تركيا وخريطة التحالفات المتغيّرة والاستراتيجيات الجديدة
د. مرشد اليوسف

المقالة تعبر عن رأي الكاتب
تمرّ تركيا في مطلع القرن الحادي والعشرين بمنعطف تاريخي حاسم، لم تعد فيه معالم اللعبة الجيوسياسية كما عرفها العالم خلال القرن الماضي؛ فبينما تتطلّع أنقرة إلى تأكيد حضورها كقاعدة إقليمية فاعلة، تجد نفسها محاطة بخريطة جديدة من التحالفات والنفوذ، من قبرص التي تقترب سياسياً من أوروبا، إلى اليونان التي تتحوّل إلى منصّة عسكرية متقدّمة لواشنطن، وصولاً إلى منطقة القوقاز التي باتت ساحة لتنافس الغرب وإسرائيل مع تركيا، وأصبح المشهد الجيوسياسي المحيط بتركيا أشبه بلغز معقّد من القوى المتداخلة.
وضمن هذه الأجواء؛ فإنّ تركيا تقف من الناحية الجيوسياسية على مفترق طرق، بين تحوّلات القوة وإعادة تشكيل النفوذ الإقليمي.
وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً فإنّ العلاقات بين تركيا وإسرائيل كانت واحدة من أكثر التحالفات الاستراتيجية في المنطقة؛ حيث بدأت بشكل رسمي في مارس 1949 عندما كانت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بإسرائيل، وتطوّرت العلاقة بينهما لتصبح إسرائيل أكبر شريك عسكري ومورد أسلحة لتركيا، ولكن هذه العلاقات تراجعت مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم عام 2002، وازدادت حدّة العلاقة بين الطرفين بعد الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية المتّجه إلى غزة، ممّا دفع بالعلاقات إلى حالة قريبة من القطيعة الدبلوماسية.
ولا نبالغ إذا ما قلنا إنّ الخلافات بين تركيا وإسرائيل في معظمها خلاف على النفوذ، وترغب تركيا بالحصول على حصة الأسد من اقتصاد وجغرافية الشرق الأوسط؛ لما تلعبه من دور تخريبي في المنطقة (الأزمة السورية). الأطماع التركية بالسيطرة على سوريا (بأن تأخذ الدور الإيراني السابق في سوريا) تشكّل تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي؛ وهو ما أدّى لحدوث صراع غير مباشر بين الطرفين على الأراضي السورية.
وقد عزّزت إسرائيل خلال العقد الماضي تحالفها الوثيق مع اليونان وقبرص، وذلك من أجل التضييق على تركيا؛ وهو ما أضاف بُعداً استراتيجياً جديداً للمعادلة الإقليمية.
تواجه تركيا أيضاً تحدّيات كبيرة في شرق البحر المتوسط؛ حيث تعارض المحاولات اليونانية والقبرصية للاستئثار بثروات المنطقة، بعد الأبحاث العلمية التي أثبتت خلوّ المياه الإقليمية التركية في البحر المتوسط من الثروات الباطنية (الغاز والنفط).
كما تواجه تركيا تحدّيات اقتصادية كبيرة في الداخل؛ حيث وصل التضخّم إلى مستويات مرتفعة لم تشهدها منذ عقدَين، وسجّلت الليرة تراجعاً حادّاً أمام العملات الأجنبية، كما أنّ كارثة الزلزال المدمّر الذي ضرب جنوب شرق البلاد عام 2023 قد تسبّبت بدمار هائل في البنى التحتية، حيث قُدِّرت تكلفة إعادة الإعمار بأكثر من مئة مليار دولار.
في مواجهة هذه التحديات؛ تبنّت تركيا استراتيجيات توسّعية (بدلاً من استراتيجيات السلام) للمحافظة على نفوذها الإقليمي ودورها العدواني، ضمن هذه السياسة تسعى تركيا (عبر سياستها البراغماتية) للحفاظ على سياسة التوازن بين موسكو والغرب في ظلّ استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية، كما تعمل المؤسسة الدبلوماسية التركية على ترميم ما تضرّر من العلاقات الرسمية بينها وبين الآخرين، خاصة مصر، وتبحث عن فرص اقتصادية مع نظرائها في مختلف الدول العربية، مثل السعودية ودول الخليج.
وإذا ما تعمّقنا أكثر؛ فإنّ تركيا سوف تواجه في المرحلة المقبلة خيارات صعبة، وأهمها مزيد من العزلة والتدهور الاقتصادي، لذلك تسعى لتعزيز ما تبقّى من دورها الإقليمي في المنطقة.
فالتحديات الداخلية والخارجية، وكذلك السياسة التي ستنتهجها تركيا سوف تحدّد – إلى حدّ كبير – مكانة تركيا في الخريطة الجيوسياسية الإقليمية خلال السنوات القادمة.
وتشير التطوّرات السياسية الأخيرة داخل تركيا إلى أنّ العملية التصالحية مع حزب العمال الكردستاني PKK (التي هي في الأساس جزء من فكر واستراتيجية الحركة الكردية) إن نجحت فسوف تساعد تركيا لعبور المرحلة الحرجة، محلّياً وإقليمياً، ونجاح هذه العملية مرهون بقدرة تركيا على تجاوز سياستها العنصرية.
والحقيقة أنّ جميع مبادرات السلام قد جاءت من طرف حزب العمال الكردستاني عبر تاريخه النضالي الطويل، في حين أنّ سياسة تركيا الفاشية هي السبب الأساسي لفشل تلك المبادرات. إلّا أنّ التغيّرات الجارية في منطقة الشرق الأوسط هي التي دفعت بتركيا للسير نحو عملية السلام، ويمثّل إنهاء الصراع، الذي استمرّ أكثر من 40 عاماً، شرطاً أساسياً لنجاح العملية التصالحية؛ وهذا يتطلّب تحوّلاً ديمقراطياً حقيقياً في تركيا، ويتطلّب كذلك إصلاحات دستورية وقضائية؛ وهو ما سينعكس إيجاباً على البيئة السياسية والاقتصادية في تركيا، ويعزّز فرص أنقرة في جذب الاستثمارات وتحسين علاقاتها مع الغرب.
وضمن هذه الاستراتيجية؛ يجب على تركيا أن تسعى إلى تجاوز النموذج القومي الصارم الذي أنتج الصراع التركي – الكردي، وعليها كذلك أن تسير نحو هوية وطنية أكثر شمولاً، وتعترف بالتنوّع، وتعيد بناء الذاكرة الوطنية المشتركة بين الترك والكرد.
لاشكّ في أنّ إنهاء الصراع الداخلي يمنح تركيا أوراق قوة جديدة على الصعيد الإقليمي والدولي، وبإنهاء هذا الملف الأمني الثقيل، ستتحرّر تركيا من قيد كبير كان يحجم دورها في عدّة مسارح داخلية وخارجية، وسيمكّنها من متابعة مصالحها بمرونة أكبر في علاقاتها المعقّدة مع كل من واشنطن وموسكو.
ومن المؤكّد كذلك أنّ عملية السلام الناجحة قد تعزّز من وضع تركيا لدى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وتفتح الباب أمام تطبيع العلاقات وتعميق التعاون في مجالات الأمن والاقتصاد.
ورغم هذه الصورة الواعدة؛ إلّا أنّ طريق العبور لا يخلو من العقبات التي قد تعيقه.
ويتساءل كثيرون عمّا إذا كان أردوغان، ومن أجل تحقيق المصالحة الديمقراطية الحقيقية، مستعدّاً للتخلّي عن الأدوات السلطوية التي بنى بها نظام حكمه (مثل توظيف القضاء والسيطرة على الإعلام).
لاشكّ في أنّ تاريخ عملية السلام مع الحزب الكردستاني يحمل إخفاقاتٍ سابقةً بسبب موقف أنقرة، وأنّ أي تأخّر في تنفيذ الإصلاحات الموعودة، أو أي مماطلة أو تراجع قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
ونؤكّد أنّ العملية التصالحية مع العمال الكردستاني إن وصلت إلى النهايات فستكون أكثر من مجرّد وسيلة لإنهاء مقاومة مسلّحة، إنّها استراتيجية شاملة تهدف إلى عبور تركيا مرحلة الاستقطاب والنزيف الداخلي، تمهيداً لمرحلة جديدة تبرز فيها تركيا كقاعدة إقليمية فاعلة ومستقرّة؛ وهو أمر سيحدّد ملامح خريطة القوى في المنطقة لعقود القادمة.



