سوريا الجديدة والتوازنات الدولية والإقليمية
شرفان سيف الدين

المقالة تعبر عن رأي الكاتب
منذ سقوط حزب البعث كمنظومة، وهروب بشار الأسد وتوابعه كأفراد، وتسلّم القيادة الحالية المؤقّتة؛ تعيش البلاد في حالة تخبّط دولي وإقليمي، وربما مَرَدّ كل ذلك إلى كثرة اللاعبين الفاعلين في الملف السوري، لما له من أهمية جيوسياسية واستراتيجية في رسم ملامح التغيير في الشرق الأوسط والعالم، وكذلك بسبب الموقع الجغرافي المهمّ لسوريا، والذي يربط العالم ببعضه من خلال الطرق والمشاريع الحيوية التي تمرّ من خلال جغرافيتها. وليس بخافٍ على أحد أنّ إطالة عمر الأزمة السورية لمدة أربعة عشرة عاماً لم تكن وليدة الصدفة أو نتيجة إهمال غير متعمّد، بل على العكس تماماً؛ فقد كانت سوريا دائماً حاضرة في ملفات وخطط القوى الكبرى، وجعلتها بيضة القبّان لأيّة مساومات سياسية، وورقة قوة لدى معظم المتحكّمين بهذا الملف أو ما يتبعه وما له من علاقات متشابكة معه.
الشرق الأوسط وسوريا في تكتيك واستراتيجية القوى الفاعلة الدولية والإقليمية:
– الولايات المتحدة الأمريكية: تباينت الرؤية الأمريكية للملف السوري بحسب الرئيس وبحسب النظرة الاستراتيجية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، مع الأخذ بعين الاعتبار، وعلى درجة عالية جداً، مصلحة حليفتها الاستراتيجية في المنطقة (إسرائيل)؛ فمع اندلاع الأحداث في المنطقة (ربيع الشعوب أو التي باتت تُعرَف بالربيع العربي) من الشمال الأفريقي وتمدّده إلى الشرق الأوسط، حاولت إدارة الرئيس باراك أوباما دعم المعارضة السورية، بشقّيها السياسي والعسكري، ضد نظام الأسد، إلّا أنّ تشرذم الشقّين كان من أبرز أسباب فشل هذا الدعم؛ فلا المجلس الوطني السوري ولا الائتلاف ولا الفصائل العسكرية كانت بمستوى الحدث والمرحلة، وبالتالي أدّى إلى المماطلة والتباطؤ في الدعم، ومع عسكرة الحِراك الجماهيري ازداد المشهد تعقيداً، خاصةً مع ظهور القوى الراديكالية الإسلامية المتشدّدة المتمثّلة بظهور تنظيم القاعدة وفروعها من جبهة النصرة وداعش، ومع إثبات وحدات حماية الشعب لنفسها في خِضمّ كل هذه الفوضى على جبهة كوباني بات العالم ملزماً – تحت ضغط الرأي العام العالمي – بمساندة هذه القوة ودعمها لوجستياً وعسكرياً، ومن بعد ذلك سياسياً؛ فكانت ولادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) حالة طبيعية وإلزامية لترتيب وتنسيق الأمور معها.
فترة ترامب الأولى كانت تعيسة على العالم أجمع، ومن ضمنها سوريا؛ وذلك بسبب حالة التخبّط السياسي التي كانت تعيشها هذه الإدارة، ما بين الاقتصاد والمصالح والسياسة والعلاقات مع الحلفاء وغير ذلك، في حين بقيت الأمور تسير بفتور في فترة الرئيس جو بايدن الذي كان، بشكل أو بآخر، امتداداً لسياسات أوباما وباقي الديمقراطيين، لتعود وتتحرّك نوعاً ما مع عودة ترامب للبيت الأبيض، وتتحرّك معه الكثير من الملفات، خاصةً بعد أحداث السابع من أكتوبر وخلط الأوراق في عموم الشرق الأوسط.
– روسيا الاتحادية: ترى روسيا بعض الدول في الشرق الأوسط والشمال الأفريقي امتداداً لها كحلفاء، مثل ليبيا وسوريا. بدأ التدخّل الروسي في سوريا عقب الدخول الغربي تماماً؛ وذلك لتثبيت أقدامها في المنطقة، وترسيخ مفهوم القوة العسكرية والدبلوماسية، وخلق نوع من التوازن الدولي للتقسيمات الجغرافية العالمية فيما بين هذه الدول.
– الصين الشعبية: في الوقت الحالي تنظر الصين إلى جميع دول العالم كأهداف اقتصادية مشروعة لها، فهي تغزو معظم دول العالم اقتصادياً؛ وما تحقيق النمو الاقتصادي الصيني خلال العقدين أو الثلاثة الماضية إلّا خير دليل على ذلك، وهي تحاول قدر الإمكان أن تتحاشى أي تصادم مباشر أو غير مباشر مع القوى الغربية؛ فإذا ما استثنينا المسألة التايوانية التي تحاول القوى الغربية إثارتها ما بين الفترة والأخرى، وإذا ما استثنينا كذلك الرعاية الصينية الأخيرة للاتفاق ما بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية، فإنّنا سنكون أمام “صفر تدخّل” صيني في السياسات العالمية، وبطبيعة الحال كانت سوريا، كما باقي دول المنطقة، من الأسواق الفعّالة لدى الصين.
– الاتحاد الأوروبي: بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هيمنت كل من ألمانيا كقوة اقتصادية، وفرنسا كقوة سياسية، على مفاصل الاتحاد، ولو بشكل غير معلَن؛ فالغرف السوداء البريطانية معروفة بمدى تحكّمها بالسياسات العالمية، وذلك عن طريق استخباراتها والدول والأشخاص أصحاب النفوذ في بلدانهم، والذين هم بالأساس خرّيجو تلك الغرف، ألمانيا مشغولة بتقوية الاقتصاد الذاتي والأوروبي في مواجهة الضغوط الخارجية التي زادت مع الحرب الروسية – الأوكرانية، في حين أنّ فرنسا، ورغم الظروف الداخلية التي تعيشها الحكومات المتلاحقة، والضغط على الرئيس نفسه من خلال هذه الضغوط، تحاول أن تجد موطئ قدم لها في السياسات العالمية. أمّا باقي الدول فلا تتعدّى كونها تحتضن الأماكن الدبلوماسية مثل بلجيكيا، والصندوق المالي مثل سويسرا.
– إسرائيل: بعد فشل اللاعبين الإقليميين في المنطقة، كتركيا والمملكة العربية السعودية ومصر، في القيام بأدوارها على أكمل وجه؛ دخلت إسرائيل على الخط بشكل مباشر، وتبيّن كل ذلك من خلال ما جرى ويجري حالياً بعد السابع من أكتوبر؛ وبالتالي أخذت على عاتقها تغيير الشرق الأوسط سياسياً وجغرافياً، وحتى تغيير التحالفات وخلق واقع جديد يتناسب مع مخطّطات الغرب والمشاريع الاقتصادية والممرّات التجارية.
– المملكة العربية السعودية: تُعَدُّ، وبالمشاركة مع جمهورية مصر، مركزاً اقتصادياً ودينياً للعرب؛ وقد تبيّن كل ذلك من خلال رعايتها للاتفاق الأخير في شرم الشيخ، في محاولة منهما لتهدئة الأوضاع بأقلّ الخسائر ولمراضاة جميع الأطراف.
– تركيا: اللاعب الذي خسر الكثير من الرهانات عليه؛ فلم تستطع الخروج من تحت العباءة الغربية، ولم تستطع في المقابل الدخول في العباءة الشرقية، ومع التخبّط الذي عاشه نظام الحكم الحالي للبلاد خلال أكثر من عقدين في سدّة الحكم؛ فقد خسر الكثير من الأوراق، وافتعل الكثير من المشاكل بدلاً من إخمادها، وعلى رأسها القضية الكردية في الداخل التركي وعدم تقبّلها بإيجاد الحلول المناسبة لها، وتدخّلها السرطاني في الأزمة السورية ودورها السلبي في خلق الفتن بين مكوّنات هذا البلد؛ في محاولة منها لتصدير مشاكلها الداخلية على حساب تلك المكوّنات، والتدخّل في ليبيا والسودان والقضية القبرصية مع اليونان، وافتعال المشاكل بين أذربيجان وأرمينيا، وشراء منظومة “اس 400” الروسية المناقضة لما لديها من سلاح أمريكي، وهي قوة عسكرية مهمة ضمن حلف الناتو، وتعتبرها روسيا المنافس أو العدو الحقيقي لها على الساحة الغربية الأوروبية؛ كل هذه التناقضات التي عاشتها تركيا وتعيشها في الوقت الحالي كافية وكفيلة بتغييرها جذرياً.
– جمهورية إيران الإسلامية: فهمت إيران ما بعد قيام الثورة الإسلامية فيها جيداً أنّ القوة هي السلاح الوحيد للبقاء ما بين الأقوياء؛ ولذلك فقد شرع وحلّل المجمع الإسلامي والفقهي فيها متابعة وتشغيل وتطوير برنامجها النووي، لتصبح ثاني قوة إسلامية في العالم في طور أن تصبح قوة نووية جديدة؛ لكن الضربات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة بيّنت أنّها ماتزال بعيدة عن ذلك، خاصةً بعد قصقصة أذرعها في المنطقة العربية، كما في لبنان وسوريا، وتحجيم دور الآخرين في كل من اليمن والعراق؛ وكسر شوكتها وصورتها في العالم، والتي أصبحت تفاوض على الفتات ومن موقف الضعيف نسبياً.
ترويض الإسلام المتشدّد أو الراديكالي غربياً:
بعد أحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح الإسلام بشكل عام، والمتشدّد بشكل خاص مُستهدَفاً، وبدأت الحروب على تنظيم القاعدة وحركة طالبان الأفغانية كنقطة تحوّل مفصلية؛ ومع ظهور الإسلام الراديكالي المتشدّد في الشرق الأوسط وتمثّله بدولة الخلافة الإسلامية وممارساتها اللاإنسانية، أصبح العالم يعيش حالة تخبّط وفوبيا من كل ما هو إسلامي وكل ما هو متشدّد، لكن ما حدث في دويلة قطر (والتي تُعَدّ دويلة المهام القذرة للمطبخ الغربي) منذ عام 2017م وحتى عام 2021م من مفاوضات أو، إن صحّ التعبير، عملية ترويض لحركة طالبان الأفغانية تدلّ على كيفية استفادة الغرب من هذه القوى الراديكالية بدلاً من عدائها، خاصةً أنّ الولايات المتحدة الأمريكية قد قدّمت أكثر من 822 مليار دولار أمريكي و2300 جندي قتيل وأكثر من 20 ألف جريح خلال حربها التي عرّفتها بالحرب ضدّ الإرهاب؛ كل ما سبق من خسائر، إضافة إلى تمدّد التنّين الصيني اقتصادياً، دقّ ناقوس الخطر لدى الغرب. في سوريا، ومع انتهاء الزمن الافتراضي لحزب البعث والأسد، كان لا بدّ من تحضير البديل الذي يمكنه ضبط الإيقاع على النغمة الغربية، والاستفادة في الوقت نفسه من التشدّد المضبوط؛ وبالتالي حاولت القوى الغربية إعادة التجربة الأفغانية في سوريا من خلال هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وذلك من خلال الاستفادة منها لتمرير المشاريع بدلاً من العداء وصرف المبالغ لمحاربتهم، وبالتالي ترويضهم أيضاً ضمن البوتقة الغربية لخدمة مصالحهم.
سوريا الجديدة ما بين المركزية واللامركزية:
النظام السوري المؤقّت الذي يحكم دمشق منذ سقوط النظام البائد يعيش حالة واضحة من التخبّط والفوضى؛ وكل ذلك لأنّه يخضع لإملاءات من أكثر من جهة دولية وإقليمية، فلم يعد خافياً على أحد أنّه صنيعة بريطانية بدعم أمريكي وتوافق إسرائيلي وروسي، بالإضافة إلى مشاركة بعض الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، في حين أنّ كلّاً من تركيا وقطر قد ركبتا موجة التغيير كي لا تخرجا من الحفلة السورية بدون أخذ حصة لها من كعكتها. الزيارة الأخيرة للرئيس السوري المؤقّت إلى روسيا، وتصريحات وزير خارجيته قد عرّت جميع التحليلات السياسية والمعلومات الاستخباراتية لإنقاذهم ممّا هم فيه، وقد تبيّن كل ذلك من خلال:
– محاولة النظام المؤقّت الاستفادة من العودة الروسية لسوريا (والتي لم تخرج منها أساساً من خلال قاعدة حميميم وقاعدة طرطوس ومطار القامشلي الدولي)؛ وذلك لترتيب أوراقها الداخلية مع الفصائل المتعدّدة التي تحتويها، وللتخفيف من الضغط الداخلي.
– العودة الروسية ربما تكون على حساب الضغط التركي وبموافقة غربية وإسرائيلية.
– فهِمَ النظام المؤقّت في دمشق أنّ الدول الكبرى ليست مجبَرة على تحصين الدولة القائمة والتغطية على أفعالها وتجاوزاتها الداخلية، من تجاهل عن الجرائم وتخفيف للعقوبات والتغاضي عن الجرائم والمجازر التي تقوم بها بعض الفصائل، وفهمت أنّها بالتالي تقوم بدور وظيفي فحسب.
– في حال التخيير ما بين ضباط النظام السابق وقوات سوريا الديمقراطية، سيكون الطرح الكردي باللامركزية السياسية أفضل له من تغلغل الضباط السابقين في وزارة الدفاع وهيئة الأركان، وبالتالي احتمالية الانقلاب على النظام القائم فيما بعد إذا ما قويت شوكتهم.
– كما أنّ حدوث أي اتفاق ما بين نظام دمشق الحالي وقوات سوريا الديمقراطية سيخلق نوعاً جديداً من التفاهمات الدولية، وتوزيعاً جديداً للقواعد والنفوذ الدولي والإقليمي، وسيبعد العنصر التركي عن إسرائيل، أو احتمالية أي احتكاك مباشر فيما بينهما.
في كل الأحوال؛ يبدو أنّ عودة سوريا إلى مربع المركزية الخانقة قد أصبح جزءًا من الماضي، وأنّ أيّ مشروع غير ديمقراطي ولا يراعي خصوصية المناطق الجغرافية والطوائف والمعتقدات الدينية التي تنتشر في أرجاء البلاد، لن يكون مصيره سوى الفشل، ويبدو أنّ حكّام دمشق عليهم فهم هذه المعادلة جيّداً، وعليهم أخذ العبر من مجازر الساحل والسويداء، وكذلك ممّا حدث في الآونة الأخيرة من مناوشات في حيَّي الشيخ مقصود والأشرفية ذوَي الأغلبية الكردية ضمن مدينة حلب.



