“اتّفاق 10 آذار.. فرصة الاستقرار، وخطر الفشل”
وليد الشيخ

المقالة تعبر عن رأي الكاتب
في ظلّ عقد كامل من الحرب والفوضى، تعيش سوريا مرحلة مفصلية تتطلّب إعادة النظر في أسس الدولة والأمن، وفي طبيعة العلاقة بين السلاح والشرعية؛ فقد ترك تعدّد القوى المسلحة والانقسامات الميدانية آثارًا عميقة على المجتمع، وأدّى إلى تراكم الانتهاكات وفقدان الثقة بين المواطنين والمؤسسات. وفي هذا السياق، يبرز اتفاق 10 آذار كفرصة نادرة لتوحيد القوى العسكرية ضمن إطار وطنيّ واحد، يضع حدًّا لعقد الحرب ويؤسّس لمسار سلميّ مستدام.
لكن تحقيق هذا الاندماج ليس مسألة بسيطة؛ فهو يتقاطع مع خبرات القوى الفاعلة على الأرض، خاصة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي اكتسبت، خلال سنوات طويلة، خبرة فريدة في محاربة الإرهاب وإدارة الأمن المحلّي، ومع العوامل الإقليمية والدولية المؤثّرة، وعلى رأسها الدور التركي الذي يسعى إلى عرقلة أي مسار توحيدي.
هناك تساؤلات جوهرية حول إمكانية توحيد السلاح، ودور قسد في الأمن والاستقرار، والعقبات التي تواجه تنفيذ اتفاق 10 آذار، وصولًا إلى تصوّر الرؤية المثالية لاندماج قسد ضمن هيكل الدولة السورية بطريقة عادلة ومستدامة.
هل يمكن أن تكتب سوريا صفحة جديدة من تاريخها دون أن تُوحّد السلاح تحت راية وطنية واحدة؟
وهل يمكن لقوة عسكرية وُلِدت من رحم الحرب، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أن تتحوّل من قوة أمر واقع إلى ركيزة في مشروع الدولة؟
ثم، هل سيُسمح لهذا التحوّل أن يتحقّق أصلًا، في ظلّ تشابك المصالح الإقليمية، وعلى رأسها الدور التركي المعرقل لأيّ مسار توحيدي؟
هذه الأسئلة الثلاثة ليست تنظيرية أو عاطفية، بل تختصر جوهر الصراع السوري في مرحلته الراهنة: من يملك القوة؟ ومن يملك الشرعية؟ ومن يملك القرار؟
منذ أكثر من عقد من الزمن، تمرّ سوريا بفترة تتقاطع فيها الولاءات والجهات الداعمة؛ فصائل مدعومة من الخارج، وأخرى مرتبطة بمراكز نفوذ محلّية، وزعماء قوات النظام البائد بتركيبتها القديمة لازالوا يطلقون التهديدات هنا وهناك رغم تبدّل الظروف. هذا التعدّد لم يكن تنوّعًا إيجابيًا بل عبئًا على فكرة الدولة؛ إذ جعل من السلاح أداة تفاوض وليس حماية، ومن الجغرافيا مناطق نفوذ لا مواطنة.
ولهذا؛ فإنّ توحيد القوى العسكرية بات شرطًا لبناء أي عقد اجتماعي جديد، لأنّ الدولة لا تقوم على تعدّد البنادق، بل على انصهارها في بنية واحدة تملك قرار الحرب والسلم وفق القانون لا الولاء.
تجارب دول ما بعد النزاعات، من البوسنة إلى لبنان، تؤكّد أنّ السلم المستدام لا يتحقّق إلّا حين تُدمَج التشكيلات المسلّحة ضمن مؤسسة وطنية متّفق على عقيدتها، لا حين تبقى كل جهة تحتفظ بسلاحها “للاحتياط”. في سوريا، تمثل قوات سوريا الديمقراطية أحد أهم المفاتيح لهذا التحوّل؛ لأنّها القوة التي راكمت شرعية ميدانية حقيقية لم تأتِ من قرار سياسي بل من تضحيات ميدانية، بدءًا من معركة كوباني 2014 التي شكّلت نقطة التحوّل في مواجهة تنظيم داعش، مرورًا بتحرير منبج والرقة ودير الزور، وانتهاءً بعمليات ملاحقة الخلايا النائمة التي لا تزال مستمرّة حتى اليوم.
قوات سوريا الديمقراطية لم تُقاتل فحسبُ، بل أسّست لبنية أمنية متكاملة، تضمّ قوات الأسايش ووحدات مكافحة الإرهاب، وهي أجهزة اكتسبت خبرة تنظيمية نادرة في ظلّ فوضى الحرب. هذا التماسك جعلها تختلف جذريًا عن معظم الفصائل المسلحة في باقي المناطق، والتي تنازعت فيما بينها على السلطة والمكاسب، وارتكبت انتهاكات وثّقتها تقارير حقوقية عديدة، خصوصًا في مناطق الشمال الغربي، حيث تداخلت الفصائل وتحوّلت إلى أدوات بيد القوى الخارجية؛ وقد انعكس ذلك في أحداث الساحل والسويداء التي تسبّبت بشرخ كبير في المجتمع السوري، وجرح مفتوح ما كان ليحدث مع وجود قليل من الاحترافية والمهنية لدى الجيش السوري وضباطه.
وما يجعل دور قوات سوريا الديمقراطية استثنائيًا هو أنّها استطاعت أن تكون قوة أمنية ومجتمعية في آن واحد؛ فقد تعاملت مع بيئة متعدّدة القوميات (كرد، عرب، سريان، آشوريين)، وحافظت على توازن دقيق بين ضرورات الأمن واحتياجات السكان المحلّيين.
إنّ الدعوة اليوم إلى اندماج قوات سوريا الديمقراطية، وفق اتفاق 10 آذار، لا تعني نزع سلاحها أو تفكيكها، بل إعادة تأهيل هذا السلاح داخل منظومة وطنية حديثة؛ فالكفاءة التي اكتسبتها هذه القوات خلال حربها ضد الإرهاب لا يمكن تعويضها، وهي تمثّل خبرة عملية نادرة في مجال مكافحة التنظيمات المتطرّفة، كما أنّ امتلاكها لشبكات استخبارية وعملياتية فعّالة يجعلها جزءًا لا يمكن تجاوزه في أي هيكل أمنيّ وطنيّ مستقبليّ.
لكن المفارقة المؤلمة هي أنّ قوات سوريا الديمقراطية تُعاقَب اليوم على كفاءتها؛ فبدل أن تُكافأ على دورها في حماية شرق الفرات من الفوضى، تُواجه محاولات مستمرّة لتهميشها أو تحجيمها سياسيًا؛ وهذا التناقض يعيد إلى الأذهان تجارب سابقة في تاريخ سوريا المعاصر، حين أُقصيت القوى الفاعلة ميدانيًا عن المشهد السياسي، فاستمرّت حالة اللاتوازن التي فجّرت النزاعات مرارًا وتكرارًا.
تركيا: العامل المعرقِل والدوّامة المتوقّعة
سعت تركيا بكل الوسائل لإفشال اتفاق 10 آذار، أو (دمج قوات سوريا الديمقراطية مع الجيش السوري – لكن على طريقتها – أي؛ إلقاء السلاح والدمج كأفراد لا ككتلة عسكرية) سواء عبر الضغط العسكري المباشر (من خلال القصف المتكرّر على مناطق الإدارة الذاتية)، أو عبر التحريك غير المباشر لفصائلها في الشمال السوري لخلق حالة من التوتّر تمنع أي مسار توحيدي.
إنّ نجاح تركيا في تعطيل هذا المسار لا يعني فقط نسف الاتفاق، بل إعادة سوريا إلى نقطة الصفر، حيث دوامة جديدة من الاشتباكات قد تندلع، وتعيد البلاد إلى مشهد الفوضى والانتهاكات الواسعة؛ وأي انهيار لمسار الاندماج سيعني ضياع فرصة تاريخية لتوحيد الجغرافيا الأمنية، كما سيُضعف موقع الحكومة الانتقالية أمام المجتمع الدولي، الذي يراقب مدى قدرة الحكومة السورية المؤقّتة على إدارة الخلافات داخليًا دون وصاية أو قتال.
وفي ظل هذه الظروف؛ يصبح السؤال الاستراتيجي: هل تملك الحكومة الانتقالية الشجاعة والرؤية الكافية لتوقيع شراكة أمنية حقيقية مع قوات سوريا الديمقراطية رغم الاعتراض التركي؟
إنّ الإجابة الإيجابية عن هذا السؤال ستحدّد ما إذا كانت سوريا تسير نحو دولة وطنية جامعة، أم أنّها تتّجه نحو إعادة إنتاج الخرائط الممزّقة بأسماء جديدة.
الرؤية المثالية لاندماج قوات سوريا الديمقراطية لا تقوم على الذوبان، بل على الاعتراف والمأسسة؛ فالاعتراف بتضحياتها وخبرتها شرط نفسي وسياسي لبناء الثقة، ويكون بإعادة صياغتها كبنية أساسية لإعادة بناء الجيش السوري الجديد. يجب أن يتم الدمج وفق معايير واضحة، تضمن تمثيلًا عادلا للجميع في مؤسّسات الجيش والأمن، وتؤسّس لعقيدة وطنية تتجاوز الانتماءات العرقية أو الجهوية.
كما أنّ عملية الدمج يجب أن ترافقها خطوات سياسية متوازية؛ مثل إشراك المجالس المدنية في الرقابة على الأجهزة الأمنية، واعتماد آليات مساءلة لمرتكبي الانتهاكات بغض النظر عن انتمائهم، وتفعيل برامج تنشيط الحياة المدنية. إضافة إلى ذلك، يمكن الاستفادة من خبرات قوات سوريا الديمقراطية في إنشاء مدرسة وطنية لمكافحة الإرهاب، تكون نواةً لبناء قدرات جديدة داخل المؤسّسة العسكرية.
هذه الخطوات لا تُنهي الخلافات، لكنّها تؤسّس لشراكة أمنية عادلة، تُعيد للسوريين الثقة بأنّ الدولة القادمة ليست دولة المنتصِر والمغلوب، بل دولة الشركاء في الدم والمصير.
إنّ اتفاق 10 آذار ليس مجرّد وثيقة سياسية، بل فرصة لإعادة هندسة المشهد السوري، وإذا لم يُترجم هذا الاتفاق إلى رؤية اندماج واقعية تعترف بالكفاءة وتُؤطّر السلاح في مؤسّسة وطنية، فإنّ سوريا ستظلّ أسيرة معادلة السلاح بلا شرعية، والشرعية بلا سلطة.
الفرصة لا تزال قائمة، لكنّ الزمن ليس في صالح أحد؛ فإمّا أن يكون الاندماج مدخلًا لسلام دائم يكرّم تضحيات الجميع، وإمّا أن تظلّ الحرب تكتب مصير السوريين بأيدي غيرهم.


