توازن السياسة الخارجية السورية في ظل التعقيدات الداخلية
وليد الشيخ

المقالة تعبر عن رأي الكاتب
منذ سقوط النظام السوري وبدء تشكّل حكومة انتقالية ذات طابع معقّد، يجمع بين الفصائل المسلّحة السابقة وبعض القوى المدنية والسياسية الناشئة، برزت أمام الدولة الجديدة معضلة جوهرية تتمثّل في كيفية إعادة صياغة السياسة الخارجية ضمن بيئة داخلية مضطربة ومليئة بالتناقضات البنيوية. فالحكومة التي تمثّل فعلياً الامتداد السياسي لهياكل كانت تنتمي سابقاً إلى هيئة تحرير الشام، والتي ضمّت في صفوفها مقاتلين أجانب من الأويغور والفرنسيين وغيرهم، تجد نفسها اليوم أمام استحقاق إعادة تعريف العلاقة بين الداخل والخارج، وبين ضرورات الأمن ومتطلّبات الشرعية الدولية؛ وهذه الثنائية الحساسة تُشكّل تحدّياً مستمرّاً لخط السياسة الخارجية السورية الجديدة، التي تحاول الموازنة بين مقاربة انفتاحها على العالم وبين ثقل الإرث العسكري والإيديولوجي الذي ما زال يقيّد حركتها، ويثير شكوك القوى الإقليمية والدولية على حدّ سواء.
إنّ المشهد السوري الراهن يختزن طبقات من التعقيد السياسي والأمني؛ فمن جهة، ما زال وجود المقاتلين الأجانب يشكّل هاجساً مقلقاً للدولة والمجتمع معاً، نظراً لأنّ عدداً منهم ينتمي إلى تنظيمات ذات نزعة متشدّدة أو كانت جزءاً من تشكيلات عابرة للحدود؛ الأمر الذي يجعل من قضية ضبط هؤلاء وإعادة توجيههم واحدة من أخطر ملفات الأمن الوطني السوري. ومن جهة أخرى، فإنّ هذه المسألة تثير مخاوف عميقة لدى القوى الدولية التي ترى في هؤلاء المقاتلين تهديداً مباشراً لأمنها القومي. الصين، على سبيل المثال، تنظر إلى المقاتلين الأويغور كمصدر تهديد محتمل يمكن أن يُعاد تفعيله ضدّها في أي لحظة، بينما تعتبر فرنسا أنّ عودة مواطنيها المنخرطين سابقاً في النزاع السوري مسألة تمسّ الأمن الأوروبي برمّته؛ وبين هذين الموقفَين المتباينَين تقف دمشق في وضع لا تُحسَد عليه، تحاول فيه التوفيق بين المطالب الخارجية الصارمة وبين ضرورات الحفاظ على تماسكها الداخلي في مرحلة انتقالية هشّة.
في هذا السياق، يتّضح أنّ أيّة محاولة لبناء سياسة خارجية متوازنة لن تكون ممكنة ما لم يتم أولاً ترتيب البيت الداخلي وإعادة تعريف مفهوم السيادة من خلال ضبط الفصائل، وتوحيد البنية الأمنية، وخلق منظومة قانونية واضحة لمعالجة ملف المقاتلين الأجانب. فالدولة الانتقالية، ولكي تحظى باعتراف دولي فعّال، مطالَبة بتقديم نموذج سياسي وأمني قادر على طمأنة الأطراف المختلفة بأنّ الأرض السورية لن تعود مرتعاً للتنظيمات العابرة للحدود أو مصدراً للتهديدات الأمنية؛ وهذا يتطلّب حواراً وطنياً صريحاً بين المكوّنات السورية كافة، يهدف إلى وضع أسس دستور جديد يقوم على مبادئ المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، ويؤسّس لسلطة شرعية تحتكم إلى القانون بدلاً من منطق السلاح والولاءات الفصائلية. الشرعية السياسية في الحالة السورية الجديدة لن تُبنى على موازين القوة فحسب، وإنّما على مدى قدرتها على تحقيق العدالة وضمان أمن الجميع دون استثناء.
ورغم محاولات الحكومة الانتقالية رسمَ خطوط سياسة خارجية متوازنة، تقوم على مبدأ الحياد الإيجابي والانفتاح على مختلف الأقطاب، إلّا أنّ هذه المساعي كثيراً ما تصطدم بواقع داخلي مضطرب؛ فكل خطوة نحو بناء علاقات دولية جديدة تُقابل بحسابات دقيقة داخلية تتعلّق بتوازن القوى بين الفصائل، وبخشية بعض الأطراف من أنّ أي تقارب مع الغرب أو مع الصين قد ينعكس على موقعها داخل السلطة الانتقالية. هذا التداخل بين الداخلي والخارجي يجعل السياسة السورية الجديدة أقرب إلى عملية توازن مستمرّ بين المصالح والمخاطر؛ فبينما تسعى دمشق إلى كسب الاعتراف الدولي وإعادة الإعمار وجذب الاستثمارات، تجد نفسها مضطرّة في الوقت ذاته إلى التعامل بحذر مع القوى التي شاركت في إسقاط النظام، والتي تمتلك السلاح والنفوذ وتتحسّس من أي تحوّل قد يهدّد مكاسبها الميدانية والسياسية.
في البعد الإقليمي، تبدو المعضلة أكثر تعقيداً؛ فدول الجوار كالأردن ومصر، تنظر بقلق إلى مستقبل الملف الأمني السوري، خشية انتقال الفوضى أو عودة النزعات الجهادية إلى داخل أراضيها. ومن هنا؛ تحاول هذه الدول التأثير في مخرجات السياسة السورية الجديدة عبر تقديم مبادرات أو اشتراطات أمنية معيّنة، وهو ما يفرض على الحكومة الانتقالية أن تمارس نوعاً من البراغماتية الدقيقة. هذا التوازن يتطلّب خبرة دبلوماسية متقدّمة؛ إذ إنّ المبالغة في تقديم التنازلات الخارجية قد تُفقد الدولة هيبتها داخلياً، في حين أنّ التشدّد المفرط قد يعزلها دولياً ويؤخّر الاعتراف بها كطرف شرعي في الساحة الدولية.
من الناحية البنيوية، فإنّ مسألة إعادة هيكلة القطاع الأمني والعسكري تظلّ المدخلَ الأساسي لاستعادة التوازن في الداخل ومن ثم في الخارج؛ فالخطر لا يكمن في وجود مقاتلين أجانب فحسب، بل في تآكل مفهوم الانتماء الوطني داخل بعض التشكيلات المسلّحة. إن إعادة بناء المؤسسات على قاعدة الولاء للدولة لا للفصائل تمثّل الخطوة الحاسمة في طريق تثبيت الاستقرار، وحين تُصبح الأجهزة الأمنية خاضعة لرقابة مدنية وقضائية، فإنّ ذلك سينعكس مباشرة على ثقة المجتمع الدولي بقدرة الدولة السورية على إدارة التزاماتها؛ فالتوازن في السياسة الخارجية لا يمكن أن يُبنى على أرض رخوة داخلياً، بل على منظومة قانونية ومؤسساتية تمنح الشرعية لقرارات الدولة وتُعيد ضبط علاقتها بمحيطها الإقليمي والدولي.
لقد بات واضحاً أنّ مستقبل السياسة الخارجية السورية لن يُرسم في العواصم الكبرى بقدر ما سيتحدّد في دمشق نفسها، وذلك عبر طبيعة التحوّل السياسي الداخلي وقدرته على إنتاج عقد اجتماعي جديد يعيد الثقة بين المكوّنات السورية؛ فكلّما تمكّنت الدولة من معالجة ملفاتها الأمنية والحقوقية بشفافية ومسؤولية، ازدادت قدرتها على الانفتاح الخارجي وتحقيق توازن مستدام بين القوى الدولية المتنافسة على النفوذ في سوريا. التوازن الحقيقي لا يتحقّق بالحياد الخطابي ولا بالمناورات الدبلوماسية المؤقّتة، وإنّما بإعادة بناء الداخل على أسس العدالة والمساءلة؛ بحيث يتحوّل الاستقرار الداخلي إلى قاعدة للسيادة الخارجية لا إلى نقطة ضعف يستغلّها الآخرون.
إنّ سوريا اليوم أمام مفترق طرق حاسم؛ فإمّا أن تتحوّل إلى نموذج لدولة ما بعد النزاع، والقادرة على الجمع بين السيادة والاعتدال والانفتاح، أو أن تبقى أسيرة تناقضاتها الداخلية وضغوط الخارج التي ستُعيد إنتاج أزماتها بأشكال مختلفة. ولكي تتجنّب الدولة الانتقالية هذا المأزق، فعليها أن تُطلِق مشروعاً وطنياً شاملاً يعيد تعريف علاقتها بذاتها وبالعالم؛ فالتوازن في السياسة الخارجية لن يكون ممكناً إلّا بقدر ما يتحقّق التوازن في الداخل، وهذا هو التحدّي الأكبر في مسيرة التحوّل السوري الراهن، حيث تتقاطع السياسة مع الأمن، والهوية مع الدولة، والشرعية مع القدرة على الفعل.


