل اكتمال النموذج الجديد، وقد كان التدخّل الأمريكي المباشر في العراق عام 2003، وإسقاط نظام صدام حسين، أول خطوة عملية في سياق تنفيذ الخريطة الجديدة، من خلال انهيار نظام الدولة القومية في الشرق الأوسط.

وما تلا ذلك من أحداث أثبت صحّة هذا التقييم، خاصة مع هجوم 7 تشرين الأول 2023 وما تبعته من حرب إسرائيلية-إيرانية قصيرة (12 يوماً)، ثم سقوط النظام السوري لاحقاً، وهو أحد آخر نماذج الدولة القومية المتصلّبة في الشرق الأوسط، وهكذا تحوّلت المنطقة إلى بؤر توتّر وصراع مفتوحة لم تتوقّف حتى لحظة كتابة هذه السطور، مع وجود قوىً عالمية وإقليمية تعمل بإصرار على إعادة رسم شكل الدول وحدود النفوذ والتحالفات، وفق تصوّر جديد يختلف جذرياً عن التصوّرات التي حكمت القرن الماضي.

فالبنى القديمة تنهار واحدة تلو الاخرى، لكن البنى الجديدة لم تُولد بعد كما يأملها الديمقراطيون، وتعيش شعوب الشرق الأوسط الآن مرحلة انتقالية صعبة، تتراجع فيها الأنظمة، وتتقدّم أشكال جديدة من السلطة، ويبدو فيها، أن النظام العالمي كمَنْ يجرّب أكثر ممّا يخطّط، في منطقة تمثّل مركز التحوّلات السياسية على مستوى العالم.

 

شكل النظام المطروح حالياً في الشرق الأوسط

لإعادة تصميم الشرق الأوسط بهيئته الجديدة، لا بدّ من تجاوز الشكل التقليدي للدولة القومية الذي رُسم في بدايات القرن العشرين، والذي كان منسجماً آنذاك مع مصالح القوى الرأسمالية الغربية التي أرادت تفكيك الإمبراطوريات الكبرى (الألمانية والنمساوية والعثمانية) وإعادة تركيبها في صورة دول قومية وحدودية يسهل التحكّم بها، لكن هذا النموذج، في الوقت الراهن، لم يعد قادراً على أداء الدور نفسه، ولم يعد ينسجم مع مصالح رأس المال العالمي المتحوّل الذي بات أكثر عولمة، وأكثر حاجة إلى كيانات مرنة وقابلة للاختراق السياسي والاقتصادي.

فالدولة القومية وأنظمتها الحاكمة، بوصفها نموذجاً مركزياً شديد الانغلاق، أصبحت إحدى الأسباب والعوائق الرئيسية للحداثة الرأسمالية في مواكبة التحوّلات العالمية بفعل حاجات السوق والحضارة الرسمالية الغربية إلى نماذج توافق مصالحها من كافة جوانبها، إضافة للعقبات الأخرى من شبكة التجارة العالمية الواسعة والشركات المتعدّدة الجنسية، التي طوّرت الأسلحة العسكرية المتقدّمة كالنووي والصواريخ العابرة للقارات، وتدفّق المعلومات بفعل تقدّم التقنية كالأنترنيت ومؤخّراً الذكاء الاصطناعي، وحركة رؤوس الأموال الاقتصادية كالتدفّقات المالية العابرة للحدود (الرأسمال المال العالمي)، ولهذا تتّجه القوى الدولية إلى الدفع نحو نماذج سياسية جديدة تتجاوز النموذج القومي لنماذج أكثر ليبرالية وانفتاحاً ومرونة على شاكلة دول أصغر من الموجودة، لا مركزية سياسية واسعة، أنظمة دينوية أو ليبرالية، تقسيم وظيفي للسلطة، فجميع هذه الأشكال تُعدّ من وجهة نظرهم بدائل عملية عن الدولة القومية التي تعدّ أداة أساسية لتفجير الصراعات والحروب وخلق عدم استقرار وبهذه الحالة فهي لم تعد مناسبة لمنظومة العولمة الراهنة.

وهنا يظهر جوهر السياسة الجديدة المطلوب تنفيذها وهي أنّ:

تجاوز الدولة القومية لا يتم من خلال صياغات ديمقراطية أو تحريرية، بل من خلال سياسات تقليدية اعتمدها الاستعمار القديم، وعلى رأسها سياسة “فرّق تسد” التي تُعَدّ واحدة من الأدوات المفضّلة للاحتكارات العالمية، فبدلاً من بناء دول قوية، يجري اليوم تشجيع الانقسامات الأهلية والطائفية والإثنية، وإعادة توزيع السلطة بما يسمح بإنتاج كيانات سياسية ضعيفة، قابلة للاختراق، ومنسجمة مع تدفّقات رأس المال العالمي (بهدف السيطرة عليها عند الحاجة).

يظهر بكل جلاء أنّ المرحلة الحالية ليست مرحلة بناء دول، بل مرحلة إعادة ضبط المنطقة بما يتوافق مع ضرورات النظام العالمي المهيمِن الذي يعيد ترتيب ساحات نفوذه، وهكذا فإنّ كلّ التغييرات الجارية (من انهيار أنظمة قومية، إلى حروب خاطفة، إلى صعود قوى بديلة) تصبح جزءاً من عملية إعادة تشكيل شاملة، هدفها ليس إيجاد حلول لمشاكل الشرق الأوسط، بل إيجاد صيغة مستدامة لحماية مصالح القوى الكبرى فيه.

وعليه؛ فإن ما يُطرح اليوم في الشرق الأوسط ليس نظاماً جديداً بالمعنى التاريخي، بل إطاراً وظيفياً لإدارة المناطق الساخنة، وصناعة أنظمة محلية مرنة، والتأسيس لجيوسياسية قابلة للتعديل كلّما تطلّبت مصالح رأس المال العالمي ذلك، وما يؤكّد هذه الحقيقة هو أنّ جميع المشاريع المطروحة اليوم من قبل الدول المؤثّرة في وعلى المنطقة (سواء اتّخذت شكل كيانات قومية جديدة، أو نظم لامركزية، أو ترتيبات أمنية) هي مشاريع لا تستند إلى احتياجات الشعوب، بل إلى ما يخدم مصالح القوى الكبرى وحدها، مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير ومشروع الفوضى الخلّاقة الأمريكي، والشرق الأوسط الجديد، ويليها مشروع صفقة القرن – اتفاقية ابراهام الإسرائيلي، ومشروع الميثاق الملّي- العثمانية الجديدة التركي، والهلال الشيعي الإيراني، ومشروع الإسلام السياسي السلفي.

إسرائيل والدور المنوط بها في الشرق الأوسط الجديد

عندما أُنيط بإسرائيل، وفق التصوّرات الاستراتيجية للقوى الدولية، أن تكون الفاعل المركزي في المرحلة الجديدة من إعادة تشكيل الشرق الأوسط، أصبح من الضروري تفكيك وإضعاف كل البُنى التي يمكن أن تشكّل عائقاً أمام هذا الدور أو تهديداً لمصالحها الأمنية والسياسية. وهكذا بدأ الاستهداف الإسرائيلي يتّجه نحو القوى التي تتعارض مع مشروعها الإقليمي، وفي مقدّمتها حركة حماس، ثم حزب الله، وصولاً إلى النظام السوري الذي كان (على الرغم من هشاشته وضعفه في السنوات الأخيرة) يمثّل نموذجاً من النظم التي تتحدّى الترتيبات الإسرائيلية المستقبلية في المنطقة، وإيران فيما بعد.

إنّ التطوّرات العسكرية والسياسية التي شهدتها المنطقة بعد هجوم 7 تشرين الأول 2023، ثم الحرب الخاطفة التي نشبت بين إسرائيل وإيران واستمرّت اثني عشر يوماً في حزيران، أعادت تأكيد مكانة إسرائيل بوصفها الطرف الأكثر قدرة على الحسم الميداني وفرض إيقاع الأحداث، ومع أنّ هذه الحرب كانت قصيرة نسبياً، إلّا أنّها مثّلت نموذجاً لما يمكن أن تتّخذه الحروب القادمة من حيث السرعة والدقّة، وكذلك من حيث الطابع الخاص الذي تتحرّك فيه إسرائيل ضدّ الأطراف التي تراها خصوماً مباشرين أو وكلاء محتمَلين لإيران.

وفي هذا السياق؛ كان من الضرورة ضرب أو تحجيم القوى المرتبطة بإيران، وعلى رأسها حزب الله وحركة حماس، باعتبارهما أبرز أذرعها الإقليمية، ومع تراجع قدرة إيران على حمايتهما أو دعمهما بالشكل المعتاد، ظهر واضحاً أنّ تفكيك هذه الهياكل جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تهيئة الشرق الأوسط الجديد وفق مقاربة أمنية إسرائيلية بالدرجة الأولى.

وبالتوازي مع ذلك؛ أخذ الضغط الإسرائيلي يتّجه نحو سوريا بوصفها أحد المعاقل الأساسية والرئيسية للنفوذ الإيراني، فإضعاف النظام السوري أو إسقاطه يمثّل ضربة استراتيجية لإيران، ويفتح الطريق أمام خرائط جديدة لا تتضمّن بؤر قوة ممانعة (محور المقاومة)، ولا تشكّل تهديداً مستقبلياً لإسرائيل، وهكذا تحوّل النظام السوري إلى هدف سياسي وأمني، ليس لأنّه كان يشكّل خطراً حقيقياً على إسرائيل في السنوات الأخيرة، بل لأنّه جزء من البنية الإقليمية التي يُراد تفكيكها لإفساح المجال أمام ما يمكن تسميته بترتيب جديد يقوم على أدوار وظيفية محدّدة لقوى ونظم جديدة تخدم مصالح إسرائيل وقوى الرأسمال المالي العالمي.

وقد امتدّ هذا الدور الإسرائيلي خارج حدود المواجهة العسكرية التقليدية، فقد شمل عمليات نوعية في 9 أيلول 2025 ضدّ رموز من حركة حماس في قطر، وهو تطوّر بالغ الأهمية، لأنّه يشير صراحة إلى أنّ إسرائيل تجاوزت الخطوط التي كانت تُعدّ حمراء في السابق، وأنّها مستعدّة للوصول إلى كل اللاعبين مهما كانت مواقعهم أو علاقاتهم الدولية، وهذه الرسالة كانت موجّهة بالقدر نفسه إلى تركيا، التي يُنظر إليها باعتبارها الراعي الأيديولوجي والسياسي الأبرز لحركات الإسلام السياسي في المنطقة منذ أكثر من عقد ونيّف، وأحد المنافسين الإقليميين المحتمَلين لإسرائيل.

إنّ استهداف إسرائيل لقيادات من حماس في قطر لم يكن مجرّد عملية أمنية، بل كان إشارة استراتيجية مفادها أنّ إسرائيل أصبحت ترى نفسها الطرف الأكثر حرية في التحرّك داخل المنطقة، وأنّها قادرة على فرض قواعد جديدة للعبة دون اعتراض جوهري من القوى الكبرى، وقد تزامن ذلك مع نجاحها في الضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين بعد سلسلة من العمليات المركّبة ومن خلال ضغط أمريكي كبير، ووساطة مصرية قطرية.

لقد أعاد استهداف إسرائيل لقادة حركة حماس في الدوحة تسليط الضوء على حساسية الدور القطري، ليس فقط كوسيط سياسي، بل كقوة مالية وطاقة عالمية مؤثّرة، ولا سيما في سوق الغاز، فهذا الحدث حمل رسائل أمنية واستراتيجية متعدّدة، أبرزها التشكيك بقدرة قطر على البقاء في موقع “الوسيط المتوازن” بين “محور المقاومة” والغرب، وتحت ضغط هذه التحوّلات، وجدت الدوحة نفسها أقرب إلى إعادة تموضع محسوب داخل المظلّة الأمريكية، عبر تعزيز التفاهمات الأمنية والاستراتيجية مع واشنطن، بما يتجاوز الصراع الحالي ليشمل مرحلة المنافسة الأمريكية – الصينية المقبلة، وهو ما يعكس تحوّلاً في أولويات التحالفات الإقليمية.

قد أدّى تطوّر العلاقة القطرية-الأمريكية بعد استهداف قادة حماس إلى إدخال قدر من التوتّر على شبكة التوازنات التي جمعت قطر بكل من إيران وتركيا، ولا سيّما في الملفات المرتبطة بفلسطين وسوريا، فتعاظم الارتباط الأمني مع واشنطن يفرض على الدوحة حدوداً أكثر صرامة في هامش المناورة مع طهران، ويعيد ضبط إيقاع التنسيق مع أنقرة بما ينسجم مع أولويات الحلف الأطلسي.

في هذا السياق؛ تبرز السياسة الإسرائيلية بوصفها المستفيد الأكبر من تفكيك الاصطفافات القديمة، إذ يُعاد فتح مسارات ما يمكن تسميته بالتطبيع الهادئ في المنطقة، ويغدو الملف السوري مرشَّحاً، على المدى المتوسّط، لدخول تفاهمات غير معلنة، خاصة في ظل التحوّلات البنيوية التي يشهدها النظام الجديد وخطابه البراغماتي تجاه الغرب، غير أنّ تحويل هذه المؤشّرات المذكورة إلى واقع سياسي معلَن يبقى مرهوناً بميزان الداخل السوري وردود الفعل الشعبية والإقليمية.

وبهذا المعنى، يمكن القول إنّ الدور المنوط بإسرائيل في الشرق الأوسط الجديد هو دور المركز المحرّك الذي يُعاد وفقه تشكيل عناصر التوازن الإقليمي، فكل قوة أو بنية أو فصيل يرى فيه المشروع الإسرائيلي تهديداً، يجري تحجيمه أو ضربه، بينما يجري فتح الطريق أمام كيانات جديدة أكثر انسجاماً مع الرؤية الاستراتيجية لهذا المشروع.

وباختصار، فإنّ الدور الإسرائيلي الراهن لا يقتصر على الدفاع عن الذات، أو الردع التقليدي المعروف، بل يشمل:

1- انهاء البيئة الإقليمية من القوى المناوئة والمعادية وجودياً.

2- تفكيك الهياكل الموروثة عن مرحلة الدولة القومية “التي عفا عليها الزمن”.

3- إعادة توزيع السلطة في المنطقة والنفوذ بطريقة تجعلها في موقع الطرف المقرّر (الامر الناهي).

4- تهيئة المجال الإقليمي لخرائط سياسية جديدة تتوافق مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية على حدّ سواء.

 

الدور الإيراني بين الأمس واليوم

حين جرى تصميم الشرق الأوسط عقب الحرب العالمية الأولى، مُنحت إيران (إلى جانب تركيا) دوراً مركزياً ضمن التوازنات الإقليمية التي صاغتها القوى الاستعمارية، فقد شكّلت الدولتان معاً جناحاً متقدّماً في ضبط الإقليم ومنع أي تحوّل غير مرغوب فيه، وخاصة التمدّد السوفييتي لاحقاً، ولأجل ذلك، جرى دعم نظام الشاه في إيران وحمايته سياسياً واقتصادياً على مدى ستة عقود، باعتباره ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار وفق الرؤية الغربية.

إلّا أنّ النظام الإيراني (الشاهنشاهي)، رغم ما تلقّاه من دعم، لم يتمكّن من الصمود أمام التحوّلات الداخلية والاجتماعية، فسقط عام 1979، بما سمّي انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، وبعدها ساد اعتقاد راسخ بأنّ المنطقة مقبلة على مواجهة مفتوحة بين الغرب والجمهورية الإسلامية الجديدة، لكن ما حدث كان أكثر تعقيداً، إذ سرعان ما خفّ التوتّر المباشر، وحصل نوع من التوازن الضمني الذي سمح لإيران بإعادة بناء موقعها الإقليمي دون مواجهة شاملة، وقد استفادت إيران من التطوّرات اللاحقة في المنطقة، خاصةً بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003، فوسّعت نفوذها السياسي والعسكري، وبنت شبكات تحالفات واسعة مع النظام في سوريا من جهة، وعبر أحزاب وحركات مسلّحة موالية لها في عدة دول مثل: وحزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن، وحركة حماس بدرجة متفاوتة من جهة أخرى، وبذلك تحوّلت إيران إلى لاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه، ونجحت في تثبيت حضورها في أربع عواصم عربية، وهو ما أثار قلق القوى الدولية والإقليمية التي رأت في هذا التمدّد تهديداً مباشراً لتوازنات المنطقة.

غير أنّ اللحظة الراهنة تشهد تحوّلاً مفصلياً في موقع إيران داخل الخريطة الجديدة التي يجري إعدادها للشرق الأوسط، فمع تصاعد الصراع الإقليمي، واندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، ثم الحرب المباشرة القصيرة بين إسرائيل وإيران في حزيران المنصرم، بات واضحاً أنّ إيران أصبحت الهدف الأول في استراتيجية إعادة الهيكلة الإقليمية.

فما دام النفوذ الإيراني حاضراً وفاعلاً، فإنّه من الصعب – وفق الرؤية الأمريكية والإسرائيلية – إعادة تشكيل المنطقة وفق التصوّر الجديد، ولهذا السبب جرى إضعاف إيران من الخارج عبر ضربات مركّزة، فيما تآكل نفوذها من الداخل نتيجة الضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتزامنة.

والنتيجة الأبرز لهذه التطوّرات أنّ إيران فقدت جزءاً مهمّاً من شبكات قوتها وفق هذه النقاط:

1-تراجع كبير في قدرات حركة حماس بعد الضربات النوعية التي تلقّتها من إسرائيل

2-اهتزاز موقع حليفها في لبنان (حزب الله) في ظل التهديدات بتجريده من السلاح بعد تصفية أبرز قادة الحزب، ومن الصف الأول مثل (حسن نصر الله في 27 أيلول 2024 وهاشم صفي الدين في تشرين الثاني2024 وعلي كركي وغيرهم).

3-خسارة إيران لموقعها في سوريا بعد سقوط نظام الأسد ممّا شكّل تراجعاً كبيراً لدورها ونفوذها في المنطقة.

4- تم تقييد نفوذها وتأثيرها في العراق مع تزامناً مع الضغوط الدولية والإقليمية على الحكومة العراقية الاتحادية، وبدورها ضغطت على الميليشيات الموالية لإيران في العراق التي دخلت في حالة ارتباك بين التصعيد أو الانكفاء على الذات.

كل هذا بالطبع قد أضعف الأوراق القوية بيد السياسة الإيرانية ممّا يسمّى بمحور المقاومة إلى الملف النووي هذه الورقة التفاوضية المؤثّرة لإيران مع الدول الغربية والولايات المتحدة الامريكية فيما يسمى بمجموعة 5+1،*وتحديداً بعد الضربات القوية من قبل القوات الإسرائيلية والأمريكية في حرب 12 يوم الدامية، والتي بدورها شلّت برنامجها النووي بشكل شبه كامل؛ ما ينذر بإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة.

وهكذا أصبحت إيران في وضع دفاعي لأول مرة منذ أكثر من عقدين، وباتت خياراتها محصورة بين:

1- التكيّف مع النظام الإقليمي الجديد وتقديم تنازلات كبيرة.

2- المغامرة بمواجهة ثانية قد تكون أكثر شمولاً وتكلفة.

ورغم أنّ مستقبل النظام الإيراني ليس واضحاً بعد، إلّا أنّ الشيء المؤكّد هو أنّ موقعه السابق قد انتهى، وأنّ الخريطة الإقليمية الجديدة لا تبدو مستعدّة لاستيعاب قوة إقليمية ضخمة وذات نفوذ عقائدي وعسكري واسع مثل إيران.

*“الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن هي (الولايات المتحدة الامريكية -بريطانية- فرنسا- الصين – روسيا + ألمانيا) هدفها الرئيسي التوصل إلى اتفاق محدود بشأن قيام إيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المائة” مجموعة إدارة الأزمات الدولية16-حزيران 2012

 

 

إنّ خسارة سوريا، وتراجع وكلاء طهران في المنطقة، والضربات التي تعرّضت لها بنيتها الدفاعية، تشكّل كلّها مؤشّرات على أنّ إعادة توزيع القوة في الشرق الأوسط تجري الآن على حساب إيران، وأنّ الدور الذي لعبته خلال العقدَين الماضيين يجري تفكيكه خطوة بعد أخرى؛ في إطار صياغة نظام إقليمي جديد لا مكان فيه لقوى ممانعة تقليدية.

سوريا بعد مرور عام على سقوط الأسد

تعيش سوريا اليوم واحدة من أكثر اللحظات التاريخية تعقيداً منذ بداية الحرب قبل أكثر من عقد، إذ تتشابك فيها الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية على نحو غير مسبوق، ويتقاطع الداخل السوري مع تحوّلات إقليمية ودولية عميقة أفرزها سقوط نظام الأسد وما تلاه من تغيّرات جيوسياسية واسعة أثّرت ولا تزال تؤثر في مجمل توازنات المنطقة.

فبعد مرور عام تقريباً على انهيار نظام البعث وسقوط بشار الأسد، تكشف سوريا عن مشهد مأساوي تسيطر عليه فوضى الفصائل، وتفكّك السلطة، واتّساع الانتهاكات بحق المدنيين، في ظلّ فكر وشكل جديد من الحكم، وفرض منطق القوة والسلاح، ودون تغيّر في الذهنية الشمولية والانغلاق على المجتمع، وفي الوقت نفسه، برزت إسرائيل بوصفها اللاعب الأكثر حضوراً في صياغة قواعد الاشتباك الجديدة في الشرق الأوسط، عبر مشروع إقليمي يقوم على تفتيت الدول الضعيفة من الداخل، وإعادة ترتيب خرائط النفوذ بما يخدم رؤيتها للأمن الإقليمي.

وفي هذا السياق، جاءت سيطرة هيئة تحرير الشام على دمشق عبر ما تسمّى بـ “الحكومة السورية المؤقّتة” كعلامة فارقة تُظهِر عمق الانهيار البنيوي للدولة السورية، فهذه الحكومة المؤقّتة التي تبنّت دستوراً خاصاً بها، وتخلّت عن التزامات الدولة الوطنية وتتبنّى عقلية أحادية، لم تعمل على بناء مؤسسات حديثة كما ادّعت، بل استكملت – بشكل أو بآخر – ما بدأه نظام البعث؛ من تفتيت المجتمع السوري وإضعاف روابطه التاريخية، خاصةً ذلك النسيج المتنوّع الذي شكّل هوية سوريا لعقود طويلة.

وقد ارتكبت الفصائل المنضوية ضمن وزارة دفاع الحكومة المؤقّتة مجازر وانتهاكات واسعة في كل المناطق التي وصلت إليها، كما حدث في الساحل السوري ومحافظة السويداء وحيّي الشيخ مقصود والأشرفية، وصولاً إلى استهداف الطائفة العلوية الإسماعيلية في حمص وحماة وريفَيهما، وغيرها من المناطق، ومع ذلك بقيت ردود السلطة المؤقّتة ضعيفة أو معدومة، ما كشف افتقارها لأي قدرة على ضبط الفصائل أو مساءلتها، وفي الوقت نفسه، تستمرّ التهديدات التركية شبه اليومية ضدّ مناطق شمال وشرق سوريا التي تعيش تجربة ديمقراطية رائدة قائمة على الإدارة الذاتية الديمقراطية بمشاركة جميع المكوّنات، وتُظهر هذه التهديدات سعياً تركياً مستمرّاً لإجهاض أي مشروع وطني – مجتمعي لا يخضع لنفوذ تركيا.

وما يزيد المشهد قتامة هو أنّ الحكومة السورية المؤقّتة تسوّق نفسها إقليمياً ودولياً بوصفها البديل الشرعي على حساب التغاضي الكامل عن الانتهاكات المرتكبة من قبل تركيا وإسرائيل على الأراضي السورية، وغضّ الطرف عن الجرائم التي تنفّذها الفصائل التابعة لها في مناطق سيطرتها، وخاصة في عفرين والساحل والسويداء وغيرها، كما تعتمد خطاباً طائفياً ودعائياً، حتى عبر المساجد والمنابر الإعلامية، ما يزيد من الشرخ الأهلي داخل المجتمع السوري، وفي المقابل تنخرط هذه الحكومة في اتفاقات سياسية وعسكرية واقتصادية مع دول عدّة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا، بشكل يتناقض مع أي مفهوم للسيادة الوطنية، ويعكس عقلية ما قبل الدولة الحديثة، أو ما يصفه بعضهم بـ “العقلية القروسطية” في إدارة شؤون البلاد.

وقد دفعت المجازر التي ارتكبت في الساحل السوري (6-3-2025) والسويداء في (11-7-2025) منظمات دولية وأممية إلى إصدار تقارير حادة اللهجة (2)، فقد وثّقت منظمة هيومن رايتس ووتش انتهاكات واسعة النطاق ارتكبتها القوات الحكومية والجماعات المسلّحة الموالية لها، بما يشمل عمليات قتل جماعي مروّعة، وإعدامات ميدانية، وتدمير ممتلكات، وسوء معاملة المحتجزين، كما أشارت إلى أنّ هذه الجرائم جرت ضمن عملية عسكرية منسّقة مركزياً بإشراف وزارة الدفاع؛ هذا التقرير شكّل ضغطاً دولياً متزايداً على حكومة دمشق الحالية لأداء واجبها في حماية المدنيين ووقف الاعتداءات بحق المكوّنات السورية كافة.

إنّ تراكم هذه الأحداث يوضّح أنّ سوريا اليوم لا تعيش مجرّد أزمة سياسية، بل انهياراً شاملاً في منظومة الدولة والمجتمع، وتفكّكاً في المرجعيات الوطنية، وسط فشل حكومي وغياب دور فعّال للمنظومة الدولية.

وهذا يتطلّب من القوى الوطنية والديمقراطية، الانتقال من مجرّد متابعة الأحداث إلى تبنّي رؤية تحليلية شاملة تستشرف المستقبل، وتُقيم مساراً واقعياً للخروج من الفوضى عبر تنفيذ ما نصّت عليه اتفاقية 10 آذار2025 بين رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، باعتبارها خطوة أولى نحو إعادة التوازن والاستقرار إلى عموم البلاد.

تقليص الدور التركي في سوريا

لا يمكن قراءة الأحداث الجارية في سوريا اليوم بمعزل عن الدور التركي وتأثيره المباشر في مسار التطوّرات الميدانية والسياسية، فمنذ بداية الأزمة السورية، اتّخذت أنقرة موقفاً جادّاً وفعّالاً منها، فعملت على وضع مخطّط ممنهج لإسقاط النظام السوري من خلال محاولتها المستميتة لإيصال نظام إسلاموي (إخواني)، بالتزامن مع لعب دور مؤثّر في ضرب أي نواة لتجربة ديمقراطية متقدّمة في سوريا (تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية عام 2014) وبعد فشلها في تحقيق ذلك، ومع التدخّل الروسي المباشر في الأزمة السورية لإنقاذ النظام، ومع الهزائم المتتالية لتنظيم داعش الإرهابي على يد وحدات حماية الشعب – والمرأة في كوباني عام 2014، ولتحقيق أهدافها قامت تركيا بالتدخّل العسكري المباشر من خلال احتلال جرابلس عام2016 وعفرين عام2018 ومن ثم سريه كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض)عام 2019بمشاركة واسعة من فصائل عسكرية من عدة جنسيات ما زالت تعمل وفق أجنداتها، وفي خضمّ هذه الأحداث المتتابعة تغيّرت المعادلة بعض الشيء؛ فبعد إحراز قوات سوريا الديمقراطية الانتصارات المتتالية على داعش وفي عدة مناطق منها باغوز عام 2019، التي اعُتبرت آخر معاقله، إضافة لتعاضد مكوّنات المناطق التي تديرها الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا وفق مبدأ “الوحدة في التنوّع والاختلاف”؛ قد أضعفت هذه السياسة التركية بنسبة كبيرة، لذلك لا تتوانى تركيا من محاربة هذه التجربة مخافة تمدّد فكرها الديمقراطي بين كل مكوّنات سوريا، معتبرة أنّ أي نموذج سياسي مستقلّ يضمّ الكرد والعرب والسريان ويُدار بطريقة تشاركية مع المكوّنات الاخرى، يشكّل تهديداً وجودياً لرؤيتها القومية والتوسّعية (الميثاق الملّي -العثمانية الجديدة).

وقد تمحور الدور التركي في سوريا حول أربعة أهداف رئيسية:

1- ضرب تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، وإفشال مشروعها السياسي، لعدم إفساح المجال أمامها للتوسّع وعدم تبنّيها من قبل مناطق أخرى في سوريا، وقد عملت أنقرة، ومنذ اليوم الأول، على منع تطوّر هذا النموذج، سواء عبر الهجمات العسكرية المباشرة، أو عبر دعم الفصائل المسلّحة المتعدّدة التي تُستخدم كأدوات لتحقيق هذا الهدف، وتارة أخرى عن طريق داعش وربيباته.

2- تفكيك المجتمع السوري المتنوّع، فتركيا مارست سياسات قائمة على زرع الانقسامات الإثنية والطائفية والمناطقية، بهدف إضعاف الهوية الوطنية الجامعة، وإنتاج مجتمعات مُنهكة يسهل التحكّم بمصيرها.

3- تجذير الاحتلال عبر الفصائل التابعة لها، فقد أنشأت تركيا في الشمال السوري المحتل منظومة أمنية وعسكرية واقتصادية تعتمد على فصائل مرتبطة بها بشكل مباشر، ما حوّل المنطقة إلى امتداد وظيفي للنفوذ التركي.

4-تأجيج التوتّر بين جميع مكوّنات الشعب السوري، من خلال تبنّي خطاب تحريضي طائفي وإعلامي يهدف إلى ضرب الثقة بين السوريين، وخاصة عبر المؤسسات الدينية والإعلامية.

وفي تطوّر بالغ الأهمية، أعلنت وزارة الدفاع التركية بدء تدريب الجيش السوري وتقديم الاستشارات العسكرية بموجب مذكّرة تفاهم وُقِّعَت في دمشق بتاريخ 13 آب الماضي،

“سيسمح لجنود سوريين باستخدام ثكنات عسكرية (في تركيا) للتدريب بهدف تعزيز قدراتهم العسكرية” (3)

ويُفهم من هذه الخطوة أنّها محاولة تركية لشرعنة وجودها العسكري عبر إعادة إنتاج نموذج مشابه لما فعله النظام السوري سابقاً بدعوته لكل من إيران وروسيا للتواجد في سوريا بحجّة الدفاع الاستراتيجي المشترك، أي تثبيت احتلال طويل الأمد تحت غطاء الاتفاقات العسكرية، غير أنّ هذه السياسة التركية تصطدم مباشرة بالاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا، فقد نفّذت إسرائيل خلال الأشهر الماضية ضربات دقيقة ضدّ مواقع عسكرية تركية في حماة ودمشق وحمص، في رسالة واضحة مفادها أن التمدّد التركي (العسكري أو السياسي) يشكّل تهديداً غير مقبول ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتعتبر إسرائيل أنّ الوجود التركي في سوريا سيُنتج عنها ثلاثة تهديدات محتملة:

1- إعادة إنتاج نسخة جديدة من الفصائل الإسلاموية على حدودها الشمالية.

2- تهديد توازنات شرق المتوسط وخاصة في ملف الغاز.

3- إعاقة إعادة تشكيل سوريا بالشكل الذي تراه إسرائيل مناسباً.

ولذلك قال وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، لوسائل الإعلام العالمية في تحذير مباشر لرئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع: “سيكون الثمن باهظًا إذا سمحت للقوى المعادية بدخول سوريا.”(4) وهو تصريح يشير بوضوح إلى أنّ إسرائيل لا تستهدف الحكومة المؤقّتة، بل تركيا تحديداً.

وفي سياق مشابه، هناك غياب تركيا عن طاولة المفاوضات بين أذربيجان وأرمينيا ضمن مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لفتح ممر “زنغزور” وهو ممرّ استراتيجي يربط أذربيجان بإقليم نخجوان المتمتع بالحكم الذاتي عبر مقاطعة سيونيك في أرمينيا، ويهدّد النفوذ الإيراني والروسي، ويشكّل جزءاً من شبكة تجارية دولية، ويربط بين أوروبا وآسيا الوسطى”(5) والذي تحوّل لاحقاً إلى ممرّ “ترامب للسلام والازدهار الدوليّين”، ووفق المراقبين، فإنّ استبعاد تركيا من هذا الاتفاق الأخير يُعدّ تراجعاً دبلوماسياً خطيراً، لأنّه يجرّد أنقرة من دورها التقليدي المؤثّر في منطقة القوقاز، ويظهر أنّ النفوذ التركي قد فَقَدَ الكثير من وزنه الدولي، إنّ هذا التراجع لا يتعلق بسوريا فقط، بل يدخل ضمن انكماش عام في فعالية السياسة الخارجية التركية، فهذا التطوّر – بحسب مراقبين – يمثّل هزيمة للحكومة التركية في أعين معارضها، ويكشف ايضاً أنّ المكانة الإقليمية لتركيا باتت موضع إعادة تقييم شاملة، إنّ تناقضات السياسة التركية تتجلّى بشكل أساسي في تعاطيها مع القضية الكردية عامةً؛ فهي:

تتفاوض مع الكرد داخل تركيا من ناحية، وتعاديهم في سوريا بصورة وجودية من جهة أخرى، وتدينهم سياسياً وإعلامياً دون توقّف في كل المحافل الدولية، وهي بذلك تراهن على:

1- تغيّر المعادلة الدولية لصالحها. 2- إضعاف الإدارة الذاتية الديمقراطية.

لكنّها بفعل “الفوبيا” التي لديها تجاه الكرد، تتجاهل أنّ الظروف الإقليمية تتطوّر بعكس حساباتها، وأنّ مشروعها قد يفقد صلاحيته إذا ما اكتمل تشكّل النظام الإقليمي الجديد، وخاصة مع بروز دور قوات سوريا الديمقراطية في محاربة إرهاب داعش وتقديمها عشرات الألوف من مقاتليها في سبيل ذلك.

وقد استخدمت الدولة التركية في سوريا أدوات محلية تعمل وفق أجنداتها العثمانية، وهي أشبه بما وصفه المفكّر عبدالله أوجلان في كتابه الصادر في أيار 2025 المعنون بمانيفستو السلام والمجتمع الديمقراطي بـ “الجُندرات اليهودية”، أي المجموعات التي خانت شعوبها وسارت لصالح النازية في ألمانيا على حساب اليهود، خلال الحرب العالمية الثانية.

هذه الفصائل قبلت لعب دور المرتزقة، وشاركت في ضرب أي مشروع وطني حقيقي، ما جعلها في موقع العداء لمصالح السوريين مقابل خدمة المصالح التركية.

وبذلك أصبحت تركيا العامل الأكثر زعزعة للاستقرار في سوريا، وتسبّبت تدخّلاتها في تأخير إعادة بناء المنطقة، وتأخير أي مسار مؤسساتي ديمقراطي مستدام، سواء عبر الهجمات العسكرية أو عبر توسيع الشرخ داخل المجتمع السوري ككل.

زيارة الشرع إلى الولايات المتحدة الأمريكية

في ظل التطوّرات المتسارعة في المشهد السوري، شكّلت زيارة رئيس المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، إلى الولايات المتحدة الأمريكية محطّة مفصلية أثارت الكثير من النقاشات والتقييمات المتباينة، فبعضهم رأى في الزيارة مؤشّراً على اعتراف أمريكي رسمي بالقيادة الجديدة، في حين اعتبر آخرون أنّها أداة ضغط أكثر ممّا هي منحة سياسية.

والواقع أنّ الزيارة تحمل دلالات استراتيجية تتجاوز إطار البروتوكول السياسي المعروف، وتعكس تحوّلاً في منهجية واشنطن للتعامل مع الملف السوري برمّته؛ فالسياسة الأمريكية الراهنة تعتمد على مبدأ إعادة ضبط التوازنات في سوريا ضمن إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، وهذا يعني الانتقال من إدارة الأزمة عن بُعد في العقد الماضي إلى الانخراط المباشر في رسم قواعد المرحلة الانتقالية في سوريا.

ومن هنا جاءت أهمية دعوة الشرع إلى واشنطن، فهي لم تكن لإظهار الدعم بقدر ما كانت لاختبار قدرته على التماهي، والسير وفق الرؤية الأمريكية، وقد ركّزت واشنطن خلال اللقاءات على ثلاث ملفات أساسية:

1- مكافحة الإرهاب وإعادة هيكلة الأمن في سوريا: كانت هذه النقطة مدخلاً للضغط على الشرع لإعادة تنظيم العلاقة مع الفصائل المنتشرة في شمال غرب سوريا، خصوصاً تلك التي ترتبط بتركيا أو تحمل توجّهات تكفيرية، فقد أرادت الولايات المتحدة قياس مدى استعداد الشرع لفكّ الارتباط مع هذه القوى وإعادة توجيه البوصلة نحو بناء منظومة أمنية وطنية.

2- الحد من النفوذ التركي في سوريا: واشنطن تريد نظاماً انتقالياً قادراً على العمل باستقلالية دون الخضوع الكامل لتركيا، والتي باتت تنظر إليها الولايات المتحدة الأمريكية كلاعب يتناقض مع استراتيجيتها الأوسع في المنطقة، ولذلك جاء الضغط الأمريكي على الشرع ليكون أداة لتحقيق التوازن وليس امتداداً للنفوذ التركي.

3- الالتزام بالخريطة الأمريكية للحل السياسي: الولايات المتحدة الامريكية أرادت التأكّد من أنّ الشرع قادر على السير في مسار سياسي منضبط، يتضمّن التعاون مع الإدارة الذاتية الديمقراطية، وتنفيذ اتفاق 10 آذار2025، والاندماج السلس لقوات سوريا الديمقراطية ضمن الجيش السوري، وبعد ضمّ سوريا للتحالف الدولي لمحاربة لداعش وتجنّب أي ميول نحو تحالفات غير منسجمة مع المصالح الأمريكية.

وأشارت التحليلات الكثيرة التي رافقت الزيارة إلى أنّ الدعوة نفسها كانت جزءاً من الضغط، إذ أرادت واشنطن أن تُظهر للشرع أنّ شرعيته الفعلية ليست مكتسبة من الداخل السوري ولا من الفصائل، بل من مدى التزامه برؤية القوى الكبرى، لذا عدّ العديد من المراقبين أنّ الزيارة شكّلت اختباراً حقيقياً لقدرة الشرع على التحوّل من رئيس مرحلة انتقالية إلى إعطائه فرصة للتحوّل “لرجل دولة” إنْ التزم بالمقاييس المطلوبة أمريكيا ودولياً، ولا يمكن فصل هذا التحوّل عن دور دول الخليج، خاصة السعودية وقطر، اللتَين لعبتا دوراً واضحاً في دعم بروز الشرع والمجموعة المقرّبة منه داخل دمشق، فقد ساهم الضخّ المالي الخليجي الكبير في الأسواق الأمريكية في تعزيز النفوذ الخليجي داخل دوائر صنع القرار، وهو ما انعكس على التعامل الأمريكي مع “القيادة” السورية الجديدة، وهكذا أصبحت زيارة الشرع جزءاً من تنسيق ثلاثي، الولايات المتحدة الأمريكية – الخليج – الشرع، لكن هذا لا ينفي أنّ الزيارة كانت في جوهرها تحمل رسالة واضحة وهي: إمّا أن ينسجم الشرع مع المسار الأمريكي الجديد في المنطقة، أو أنّه سيُهمّش لصالح بديل آخر، وبذلك، بدت الزيارة كخطوة سياسية شديدة الحساسية، أعادت ترتيب موقع الشرع في المشهد الإقليمي، وأظهرت بوضوح أنّ مستقبل المرحلة الانتقالية في سوريا مرتبط بمدى قدرته على الاستجابة لهذه الضغوط، لا بمجرّد الاعتراف الرمزي الذي وفّرته الدعوة الأمريكية بدعم وتدخّل خليجي واضح كما أشرنا.

وبالطبع فإنّ الدعم الخليجي لـ”الشرع” في سياق دعوته إلى واشنطن يعكس محاولة لاختبار قابليته للاندماج في النسق الدولي الجديد وفق الشروط الأميركية، ولا سيّما في ملفات الاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب وإعادة الإعمار.

حضور وزير الخارجية التركي في المشهد ذاته يحمل دلالة على رغبة أنقرة في تثبيت دورها كضامن سياسي وأمني في مرحلة ما بعد التحوّلات، وضبط إيقاع العملية الانتقالية بما يحمي مصالحها الأمنية والاقتصادية الاستراتيجية، وهذا التلاقي الخليجي – التركي تحت المظلّة الأميركية يوحي بإعادة هندسة شبكة التحالفات، لا من منطلق أيديولوجي ضيّق، بل وفق براغماتية واقعية ترسم ملامح مرحلة جديدة لسوريا والمنطقة عامةً.

الخلاصة:

تكشف تطوّرات المرحلة الانتقالية في سوريا عن واقع بالغ التعقيد يتجاوز حدود السقوط السياسي لنظام الأسد، الذي حكم سوريا لخمسة عقود ونيّف ليمتدّ تالياً إلى انهيار عميق في البنى الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والدستورية، فالتحوّلات التي شهدتها المنطقة خلال الفترة المنصرمة، من صعود القوى الجديدة، وتراجع الفاعلين التقليديين، واشتداد التنافس الإقليمي والدولي، رسمت مشهداً جديداً يتطلّب قراءة دقيقة وبناءَ فهم شامل للمسار القادم.

لا يعني سقوط نظام الأسد مجرّد انهيار لسلطة سياسية وأمنية مقيتة، بل كشف بصورة فاضحة وواضحة أنّ مفهوم الدولة كان مفرّغاً من مضمونه المؤسساتي، ومختزلاً في شخص الحاكم وأجهزته الأمنية.

فغياب العقلية المؤسساتية، وتآكل فكرة المواطنة الحرة، قد عمّق حالة الاغتراب بين المجتمع والدولة، وتحوّل الفضاء العام إلى ساحة فراغ سياسي وإداري، وهذا الفراغ أفسح المجال لظهور جماعات وفصائل متعدّدة ادّعت تمثيل المجتمع بالقوة، ما زاد من تفكّك البنية الوطنية، وموضوعياً، فتح هذا التفكّك الباب أمام التدخّلات الإقليمية والدولية المباشرة في تقرير مصير البلاد، في ظل غياب مرجعية سيادية جامعة.

وفي هذا السياق برزت تركيا وإسرائيل بوصفهما القوّتان الأكثر تأثيراً في صياغة مسارات المرحلة الانتقالية، وإن كانت وما زالت بطرق متعارضة، فتركيا سعت إلى فرض نفوذها عبر الفصائل المسلّحة المرتهنة لأجنداتها، ومحاولة شرعنة وجودها العسكري بالاتفاقات بين البلدين، بينما عملت إسرائيل على تقليص هذا النفوذ عبر ضربات دقيقة تهدف إلى منع التمدّد التركي وحماية مشروعها الأمني في المنطقة، وبين هذين الطرفين، تقف الحكومة السورية المؤقّتة في موقع هشّ لا تملك فيه أدوات السيادة، بل تعتمد على الرعاة الخارجيين أكثر من اعتمادها على مشروع وطني شامل.

وتأتي زيارة أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة لتؤكّد أنّ الشرعية السياسية في سوريا لم تعد نتاجاً داخلياً، بل أصبحت مرهونة بإرادة القوى الكبرى، فالزيارة لم تكن دعماً بقدر ما كانت اختباراً لمدى قدرة القيادة الجديدة على الاندماج في رؤية واشنطن للشرق الأوسط الجديد، ومن هنا برزت الضغوط الأمريكية الصريحة، سواء في ملف مكافحة الإرهاب، أو ضبط العلاقة مع تركيا، أو الالتزام بخريطة الحل السياسي عبر اتفاق 10 آذار2025.

وفي مواجهة هذا المشهد المضطرب، تبقى تجربة الديمقراطية في شمال وشرق سوريا النموذج الأكثر قبولاً، والذي استطاع أن يحافظ على حدّ معقول من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وفق آليات مؤسساتية، ويحتفظ بتقديم وطرح رؤية سياسية تقوم على التعدّدية والمشاركة المجتمعية، ورغم التهديدات المتواصلة التي تتعرّض لها الإدارة الذاتية من طرف تركيا، إلّا أنّها تظلّ التجربة الأكثر نضجاً وقبولاً، والأقرب إلى استيعاب متطلّبات سوريا المستقبل المنشود.

لقد أثبتت الوقائع أنّ سوريا لن تعود إلى ما قبل 2011، وأنّ نموذج الدولة المركزية المتصلّبة لم يعد قادراً على الاستمرار، بل إنّ أيّ مستقبل سياسي للبلاد يجب أن يقوم على مبادئ اللامركزية الديمقراطية، وتوزيع السلطة، وحماية المكوّنات، وإعادة بناء المجتمع الأخلاقي-السياسي كما يطرحه المفكر عبد الله أوجلان في فلسفته وبراديغماه، وهذا يعني إعادة صياغة مفهوم الدولة؛ بحيث تتحوّل من أداة سلطة وهيمنة إلى إطار تنظيمي- اداري لحياة مجتمعية تشاركية.

وأخيراً يمكن القول:

إنّ خلاص سوريا اليوم لا يكمن في تغيير الأشخاص أو الحكومات، بل في إعادة بناء العقد الاجتماعي من جديد، على أسس تشاركية تشمل كل السوريين، وتضمن عدم تكرار نماذج الاستبداد السابقة، فمرحلة ما بعد سقوط النظام فتحت الباب أمام فرصة تاريخية لإعادة تشكيل البلاد، لكنّها في الوقت نفسه كشفت حجم الانهيار الذي أنتجته عقود من القمع والصراع، ومع تداخل مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا والخليج، يبقى مستقبل سوريا مفتوحاً على احتمالات متعدّدة، غير أنّ إعادة التوازن الحقيقي لن يتحقق إلّا عبر مشروع وطني مستقلّ وشامل لا يُقصي أحداً، يبدأ بتنفيذ اتفاق 10 آذار، وتعزيز دور المجالس المحلية، وبناء مؤسسات ديمقراطية قادرة على حماية المواطنين، بعيداً عن الفصائلية والطائفية والارتهان الخارجي، وبذلك يمكن القول إنّ سوريا تقف اليوم على عتبة انتقال تاريخي؛ فإما مزيد من الفوضى، أو بناء واقع جديد يستند إلى إرادة ورغبة المجتمع وتطلّعاته في الحياة الكريمة، وهذا يتطلّب قيادة وإدارة قادرة على تجاوز عقلية السلطة التقليدية، ورؤية تستند إلى القيم الأخلاقية والسياسية للمجتمع، لا إلى حسابات القوى الإقليمية والدولية فحسبُ.

وإنّ مستقبل سوريا لن يكون بالردع العسكري ولا بالمقايضات الخارجية، بل من خلال إعادة بناء مجتمع فعّال وقادر على إدارة نفسه، وتأسيس علاقات جديدة تستند على التكاملية بين الدولة والمجتمع، تمهيداً لولادة سوريا ديمقراطية، تعدّدية، لامركزية، وأكثر عدلاً لجميع أبنائها.

 

المصادر والمراجع:

1-عبد الله اوجلان مانيفستو الحضارة الديمقراطية القضية الكردية وحل الامة الديمقراطية -المجلد الخامس- ترجمة زاخو شيار -الطبعة الخامسة- 2023

2- منظمة هيومن رايتس وتش – صدر هذا التقرير في 23 أيلول 2025 بعنوان “سوريا: فظائع مارس/آذار تتطلب المحاسبة على أعلى المستويات”

3- موقع اندبندت عربية 30-10-2025

4-موقع bbc – تقرير لمراسلها لوسي ويليامسون -5 نيسان2025

5-الموسوعة العالمية -ويكيبيديا

 

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush
amavi5d sesetoto situs slot Toto Slot sontogel idrtoto akuntoto situs slot slot gacor babe138 slot login slot deposit pulsa tanpa potongan toto slot situs toto toto togel https://id.desapujonkidul.net/ toto togel toto togel toto slot situs gacor toto slot toto slot toto slot gaib4d situs toto slot gacor situs toto sontogel hantutogel sontogel gaib4d okewin paten188 okewin mayorbet kiostoto angker4d mayorqq situs toto toto slot gacor toto sbctoto toto slot rp888 https://toto228.com dentoto toto login roma77 tribun62 MAXWIN288 SLOT HMSLOT99 slot deposit 1000 slot777 roma link login monk4d hoki99 slot deposit pulsa tri https://www.lastchancetattoolv.com/about-us SBCTOTO DAFTAR joker123 TOTO SLOT hoki99 toto toto togel online slot pulsa kientoto toto titi4d situs toto titi4d 8KUDA4D 8KUDA4D 8kuda4d 8kuda4d 8kuda4d situs toto situs toto petir135 situs toto situs toto kientoto situs toto situs toto situs toto server Thailand city4d slot maxwin slot jepang juara288 citratoto dana100 NIX77 XYZ388 deposit pulsa situs slot slot toto satria123 toto slot situs toto toto toto toto slot hk4d kepo66 slot naruto888 naruto888 leon188 toto https://tanuwedsmanu.com/ toto slot togel online toto slot toto slot toto toto agendunia55 toto toto 4d toto slot situs toto toto slot situs toto situs toto situs toto babeh188 situs toto toto togel kaostogel PEWE4D Toto Toto toto slot toto slot toto slot toto slot bwo99 toto slot situs toto PEWE4D