سوريا الجديدة.. استثمارٌ سياسيٌّ وهيمنةٌ اقتصادية
شرفان سيف الدين

بات من الواضح أنّ الاقتصاد السوري بعد عام 2011م أصبح يعيش حالة تذبذب مخيف، وفي كل الأحوال يدفع المواطن العادي أو الشعب الضريبة الأكبر لكلّ النتائج المأساوية الناتجة عن الأزمة الداخلية وما نتج عنها من عقوبات خارجية، مثل العقوبات المالية المتمثّلة في تجميد الأموال والأصول وحظر التمويل، وعقوبات اقتصادية كفرض قيود على عمليات الاستيراد والتصدير، وعقوبات شخصية تتعلّق برجال الأعمال ومنعهم من السفر لحضور المؤتمرات والنشاطات الاقتصادية، وأيضاً عقوبات دبلوماسية كأفراد وكيانات وقطع للعلاقات الدبلوماسية الرسمية مع قيادات النظام البائد من قبل المنظمات الدولية والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، وغير ذلك. وبحسب آخر تقرير صادر عن البنك الدولي في 7 تموز الماضي؛ فإنّ التقرير توقّع نموّاً متواضعاً لا يتجاوز 1% للناتج المحلّي، وانكماشاً بنسبة أكثر من 50% وانخفاض نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي إلى 830 دولار امريكي فقط؛ وبالتالي فإن كل شخص من بين أربعة اشخاص يعيش حالة فقر مدقع، ويعيش الثلثان تحت خط الفقر، خاصةً مع توقيف المساعدات الخارجية للمنظمات الدولية العاملة داخل سوريا، والتي بدورها تموّل المنظّمات والجمعيات المحلّية للقيام بالنشاطات التوعوية والتنموية المرافقة للعملية الاقتصادية.
يُعَدُّ الاقتصاد السوري منذ الاستقلال اقتصادًا مضطرباً بشكل عام، لكن مع وصول حزب البعث العربي إلى سُدّة الحكم أصبح أكثر فوضوية رغم تبنّيه سياسات اشتراكية لتأميم القطاع الزراعي وإصلاحه وتخفيف القيود البيروقراطية على هذا القطاع بشقّيه العام والخاص؛ حيث يُعَدّ القطاع الزراعي إلى جانب القطاع النفطي والثروات الباطنية الركيزة الأساسية للاقتصاد السوري، ويشكّل هذان القطاعان ما يزيد عن نصف الناتج المحلّي الإجمالي، لكن عدم الاعتماد على الجانب النفطي، والذي تحتلّ سوريا فيه المرتبة السابعة والعشرين عالمياً، على أساس أنّه غير مستدام، وعدم إدخاله في الموازنات العامة بشفافية، وتخصيص وارداته لحسابات خاصة وجهات أمنية غير معلومة، أدّى إلى عدم إنعاش حقيقي للاقتصاد العام والاعتماد على الفتات فقط. يُضاف إلى ما سبق أنّه خلال الأزمة السورية وتوضّح الصورة كاملة، والتدخّل الروسي والإيراني لحماية النظام من السقوط، اللذان لم يوفّرا أيّة فرصة في استغلال الاقتصاد السوري، وقد تبيّن ذلك من خلال تقاسم هذه القوى للثروات الباطنية، كالنفط والغاز والفوسفات، وللاستثمارات السورية، كمينائَي اللاذقية وطرطوس.
مرحلة عنق الزجاجة والانتقال شبه السلمي للسلطة:
بعد الثامن من كانون أول عام 2024م، وهو تاريخ سقوط النظام البعثي البائد، تنفّس الشعب السوري بشكل عام الصعداء، وتأمّل هذا الشعب المنهَك أصلاً أن تتغيّر أحواله نحو الأفضل، لكن مع مرور الوقت وقيام القوى ذات الخلفية الجهادية بالتكشير عن أنيابها، وعدم ارتياح الشعب للسلطة الجديدة، توقّفت عجلة الاقتصاد بشكل مروّع خلال ثلاثة أو أربعة الأشهر الأولى من تسلّم الإدارة الجديدة للبلاد؛ وذلك لعدم جلاء الصورة بشكل واضح عن مدى وكيفية تعامل المجتمع الدولي والإقليمي معه، رغم التسريبات والتقارير التي تفيد بمدى اطّلاع الغرب خاصةً على مخطّط وكيفية وصول هذه الكتلة لدمشق والسيطرة على الحكم فيها.
استلمت السلطة الجديدة زمام الأمور في إدارة الدولة والمؤسسات القائمة بالفعل، بواقعها الشكلي أو الصوري، وهي خاوية على عروشها دون امتلاك أدنى مقوّمات العمل الفعلي، لتبدأ الحكومة أو المجموعة التي وصلت إلى مركز القرار باتخاذ إجراءات اسعافية في عملية تدوير ونقل السلطات وقيادة المؤسسات إلى كادرها الذي كان يدير جزءاً بسيطاً من سوريا كمحافظة إدلب تحت مسمّى (حكومة الإنقاذ) في الفترة الممتدّة ما بين عام 2017م وحتى إسقاط النظام السابق. بطبيعة الحال؛ لا يمكن إسقاط التجربة هناك على كامل الأراضي السورية على أنّها كانت ناجحة أو فاشلة، فالظروف التي هيّأت لقيام تلك الحكومة، وفي ذلك التاريخ والجغرافية والطبيعة والحاضنة الاجتماعية والثقافة المجتمعية، تختلف كلّيّاً عن بقية مناطق سوريا؛ وعليه فقد بدأت الحكومة الجديدة المؤقّتة بالبحث مبكّراً عن منافذ اقتصادية سريعة في محاولة منها لإضفاء الشرعية الداخلية عليها، وحسب المتابعات السياسية والاقتصادية والتسارع في عملية تقديم الدعم من جانب الدول العربية، وخاصةً الخليجية، وعلى وجه الخصوصية أكثر المملكة العربية السعودية، فقد توضّحت الصورة للمتابع أن تبنّي العرب للحكومة أو القيادة الجديدة لسوريا ما هي إلّا محاولة جادّة منها لإعادة سوريا للحضن العربي وإخراجها من هيمنة الدول الإقليمية الفاعلة وخاصةً تركيا.
الاقتصاد كأداة شرعنه للسلطة الحالية:
بدأ الانفتاح المبكّر والمتسارع على الحكومة المؤقّتة من قبل الدول الإقليمية الفاعلة؛ في محاولة عملية لفرض هيمنتها على سوريا وإدارتها الجديدة بشكل أكبر؛ وبالتالي إعطاء الشرعية أو الاعتراف المؤقّت للحكومة الجديدة لكسب الودّ والاستفادة الأكبر منها سياسياً واقتصادياً، وعليه فإنّ مسألة الاستثمارات الخارجية في سوريا حالياً ربّما لا تكون واقعية أو حتى ضرباً من الخيال، خاصةً في ظل الظروف التي تعيشها البلاد من حالة تناحر طائفي وقومي وحتى مذهبي؛ لذلك لا يمكننا القول بأنّ باب الاستثمار الاقتصادي على وجه الدقّة قد فُتح في سوريا على مصراعيه، خاصة مع وجود:
- حالة الفوضى واللااستقرار الأمني.
- حالة عدم وجود بيئة مستقرّة سياسية واقتصادية.
- حالة القانون المضطرب مع غياب شبه كامل للأمن القانوني.
- هشاشة المؤسسات الحكومية وعدم وجود فعليّ لبعضها أصلاً مع تضرّر بنيتها التحتية.
- عدم التوافق في الرؤية ما بين القوى الفاعلة على الأرض حول شكل الدولة والمؤسسات المستقبلية؛ وبالتالي استمرارية مناطق نفوذ متعدّدة تحت رحمة الفصائلية العسكرية.
- الغياب شبه التام للشفافية والثقة ما بين القوى والطوائف والقوميات في ظل الفلتان الأمني.
- التصارع الإقليمي المتسارع على كسب العقود الاقتصادية والتسابق عليها.
أمّا عملية تسليط الضوء من قبل الحكومة الحالية المؤقّتة والتركيز على الجانب الاستثماري والاقتصادي، فالغاية الأساسية منها سياسية بحتة، ألا وهو خلق هالة شرعية لها في المحافل الإقليمية والدولية؛ وبالتالي كسب اعتراف سياسي وتسجيل نقاط لها بدلاً من تسجيلها عليها، ويتجلّى كل ذلك من خلال التهافت والتسارع السعودي – التركي على كسب أكبر عدد من هذه العقود، ولو بنموذجها الشكلي، مع وجود مقوّمات ونقاط قوة لكل منها على أرض الواقع، فتركيا مثلاً تحاول الاستفادة من عامل الجغرافية واللعب عليه والاستفادة قدر الإمكان من قطاعات الطاقة والبنية التحتية والاستثمار في التدريب العسكري للمحافظة على الولاءات وجعلها تحت عباءتها، لإمكانية الاستفادة منها عند اللزوم دون الاضطرار إلى التدخّل المباشر الذي ربما يفتح عين المجتمع الدولي عليها في عدم أحقّيتها في ذلك، في حين أنّ المملكة العربية السعودية تحاول، من خلال مالها السياسي، وضع الإدارة الجديدة تحت هيمنتها الاقتصادية، وإعادة سوريا للحضن العربي وإبعادها قدر المستطاع عن المحور التركي؛ وذلك لقطع الطريق أمام تكرار النموذج الإيراني في الهيمنة على دولة عربية وقرارها السياسي، وما المنتدى الأخير الذي أقامته في دمشق إلّا خطوة رمزية لتوضيح كيف أنّه يمكن للمال الخليجي إعادة الإعمار وحتى الازدهار لسوريا تحت القيادة العربية، كما أنّ السعودية كانت قد خطت خطوة عملية قبل ذلك عندما دفعت الفاتورة عن سوريا خلال لقاء الرئيس السوري المؤقّت مع الرئيس الأمريكي في السعودية؛ كنوع من التجميل والتشجيع للمضيّ بهم نحو التغيير المرجوّ منهم، ومنحهم الفرصة الزمانية والمكانية المناسبة ليكونوا عند حسن ظنّ الغرب بهم، وينفّذوا المطلوب منهم على وجه الدقّة وبالشكل الأكمل والأمثل.
الوضع الحالي للاقتصاد:
بحسب تقرير لوكالة رويترز بتاريخ 25 حزيران الماضي؛ فإنّ الاقتصاد السوري يُدار بشكل فعليّ في الخفاء، بإشراف مباشر من شقيق الرئيس الحالي المؤقّت حازم الشرع وإبراهيم سكرية أو ما يعرف بـ (أبو مريم الأسترالي)، الذي يخضع لعقوبات في استراليا بتهمة دعم الإرهاب، وقد سيطروا بالفعل على شركة (سيرياتيل) للاتصالات التي كانت تابعة لسلطة دمشق الاقتصادية، كذلك سيطروا على مجموعات ضخمة لشركات ومعامل تابعة لرجال أعمال سوريين كانوا محسوبين على النظام البائد، وكانوا يشكّلون فعلياً القوة الاقتصادية الضاربة له، أمثال (محمد حمشو وعصام شموط وياسر إبراهيم والقاطرجي وغيرهم). أمّا بالنسبة لعقود الاستثمار التي باتت الأضواء مسلَّطة عليها بالفعل فقد تبيّن، بعد متابعة من قبل ناشطين واقتصاديين، أنّها مجرّد شركات وهمية لا تملك رؤوس أموال ولا حتى مكاتب أو موظفين، ومنها:
- شركة (Polidef) التركية: التي وقّعت مع حكومة دمشق على تطوير مطار دمشق الدولي، ومعالجة النفايات في إدلب.
- شركة (أوباكو) الإيطالية: التي وقّعت عقوداً لبناء أبراج سكنية في العاصمة دمشق بقيمة 2 مليار دولار.
- شركة (Fidi Contracting) الصينية: التي ستستثمر في بناء مدينة حرّة وصناعية في حمص.
- مشروع نقل الغاز الأذربيجاني عبر تركيا وبتمويل قطري غير واضح المعالم بعد.
كل ما سبق يثير الكثير من إشارات الاستفهام لدى المواطن العادي قبل المختصّ حول مدى إمكانية تحسين الوضع الاقتصادي بشكله الفعلي، وتحسين ظروف المعيشة الفعلية لدى المواطن.
خلاصة القول:
كل صراع سياسي يحمل في طيّاته صراعاً اقتصادياً، فالاقتصاد اليوم هو المتحكّم الأساسي في السياسات العالمية للمحافظة على استمراريتها وخدمة مجتمعاتها وتطويرها وتحسين ظروف معيشتها وبالتالي الاستمرارية في حكمه لها؛ وكذلك الأمر حالياً بالنسبة لسوريا؛ فهناك تهافت وتسابق سياسي بطبيعة الحال بغطاء اقتصادي، ولكن مرّة أخرى نؤكّد أنّه لا يمكن للاستثمارات الكبرى خاصةً أن تتمّ على أرض الواقع ما لم تكن هناك رؤية بعيدة المدى مع استقرار أمني ومناخٍ سياسي واضح المعالم، ووجود قوانين وضوابط أيضاً واضحة المعالم. ربّما تكون هناك بعض الاستثمارات الصغيرة أو المتوسّطة كنوع من النماذج الحقيقية على أرض الواقع؛ لكنّها لن تكون كما هو مأمول منها إذا لم تدعم أو تترادف مع ما هو أكبر منها، كل ما سبق ستجيب عنه الأيام القادمة في مدى إمكانية تطبيقه من عدمها، وربما ثمانية الأشهر الماضية لم تكن كما كان كالمطلوب منها، وعليه ربما تكون ستّة الأشهر أو ثمانية الأشهر القادمة هي الشوط الثاني أو الفرصة الثانية لإثبات كل ما تَقدَّم.