التقارب السوري – التركي وتداعياته
وليد محمد بكر
منذ بدْء الحراك السوري إثر انتفاضات التي بدأت من درعا، كانت مطالب الحراك في بدايته سلمية ومشروعة، إلّا أنّه وبتدخّلات خارجية من دول الجوار والقوى المهيمنة عالمياً تحوّلت سوريا إلى ساحة صراع بين قوى الهيمنة العالمية والدول الإقليمية، كما تحوّت لبؤرة تجمّع للمتطرّفين والإسلاميين المتشدّدين لتعيث فيها قتلًا ودمارًا وفوضى، وذلك على يد تحالف حكومة العدالة والتنمية (AKP) المتحالفة مع حزب الحركة القومية (MHP) القومويين المتطرّفين، عملت هذا التحالف على سياسة “أخونة وأسلمة” الحراك في سوريا؛ فدعمت وسلّحت جماعات وفصائل “قومدينية” رجعية شوفينية للسيطرة على المشهد، فقد حقن عناصر المعارضة بالأحقاد ووجّههم لمحاربة المناطق التي تحرّرت على يد أبناء المنطقة من الكُرد وأخوتهم من باقي المكوّنات، فتحوّلت دفّة ما سمّيت بـ “الثورة” السورية والتي كان شعارها “إسقاط النظام” إلى محاربة أنصار الشعلة الديمقراطية التي أنارت الثورة هناك، والذين التزموا “الخط الثالث” في الحراك السوري منذ بدايته في آذار/2011/، وكان ولا يزال شعارهم وهدفهم التحوّل الديمقراطي في سوريا، وليس التربّع على السلطة كما تغنّت بها ما سُمّيت بالمعارضة السورية الإخوانية.
شاركت تلك القوى والفصائل المسلّحة الإرهابية العدوان التركي في احتلال أجزاء من الجغرافية السورية، وعبثت بها وأقامت المجازر والجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية. هذه القوى وضعت آمالها في النظام التركي؛ حيث قبِلت برفع أعلام الدولة التركية على تلك المناطق التي سمّتها بـ “المحررة” وكذلك فتحت مدارس وفق المناهج واللغة التركية، واستخدمت العملة التركية وألحقت تلك المناطق بالوالي التركي، وساهمت في تتريكها وإقامة وتنفيذ جرائم التهجير القسري والتغيير الديمغرافي بحقّ سكانها الأصليين، وسكن عناصرها في بيوت السكان الأصليين وأنشؤوا مستوطنات ليسكن فيها المواطنون الذين أجبروهم للنزوح من مناطقهم المختلفة.
وبعد جولات عديدة من المفاوضات في “سوتشي” و”أستانا” والتي جرت بين ما سُميت بالدول الضامنة (تركيا، إيران، روسيا) والحكومة السورية للتهرّب من مفاوضات “جنيف” الدولية، فتم في تلك الاجتماعات تمرير الكثير من المصالح لتلك الدول وإجراء مقايضات وتبادل مناطق، وذلك على حساب مطامح وآمال الشعب السوري، مستبعدين قوى وطنية ديمقراطية، تمثلها الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا من تلك الاجتماعات، والتي كان من المفترض أن ترسم فيها مصير ومستقبل سوريا، وجاء ذلك الاستبعاد بضغط من النظام التركي الذي يعيش فوبيا (الكُرد والديمقراطية).
وماذا بعد /13/ عامًا من الحراك الشعبي؟
سنطرح عدّة تساؤلات لا بدّ منها لفهم المصير المؤلم والمعقّد الذي انتهى إليه هذا الحراك (الانتفاضة) في بدايتها:
هل هذا الحراك ولنسمّه تجاوزاً ” الثوري” قد وصل إلى طريق مسدودة؟ وضاعت الآمال المرجوّة منه؟
لماذا يصرّ ويلحّ رئيس دولة الاحتلال التركي على الاستدارة /180/ درجة للتقارب مع رئيس حكومة دمشق واللقاء معه بشكل علني؟ وتغيير خطابه من “القاتِل أسد” إلى “السيد الأسد”؟
هل سيكسر بوتين الجليد بين أنقرة ودمشق ويكون عرّاب السلام بينهما؟
ما هو ردود فعل اللاجئين في الشمال السوري؟
ماهي تداعيات التقارب واللقاء -إن حصل- بين الرئيسين؟
هل الاتفاق – سواءً أنجح أم فشل – سيؤدّي للتقسيم وما يشبه “إسكندرون – قبرص” ثانية؟
كيف ستكون مواقف الدول الأخرى المعنية بالشأن السوري من الاتفاق -إن حصل-؟
ما موقف الإدارة الذاتية الديمقراطية من التقارب التركي – السوري؟
كيف يمكن الوقوف ضد المؤامرة التي تستهدف إرادة الشعب السوري؟
كل هذه التساؤلات سنحاول أن نجيب عنها ونطرح بعض الاحتمالات، لكن قبل أن نجيب عنها لا بدّ لنا من التطرّق إلى: بداية العلاقات التركية السورية وما شابها من تجاذبات بين الاستبداد العثماني والسلام الحذر وتهديد وعدوان بعد تأسيس الجمهورية التركية.
بداية العلاقات التركية – السورية:
التاريخ العثماني يضجّ بأنهار من الدماء والمجازر بحق الشعوب والمؤامرات والمكائد حتى بين أفراد السلطنة الحاكمة، فمنذ أن حطّت أقدامهم في المنطقة قبل ألف عام تقريباً، وحتى استحكامهم بشعوب المنطقة، باسم الخلافة الإسلامية مدة أربعة قرون، أذاقوا شعوبها الويلات، وجعلوها متخلّفة عن ركب الحضارة والتطوّر، ولم يقدّموا للبشرية سوى ثقافة الجهل والتخلّف؛ وبهذا الصدد يقول المؤرّخ التركي تانير أكشام في شهادته على الذهنية التركية المقيتة والتي تعادي وتكره جميع الشعوب:” نحن الأتراك لا نستطيع أن نصنع قيمة ثقافية جديدة، لا يمكننا إلّا غزوها وإفسادها وتمزيقها، في أي وقت يرى التركي شجرة فإنّه يقطعها، لم نكن شعباً مؤهّلاً ثقافياً، والأماكن التي وضع فيها العثماني قدمه لم تزدهر، كما أنّ الأماكن التي صعد إليها الأتراك ذبلت وماتت”.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عام /1918/ تفاهم النظام العثماني التركي مع الدول المنتصرة في الحرب على تعديل اتفاقية (سايكس بيكو) وإلغاء اتفاقية (سيفر) في مؤتمر لوزان/1923/ المشؤوم؛ حيث أنكر الوجود الكردي واقتطع أجزاءً من سوريا كسهول كيليكيا الخصبة ومن بعدها لواء إسكندرون، وانضمّ إلى حلف الشمال الأطلسي وراح يهدّد سوريا والعراق دائماً بأنّ شماليهما واقعان ضمن الميثاق الملّي وأنّها قد أُجبِرت للتنازل عنهما، ويستخدم في ذلك قطع مياه دجلة والفرات والتهديد باجتياح المنطقة منذ عام /1958/ وحتى اليوم وبحجج واهية.
عند بدء الاحتجاجات في 11/ آذار من عام /2011/ تفاءل الشعب السوري، وقد شارك فيها الجميع على أمل أن يتم تغيير النظام وإحقاق الحرية والديمقراطية، لكن الذي ظهر ومنذ أكثر من ثلاثة عشر عامًا أنّ الشعب قد تعرّض للقتل والاعتقال والسكن في العراء والخيم والتهجير إلى دول العالم، وتم تدمير البلد (بنياناً واقتصاداً) علاوة على سيطرة التطرّف الطائفي والحقد والتعصّب ضدّ بعضهم بعضًا؛ وذلك نتيجة تبوّء أشخاص عديمي الأخلاق والمثل والقيم الإنسانية الحراك، فمارسوا أشدّ أنواع الظلم والقهر والجرائم بحق الإنسانية، وشكّلوا عصابات مرتزقة تمارس الخطف والقتل والإجرام، مستندين إلى دعم غير محدود من النظام التركي، والذي استخدمهم لأجنداته في الابتزاز والضغط على الدول الأوربية، وكذلك دفعهم وزجّهم لمحاربة أخوتهم الكرد الذين تمكّنوا من حماية مناطقهم وإدارتها ذاتياً مع كافة شعوب وطوائف المنطقة، بعد التزام “الخط الثالث” وإدارة مناطقهم وحمايتها من أتون الحرب العشوائية، ناهيك عن استخدام المشغّل التركي لهذه العصابات وهؤلاء المرتزقة في حروب بعيدة عن أهداف الثورة وفي أماكن “لا ناقة لهم فيها ولا جمل”. وهكذا؛ فالحراك الشعبي السوري قد وصل إلى طريق مسدودة وأُصيب بخيبة أمل.
التقارب بين الاحتلال التركي وحكومة دمشق:
منذ اتفاقية “أضنة” عام /1998/ المشؤومة على الشعب السوري بين حكومة دمشق والنظام التركي لضرب وملاحقة الكرد والحركة الكردية إلى عمق /5/كم، عمل الجانب التركي على إذلال وإركاع الحكومة السورية سيادةً واقتصاداً، وأجبرته على عدم المطالبة بلواء إسكندرون، وكان النظام التركي و”مازال” يأمل باستعادة أمجاده العثمانية في السيطرة.
لم تنقطع العلاقات بين تركيا وسوريا طيلة الحراك السوري ولو على الصعيد الاستخباراتي يوماً واحداً، وهذا ما تقوله علناً قيادات النظامين. ومنذ ما يقارب العامين تلمّح حكومة الاحتلال التركي إلى أنّه ليست لديهم مشكلة كبيرة مع الحكومة السورية، وأنّه حتى يمكن عقد لقاء بين رأسي النظامين، فإنّ شرطه الرئيسي والوحيد هو محاربة “الإدارة الذاتية الديمقراطية” والتي ينعتونها كذباً وبهتاناً بـ “الانفصالية” وأنّها تهدّد أمنهم القومي، وباتت هذه الادّعاءات منافية للمنطق، والحقيقة هي أنّهم يخشون من وصول الفكر الديمقراطي إليهم ويصبح نموذجًا في سوريا ودول الجوار. لقد نسي أو تناسى رأس النظام التركي أنّه في بداية الحراك كان يصرّح بأنّه سوف يقود المعارضة الإخوانية إلى سدّة الحكم بعد الصلاة معاً في الجامع الأموي، وأنّ جميع المناطق المحرّرة (المحتلّة) هي خطوط حمراء، لكن يبدو أنّ تلك الخطوط قد تلاشت تحت شمس المقايضات والاتفاقات في أستانا وغيرها، وعندما تبيّن استحالة إسقاط النظام، حاول أن يجعل من المناطق الباقية تحت الاحتلال إمارات إخوانية ويعمل على تتريكها وإحداث التغيير الديمغرافي فيها، ولم ينفع ترجّيه من الإدارة الأمريكية بإجبارها على الاختيار بينها وبين (قسد)، وبالتالي؛ السماح لها باحتلال تلك المناطق بصفقات مع الروس والإيرانيين، لكن نتيجة غوصه في المستنقع السوري لم يبق لديه سوى العودة إلى التصالح مع حكومة دمشق، ومنذ أيام أصبح يبحث عن وسيط للمصالحة، إمّا عبر زيارته العراق وابتزاز رئيس الوزراء “السوداني” لأجل إعادة تدفّق المياه، أو في اجتماع دولي في أقاصي الدنيا والتزلّف إلى الرئيس الروسي “بوتين” ليساهم في اللقاء مع الأسد والتصالح معه.
لقد حاول الاحتلال التركي أن يقيم حكومة إخوانية موالية له في سوريا ودعمها بكافة الوسائل، و استقدم عشرات الآلاف من الإسلاميين المتشدّدين مثل (داعش) والتركمان من كافّة أنحاء العالم واحتواهم ودعمهم في للهيمنة على الحراك الشعبي والقضاء على الإدارة الذاتية الديمقراطية والتي هي مثال للديمقراطية والتعايش السلمي، ولكن بعد أن فشل في ذلك ولم يصل لمبتغاه بعد حربه واحتلال (عفرين وكري سبي وسري كانيه) في توافقات (أستانا وسوتشي)، من خلال المقاومة والاستبسال الذي أبداه أبناء وبنات شمال وشرق سوريا من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وبكافّة أطيافه، ضدّ كافّة التنظيمات الإخوانية المتشدّدة، وعلى رأسهم “داعش” في كوباني وعاصمة الخلافة المزعومة “الرقة” وأنهوهم في الباغوز، وبعد محاولات حثيثة لإنعاشهم من جديد على شكل خلايا نائمة وتحريضهم للعصيان في السجن، من خلال خلق الفوضى والتحريض الطائفي.
لم تنقطع الاتصالات بين الحكومتين (السورية والتركية) وخاصة منذ أول اجتماع “أستانا” إلى آخر اجتماع، وحتى اللقاءات بين القيادات التركية وكلّ من (روسيا وإيران) الحليفتين الداعمتين للحكومة السورية؛ حيث كانتا مفوّضتَين لأيّ اتفاق لتنقلاه للجانب السوري الذي لا خيار لديه سوى التنفيذ، والاجتماع الأخير بين الروس والأتراك في “حميميم” الشهر الماضي ما هو إلّا تعبير عن ذلك للتوافق على كيفية انسحاب المحتل التركي من الأراضي السورية وترتيب الأوضاع المتأزّمة هناك بشكل يحفظ ماء الوجه التركي، لتلافي الأزمات والانهيارات في الداخل، وخاصة من الناحية السياسية وخسارة الرئيس أردوغان في الانتخابات البلدية والخسائر الاقتصادية والتقليل من مصاريف الاحتلال، وكذا مشكلة اللاجئين وظهور أنصار التيّار المتشدّد (شريك الحكم) الذين فهموا من خُطب سلطانهم أنّه يصرف من جيب الأتراك على اللاجئين، الأمر الذي خلق لديهم أزمة اقتصادية (والحقيقة أنّ أزمتهم عنصرية لا غير)، لذلك يعلنون الجهاد ضدّ السوريين بالقتل وتدمير ممتلكاتهم لإجبارهم على العودة (الطوعية) والسكن في مناطق “السلام”، فأصبح طرد السوريين في مقدّمة برامج وأولويات جميع الأحزاب الحاكمة والمعارضة، (وكأنّهم -السوريين- سبب بلائهم وأزماتهم)، ليعبّروا عن حسن الجوار.
تضارب التصريحات حول التطبيع بين موسكو وأنقرة ودمشق
قبل أن تصل المعارضة التركية إلى دمشق أعلن قادة الحكم في تركيا أنّ لقاءً قادماً سيجري بوساطة الحكومة العراقية في بغداد، وأكّدته صحيفة الوطن المقرّبة من الحكومة السورية، وعلى هامش قمة (شنغهاي) للتعاون عقد الرئيسان الروسي والتركي لقاءً في “أستانا” بكازاخستان، صرّح بعدها الرئيس التركي: “قد نرسل نحن والسيد بوتين دعوة إلى بشار الأسد، وإذا تمكّن السيد بوتين من زيارة تركيا فإنّ من شأن ذلك أن يكون بداية لمسار جديد”. ومنذ أيام أدلى الرئيس التركي بتصريحين هما: “لدى كل من بوتين والسوداني مقاربة بشأن الوساطة بين الجانبين التركي والسوري”، وأعقبه تصريح آخر (حسب وكالة الأناضول في 7/7): ” سنوجّه دعوتنا إلى الأسد وقد تكون في أية لحظة، ونأمل أن تعيد العلاقات التركية – السورية إلى ما كانت عليه في الماضي”. ونظراً لتلهّف أردوغان لسرعة اللقاء فقد جعل الأسد يماطل أو يضع شروطًا يصعب على الجانب التركي تنفيذها على الأقل في المنظور القريب.
يبدو أنّه ونتيجة لتعقيد الأمور والشرط السوري بالانسحاب الكامل أولاً من الأراضي المحتلة (وهذا قابل للتفاوض عليه)، لن يتم اللقاء بسرعة أو خلال أيام؛ فرأس النظام في سوريا قد تنبّه إلى أنّ وضع الرئيس التركي محرج وموقفه ضعيف ولم يعد بإمكانه – كما سابقًا- إملاء شروطه، كما أن ّ الأجواء لا تزال متوتّرة من قبل النازحين الرافضين للتقارب على حساب حياتهم، وربما تظهر تطوّرات مفاجئة تؤدّي إلى تعليق اللقاء لأجل غير مسمّى.
بعد صمت طويل على تصريحات أردوغان بشأن اعتزامه اللقاء برئيس النظام السوري وحلّ الخلافات بشكل مباشر، وحسب صحيفة الشرق الأوسط، فقد صرّحت موسكو على لسان الناطق باسم الكريملين ديمتري بيسكوف للصحفيين في 18/ تموز الجاري ” إنّ روسيا تواصل تهيئة الظروف لإطلاق الاتصالات بين تركيا وسوريا”، وأنّهم يقومون بتنظيم اتصالات معيّنة بين المسؤولين الأتراك والسوريين على مختلف المستويات مطروحة على جدول الأعمال، وتابع ” إنّ بلاده، مثل دول أخرى، مهتمّة بتحسين العلاقات بين تركيا وسوريا لأجل الاستقرار في المنطقة بأكملها”. وبعد أن انتشرت أخبار حول قرب لقاء رئيسي النظامين التركي والسوري في موسكو قريباً، نفى مصدر دبلوماسي تركي المعطيات حول تحديد موعد اللقاء الشهر المقبل، كما نفى عبر وكالة (تاس) الحكومية خبير روسي أيضاً ذلك، وقال: “إنّ عملية دفع العلاقات بين تركيا وسوريا باتت أمراً لا رجعة فيه”، وتابع: ” إنّ واشنطن لا تدعم جهود تركيا لتطبيع العلاقات مع سوريا، لكن الجليد بين الطرفين السوري والتركي قد انكسر بالفعل”… وأنّ اللقاء ” سيتم بكل تأكيد قبل نهاية العام لأجل حلّ الكثير من القضايا”. ويظهر فجأة الرئيس السوري في لقاء مع الرئيس بوتين بموسكو في 25/7 لبحث قضايا المنطقة والذي صرّح فيه بوتين أنّ “الوضع في الشرق الأوسط يميل إلى التفاقم والتدهور”، ومن المؤكّد أنّه سيتم الحديث حول التقارب مع سلطة أنقرة.
ردّ فعل اللاجئين في الشمال الغربي السوري:
عندما تأكّد قرب اللقاء بين رأسي النظامين (التركي والسوري)، وقالها الرئيس التركي: “سنعمل معاً على تطوير العلاقات مع سوريا ولا يوجد أي مانع من اللقاء”، وحينها تغيّر تعامل نظام الاحتلال التركي مع ما تسمّى بـ”المعارضة” والحكومة المؤقّتة التي شكّلها الائتلاف “شكلياً” للتغطية على الاحتلال التركي وجرائمه في المناطق السورية المحتلة وخاصة عفرين، كما تظاهر الآلاف من المستوطنين والمهجّرين إلى مناطق الشمال الغربي المحتلّة من قبل تركيا، وأبدوا امتعاضهم وتخوّفهم من أن يقوم النظام التركي بتسليم هذه المناطق، من خلال صفقة ما، إلى الحكومة السورية، وبذلك يرون هذا التقارب خطراً على حياتهم ومستقبلهم، وبالتالي؛ تصفية ما تبقّى من الثورة، التي قدّمت تضحيات كبيرة، حتى تصل إلى نهايتها المأساوية.
إنّ ردّ الفعل العاطفي القوي على خلفية سماع أخبار عن التصالح التركي مع حكومة دمشق أدّى إلى إغلاق المعابر وإنزال الأعلام التركية في كلّ المؤسسات (بل وحتى تمزيقها والدعس عليها) والاعتداء على السائقين الأتراك وسياراتهم والهجوم الشعبي على مقرّ الوالي التركي في عفرين، صحيح أنّ الاستخبارات التركية والفصائل المسلّحة التركمانية قتلوا بعض المتظاهرين وهدّدوا الجماهير المعارِضة واعتقلوا بعضًا من الذين أهانوا العلم التركي وأجبروا بعضهم على تقبيله والبكاء والندم على ذلك أمام الكاميرا (وبشكل طوعي)، لم يكن هذا الردّ القوي للانتقام من الفاشيين الأتراك واعتداءاتهم على اللاجئين السوريين وممتلكاتهم فقط، بل بسبب خيبة الأمل واعتبار هذه الاستدارة خيانة من حكومة الاحتلال التركي ورئيسها الذي كان يصف النظام السوري بأنّه مجرم قتل شعبه بالبراميل، وكان قد وعدهم بأنّ عمر النظام السوري بات “قاب قوسين أو أدنى” وأنّه فاقد للشرعية، ويصف رئيس النظام بالقاتل، أمّا اليوم فيدفعهم إلى المصالحة معه ويتركهم في مواجهة مصيرهم المجهول.
إنّها لعبة مصالح:
كلّ الدلائل تشير إلى أنّ الجانبين قد أنهكا بسبب الأزمة السورية وتبعاتها ويودّان إنهاءها بأقصى سرعة؛ لأنّ أوضاع الحكومتين الداخلية وعلاقاتهما الخارجية قد وصلت إلى الحضيض.
هذا التقارب والتصالح إن حصل فسوف يكون على حساب الشعب السوري الذي دفع آلاف الضحايا والمشرّدين لقاء الوصول إلى الحرية والديمقراطية، فعودة العلاقات الطبيعية والانسحاب الكلّي للنظام التركي من المناطق السورية المحتلة لن يكون سهلاً وسريعاً، بل قد يمتدّ لسنوات يماطل خلالها الجانبان حتى يبتزّا بعضهما قدر استطاعتهما، أمّا اليوم فقد بات موقف النظام السوري وكأنّه مرتاح ويصرّح من مصدر قوة أكبر من الغازي المحتلّ، وهذا يتوقّف على الضغط الروسي. العلاقات والتعاملات التركية مع القوى في المنطقة والعالم (وخاصة الدول الأوربية ومشكلة انضمام فنلندا والسويد للناتو) هدفها محاربة تطلّعات الشعب الكردي في الحرية والديمقراطية، ولأجل ذلك وقع النظام التركي في موقف محرج ومتأزّم مع الكثير من القوى والدول، وخاصة حليفه الأساسي والكبير أمريكا، وعاش التناقضات بكل دوغمائية وبراغماتية في ادّعاءاته ومواقفه من العداء الكبير إلى التصالح مع بعض الجهات (دول الخليج ومصر) مثلاً، وإلى العكس مع بعض الجهات الأخرى، كلّ ذلك حتى يضمن عدم ترسيخ وجود الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا، وللعمل على إيصال الإخوان المسلمين إلى المشاركة في حكم سوريا، بينما يشترط الجانب السوري ضمان الانسحاب التركي من الأراضي السورية المحتلّة في البداية ولو بتثبيت ذلك بالتعهّد التركي، وحتى لو بدأت المفاوضات والتي ستبدو شائكة ومتعثرة بين النظامين، بالتالي؛ ستستمر معاناة الشعب السوري من انعدام الأمن والانهيار الاقتصادي والعيش لسنوات أخرى في اللجوء والخيم والفقر المدقع، وسيبقون سلعة للتاجر التركي الذي عرضهم للبيع بعد أن استهلكهم لمصالحه طيلة السنوات السابقة، واليوم باتوا عبئاً ثقيلاً عليه.
وحكومة دمشق تُظهر وكأنّها المنتصرة في معركتها على شعبها، وذلك بعد أن أعادت بعض الدول العربية الخليجية العلاقات معها وأجلسته في مقعد سوريا الشاغر منذ سنوات في اجتماع الجامعة العربية لتملي عليه بعض الشروط منها: إيقاف تصدير وتهريب حبوب “الكبتاغون” المخدّرة إلى دول الخليج، وإجراء بعض الإصلاحات الديمقراطية، وذلك بعد أن يئست دول الخليج من المعارضة التي دعمتها في البداية بكل الطرق؛ بسبب ارتزاقها وتقاتل فصائلها فيما بينها.
يهدف النظام السوري من عودة العلاقات مع تركيا إلى تثبيت شرعيته وقوته، والتأكيد على أنّ النظام باقٍ ولا حاجة لتنفيذ قرار الأمم المتحدة /2254/ القاضي بالانتقال السلمي إلى تغيير النظام ونشر الديمقراطية في البلاد؛ فقد صرّحت وزارة خارجية حكومة دمشق (حسب وكالة سانا)” تعليقاً على إصرار الجانب التركي لإجراء اللقاء وبطلب مستعجل، قائلة” إنّ عودة العلاقات الطبيعية مع تركيا تقوم على عودة الوضع الذي كان سائداً قبل عام /2011/ وهو الأساس لأمن وسلامة واستقرار البلدين” معتبرةً “أنّ مصلحة الدول تُبنى على العلاقة السليمة فيما بينها وليس على التصادم أو العدائية”.
كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ النظام التركي لديه نوايا احتلالية وتوسّعية ويتحسّر على “الميثاق الملي”، وأنّه إذا احتلّ أرضاً سيقوم بتتريكها ولن يخرج منها بسهولة. يدفع نظام أردوغان بالمعارضة إلى العودة والمصالحة مع النظام السوري ووضع “المصلحة الوطنية” بالنسبة له فوق كلّ اعتبار، ضارباً بعرض الحائط كلّ وعوده للسوريين بأنّهم ضيوف وأنّهم بين أهلهم، كما تلاعب بالمشاعر الدينية، وأنّه سيقود الإخوان السوريين إلى القصر الجمهوري السوري؛ فيبدو وكأنه يبتزّ اللاجئين والمعارضة من جديد بتهديدهم وإجبارهم على الاختيار بين أمرين (أحلاهما مُرّ)؛ إمّا العودة لحضن الأسد أو الانصياع لما ستؤول إليه الأمور، وربّما (كما جرى في لواء إسكندرون) يخيّرهم أردوغان -من خلال انتخابات في المناطق المحتلّة (بلعبة استعمارية)- بين تسليمهم للنظام السوري أو الانضمام للدولة التركية (حسب الظروف الدولية) والوصاية عليهم، وبالتالي؛ يتمّ تقسيم سوريا فعلياً.
مواقف الجهات المعنية بالشأن السوري من الاتفاق:
بطبيعة الحال؛ لن يتم الاتفاق من جانب حكومة دمشق دون الأخذ برأي القوى التي يسمّيها النظام بـ”الصديقة” للشعب السوري، والتي تدخّلت في الشأن السوري بطلب من الحكومة التي ترى نفسها (شرعية)، وفي هذا السياق يمكن أن يبتزّ الروس تركيا في مناطق وأمور أخرى اقتصادية وجيوسياسية، فروسيا مشغولة بالحرب في أوكرانيا وتشكيل تحالف مع الصين ودول أخرى لمواجهة أمريكا والغرب، كما أكّدت بعض المصادر أنّ خطوة إعادة التفاوض والحوار للتقريب بين أنقرة ودمشق تلقى دعماً عربياً واسعاً، خصوصاً من قبل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، كما تلقى دعماً روسياً وصينياً وإيرانياً، أمّا الجانب الإيراني فهو مشغول اليوم بالاحتفاء بالرئيس الجديد ” مسعود بزيشكيان” (الإصلاحي)، فهل ستمارس إيران سياسة جديدة في المنطقة؟ على أيّة حال؛ إيران لا ترتاح للتدخّل التركي السافر في الشأن السوري ودعمها للإخوان المسلمين السُنّة في المنطقة، وحتى وجودها (إيران) في سوريا غير مرغوب فيه دولياً، ويُتوقّع أن تعمل إيران على إفشال وعرقلة الاتفاق -إن حصل- لأنّه سيكون ضدّ مصلحتها في منافسة تركيا في السيطرة على المنطقة ووجودها في سوريا، ولن ترضى سوى بالحفاظ على مصالحها المذهبية والاقتصادية.
أمّا الموقف الأمريكي فقد جاء على لسان المسؤولين الأمريكيين أنّ بلادهم ستستمرّ في مساعدة قوات (قسد) في محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، والمساعدة في الحلّ السياسي وتطبيق المادة /2254/ المتعلّقة بالانتقال السياسي السلمي للسلطة، وقد أصدرت الخارجية الأمريكية بياناً رداً منها على التقارب التركي السوري، قالت فيه: “كنا واضحين مع الشركاء الإقليميين بما في ذلك تركيا في أنّ أيّ تواصل مع نظام الأسد يجب أن يتركّز على ضرورة اتّخاذ خطوات موثوقة لتحسين الوضع الإنساني وحقوق الإنسان والوضع الأمني لجميع السوريين”. وهذا لم يتحقق بعد، كما صرّح أحد المسؤولين الأمريكيين “أنّ المصالحة مع الأسد كالمصالحة مع الإجرام”، وهذا يدلّ على أنّ أمريكا لن تقبل بأن تجري الأمور في سوريا ضدّ مصالحها واستبعاد القرار الأممي /2254/.
أمّا عن موقف الإدارة الذاتية الديمقراطية فقد أصدرت بياناً في 15/ تموز جاء فيه” أيّ اتفاق أو توافق بين أي طرف من الأطراف ما لم يشمل حلًّا سياسياً جذرياً يضمن العودة الآمنة الكريمة للسوريين، أو يضمن الاستقرار المبني على تغيير سياسي تجاه القضايا القومية وحقوق كلّ أطياف الشعب السوري والإفراج عن المعتقلين والانسحاب من الأراضي المحتلّة، يُعتبر خطوة عدائية ضدّ سوريا والسوريين”، ودعا البيان لتحكيم لغة العقل والعودة للذاكرة القريبة وعدم نسيان المآرب التركية وأهدافها العدائية ضد سوريا، كما حثّ البيان على وحدة سوريا وضرورة الحوار الوطني السوري باعتباره الأساس الصحيح والسليم لبناء سوريا الديمقراطية الموحّدة شعباً وجغرافية، وتحقيق ما يضمن كرامة سوريا ويحفظ سيادتها. كذلك أصدر /33/ حزباً باسم أحزاب الوحدة الوطنية في الإدارة الذاتية الديمقراطية بياناً، رداً على هذا التقارب، ورد فيه:” أي تصالح بين النظامين التركي والسوري لن يقدّم أي جديد لتحسين الوضع السوري، بل على العكس سيضفي الشرعية على الاحتلال التركي ويعمّق الأزمة أكثر، وسيصبح الشعب والوطن ضحية سياسة التصالح هذه”. وقد صرّح الدكتور محمود المسلط الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية (مسد)” إنّ التقارب التركي مع حكومة دمشق والسعي الروسي إلى إيجاد معادلة على الأرض السورية لن يجلب السلام المستدام والاستقرار لمنطقتنا، بل هو جزء من صراعات إقليمية ودولية نحن – السوريين – من يدفع الثمن لهذه التجاذبات السياسية والصراعات الدولية”. كما صرّح الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) “لا أعتقد أنّ محاولات التطبيع بين أنقرة ودمشق ستصل لنتيجة ملموسة أقلّها في القريب القادم، لأنّ القضية السورية معقّدة جدّاً… مستعدّون للحوار مع تركيا لكن شرطنا الأساسي مناقشة الانسحاب من مناطقنا المحتلة”. وقال في مقابلة مع وكالة هاوار حول ذلك:” إنّنا منفتحون على الحوار مع الجميع وفي مقدّمتهم حكومة دمشق ولدينا إيمان بالتوصّل إلى حلّ مع دمشق”. وهذا يعني أنّ الإدارة الذاتية تفضّل الحوار مع حكومة دمشق أولاً لأجل قطع الطريق أمام المبتغى التركي لمحاربة الإدارة الذاتية الديمقراطية، وبالتالي؛ التوافق وتوحيد القوى لإجبار المحتلّ التركي على الانسحاب من الأراضي السورية المحتلّة دون المساس بوحدة الأراضي وكرامة الشعب السوري، وهو النهج الأسلم لعدم رضوخ حكومة دمشق للإملاءات الخارجية.
في النهاية كيف يمكن الوقوف ضد المؤامرة التي تستهدف إرادة الشعب السوري:
على المعارضة التي ربطت مصيرها بحكومة الاحتلال التركي، وبعد أن كشفت جميع ألاعيبه، أن تراجع نفسها وتتّعظ ممّا جرى، فلديها ثلاثة خَيارات؛ الأوّل: حاملو السلاح للقتال والارتزاق عليهم الاستسلام والانصياع التام لوليّ أمرهم “أردوغان” والذهاب إلى القتال والجهاد ولو كان في بلاد “الواق واق”، الثاني: تسليم السلاح والعودة لحضن الوطن (الأسد) صاغرين.
أما الخَيار الثالث: (وهو الصواب) والذي كان يجب القيام به منذ البداية، هو الاتفاق والتعاون مع باقي إخوتهم السوريين في الإدارة الذاتية الديمقراطية، والعمل معاً على رأب الصدع الذي حصل بين المكوّنات السورية العريقة ورفع الأحقاد نتيجة الخطاب العنصري والحقن الطائفي المقيت، وعلى الرغم من الخلافات والآلام الكثيرة التي سبّبتها الفصائل المسلّحة “المستتركة” واحتلالها مع الغازي والطامع التركي للأراضي السورية، ينبغي إعلاء ثقافة التسامح والعفو؛ فتبقى الكرامة ووحدة وتآخي الشعوب السورية أمل الجميع، والعيش معاً في ظل نظام ديمقراطي لا مركزي حرّ بعيداً عن الطائفية التي زرعتها الأنظمة الحاكمة المستبدّة في العقول، وأن نقوم بتضميد الجراح للتمهيد لعقد مؤتمر وطني جامع لكلّ السوريين الديمقراطيين بعيداً عن الإملاءات والتدخّلات الخارجية التي لا تريد الخير لشعوبنا، وتوحيد كافة القوى (بما فيها الحراك الشعبي في السويداء) لإجبار حكومة دمشق على الجلوس معاً في حوار سوري – سوري وإجراء التحوّل الديمقراطي ووضع دستور سوريّ جديد يضمن حقوق جميع المكوّنات دون إقصاء، يجد فيها الجميع حريتهم وكرامتهم، وحسب القرار الأممي /2254/ بالانتقال السلمي للسلطة في سوريا، والمشاركة معاً لبناء سوريا ديمقراطية عصرية تضاهي الأمم المتقدّمة على خطى أمجادها وحضاراتها العريقة.