تركيا والسلام مع الكُرد.. الطريق نحو الدولة الإقليمية الكبرى

د. مرشد اليوسف

في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط لا توجد قضية أكثر تعقيدًا وتشابكًا من القضية الكردية، ولا توجد دولة متداخلة مع هذه القضية أكثر من تركيا؛ فمنذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، اتّبعت الدولة التركية سياسة الإنكار مع الكُرد، رغم أنّ الكرد شعب أصيل يمتدّ وجوده في الأناضول إلى قرون طويلة.

غير أنّ هذه السياسة لم تُفضِ إلّا إلى تكرار العنف، واندلاع المواجهات الدموية بين الدولة والحركات الكردية، وكان أكثر تلك المواجهات دموية هو النزاع المستمرّ مع حزب العمال الكردستاني منذ عام 1984.

ولكن السؤال الذي يُطرَح اليوم وبإلحاح هو:

 ماذا لو غيّرت تركيا بوصلتها بالفعل؟ ماذا لو سلكت طريق السلام الحقيقي مع الكُرد؟

والإجابة ستكون واضحة؛ وهي:

إن تركيا ستتحوّل إلى دولة إقليمية كبرى، متحرّرة من قيودها الداخلية، وأكثر قدرة على رسم خرائط المنطقة بدل أن تُرسَم لها.

ويتّفق كثير من المراقبين على أنّ القضية الكردية داخل تركيا تمثّل نصفًا مشلولًا من الجسد الوطني؛ فالكرد، الذين يشكّلون نحو 20% أو أكثر من سكّان البلاد، ظلّوا لعقود طويلة على هامش الدولة القومية الطورانية، دون الاعتراف بلغتهم، أو التمثيل العادل لهويّتهم، أو الإشراك الحقيقي في القرار السياسيّ.

 وهذه الإقصائية أنتجت حالة ثورية طويلة الأمد، أرهقت الدولة، وأضعفت بنيتها الأمنية، وأجهضت الكثير من فرص التنمية في مناطق شرق وجنوب شرق الأناضول، هذه المناطق الغنية بالموارد والثروات البشرية.

إنّ النجاح في الوصول إلى السلام الحقيقي مع الكُرد، ليس مجرّد اتفاق سياسي، وإنّما هو إعادة إدماج ملايين المواطنين في الحياة العامة، وتحرير طاقاتهم المهدورة في بناء الدولة بدلاً عن مواجهتها.

ومن المؤكّد أنّ تركيا تعيش في منطقة تعجّ بالتحوّلات وانهيار النظم السياسية، وصعود القوى التي تشكّل هويات جديدة، وتشهد تحوّلاتٍ في موازين القوى؛ ولكي تلعب تركيا دورًا قياديًا في هذه البيئة المتغيّرة، لا بدّ أنّها بحاجة إلى التخلّص من نقاط ضعفها البنيوية، وأهمّها الصراع الداخلي مع الكرد؛ فالسلام مع الكُرد في الداخل سيفتح الباب على مصراعيه أمام التحوّل الجذري في علاقة تركيا بكرد الخارج، خاصة في سوريا والعراق، بدلًا من اعتماد النهج العسكري والتدخّلات العنيفة؛ حيث يمكن لأنقرة أن تستخدم أدوات القوة الناعمة، مثل: الاقتصاد، واللغة، والمصالح المشتركة، وحتى الروابط الثقافية، لبناء نفوذ حقيقي ومُستدام على امتداد الجغرافيا الكردية.

وفي حال تبنّت تركيا مشروعًا ديمقراطيًا يستوعب الكُرد، فإنّها ستقطع الطريق أمام خصومها لاستغلال الورقة الكردية، وستتمكّن من صياغة دور إقليمي جامع، لا يقوم على الصِّدام، وإنّما على التفاعل والتكامل.

ويقدّر الخبراء أنّ النزاع المسلّح مع الكُرد قد كلّف الاقتصاد التركي آلاف المليارات من الدولارات، سواء في الإنفاق العسكري أو في تعطيل التنمية في مناطق شاسعة من البلاد.

 والسلام هنا ليس خيارًا أخلاقيًا فحسب، وإنّما هو ضرورة اقتصادية أيضاً؛ فمناطق الكُرد غنيّة بالثروات الطبيعية، وتمتاز بالكثافة السكانية الشابّة، والأسواق الواسعة. ومع انفتاحها؛ يمكن أن تصبح محرّكات النمو حقيقية، خاصة إذا ما تمّ ربطها بمشاريع الطاقة والبنية التحتية العابرة للحدود، نحو العراق وسوريا.

لاشكّ أنّ تركيا اليوم، تحت مجهر الغرب والعالم، تُتّهم بانتهاك حقوق الإنسان، وبقمع الحريات، وبتضييق الخناق على الإعلام والمعارضة، وبإقصاء الكُرد؛ وهذه الصورة تكلّفها كثيرًا على صعيد السياسة الخارجية، كما تحدّ من قدرتها على بناء التحالفات الفاعلة.

لكن الانفتاح على الكرد، والاعتراف بهم كشركاء متساوين، قد يغيّر هذه الصورة ويُعيد رسمها من جديد، ويمنح تركيا شرعية جديدة كدولة ديمقراطية ناشئة قادرة على تقديم نموذج ثالث في المنطقة، نموذج غير طائفي وغير قوموي، وإنّما تعدّدي وتوافقي.

وتركيا الآن أمام فرصة تاريخية؛ فكما كانت قضية الكُرد سببًا في استنزافها لعقود، فإنّ السلام مع الكرد يمكن أن يكون بوّابتها نحو المستقبل، وشرطًا ضروريًا لتحوّلها إلى قوة إقليمية كبرى. إلّا أنّ السلام ليس إعلان نوايا فحسب، بل هو مسار معقّد يتطلّب شجاعة سياسية، واعترافًا صريحًا بالحقوق، وإعادة صياغة للعقد الاجتماعي بين الدولة ومكوّناتها؛ حينها فقط، يمكن لتركيا أن تتحرّر من إرثها القومي المنغلق، ويمكنها أن تفتح صفحة جديدة، ليس مع الكرد وحدهم، بل مع ذاتها أيضاً.

ويمكن تحقيق ذلك من خلال:

–  الاعتراف الدستوري بالهوية الكردية:

بإدراج الكُرد كلغة وثقافة وهوية في الدستور التركي بشكل صريح، بوصفهم مكوّنًا أصيلًا من مكوّنات الأمة التركية التعدّدية، وكذلك بالتخلّي عن مفهوم “المواطن التركي بالهوية فقط” والذي يختزل التعدّدية في قومية واحدة.

–  فتح المجال السياسي أمام الأحزاب الكردية:

برفع الحظر السياسي والقانوني عن ممثّلي الأحزاب الكردية، خاصة (Dem Partî)، وضمان مشاركتهم الكاملة في الحياة البرلمانية والبلدية، ووقف حملات التشويه والتجريم السياسي.

–   إطلاق عملية السلام بشفافية وطنية:

باستئناف عملية الحوار السياسي مع الكرد من خلال مفاوضات رسمية تحت رعاية وطنية، وبمشاركة المجتمع المدني، مع إشراف دوليّ رمزيّ يُضفي الشرعية على المسار، ويضمن التزام جميع الأطراف.

–  إنهاء النهج الأمني والعسكري الأحادي:

بوقف العمليات العسكرية ضدّ الكرد داخل تركيا وخارجها، وتبنّي سياسات أمنية تستند إلى احترام القانون وحقوق الإنسان، وبالتوازي مع المعالجة الحقيقية لقضايا العنف والنزاع في المناطق الكردية، عبر العدالة التصالحية والتنمية الشاملة.

–  الاستثمار في تنمية المناطق الكردية:

من خلال إطلاق خطّة اقتصادية كبرى لإعمار وتحديث مناطق شرق وجنوب شرق الأناضول، تشمل البنية التحتية، والتعليم، والصحة، وتوفير فرص العمل؛ بما يُنهي التهميش التاريخي، ويخلق شراكة متكافئة بين الدولة والمجتمعات الكردية.

–  تعزيز الثقافة الكردية في الإعلام والتعليم:

وذلك من خلال فتح قنوات إعلامية رسمية وخاصة، ناطقة بالكردية، وتضمين اللغة والأدب والتاريخ الكردي في المناهج الدراسية، بوصفها جزءًا من الثقافة الوطنية والتراث الوطني التركي المتنوّع.

–  تبنّي نموذج دولة المواطنة المتساوية:

من خلال التوجّه نحو نموذج سياسي واجتماعي يُبنى على أساس المواطنة المتساوية، وليس على أساس الانتماء القومي أو الديني؛ بما يضمن لجميع المواطنين حقوقًا متساوية، ويُنهي منطق الهوية القومية الحاكمة.

–  استخدام السلام الداخلي كورقة نفوذ إقليمي:

وذلك من خلال ترجمة المصالحة مع الكُرد إلى رافعة إقليمية لتركيا؛ عن طريق بناء علاقات إيجابية مع كرد سوريا والعراق وإيران، على قاعدة المصالح المشتركة والروابط الثقافية، وليس على أساس التدخّلات العسكرية أو الترهيب.

من المؤكّد أنّ بناء سلام تاريخي مع الكُرد ليس فقط خيارًا عقلانيًا، وإنّما ضرورة استراتيجية لمستقبل تركيا السياسي والاقتصادي والديمغرافي؛ فالقوة لا تُبنى بالقوة، بل بالشراكة والثقة المتبادَلة، وتركيا التي تُنهي خصومتها مع الكرد هي تركيا الجديدة، دولةً إقليميةً كُبرى، مستقرّة من الداخل، وفاعلة ومؤثّرة في الخارج.

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush