الكردُ عاملٌ أساسيُّ للتغيير
كرديار دريعي

في ظلّ التطوّرات الدراماتيكية في سوريا والمنطقة، باتت مسألة حلّ الأزمة السورية وفقاً لذهنية حكومة دمشق والدول الإقليمية أمرًا صعباً؛ فتركيا – الدولة الإقليمية الأكثر تدخّلاً في الأزمة السورية منذ بدايتها – تسعى بكل جهدها وتستثمر في أقطاب حكومة دمشق المرتبطة بها استخباراتياً، تسعى لمنع حدوث أي توافق وتفاهم بين الإدارة الذاتية وحكومة دمشق إلّا وفقاً لأجنداتها، والتي تصبو إلى تفكيك الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية وبناء نظام مركزي في دمشق، نظام إخواني مرتبط بأجندات العثمانية الجديدة، المشروع التركي الذي شنّت في سبيله تركيا عشرات الحملات العسكرية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية، وكذلك ضدّ حركة حرية كردستان؛ وفشلت في تحقيقه رغم احتلالها للكثير من المناطق. وفي الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول العربية أيضاً كدول الخليج (السعودية) لتبنّي النظام الحالي وفتح الأبواب الغربية والأمريكية أمامه، لتحقيق الاستثمار الأكبر في سوريا وإبعادها عن تركيا ولو بشكل نسبيّ، هناك بعض الدول الأخرى التي هي أيضاً كتركيا تخشى على أنظمتها الدكتاتورية والشمولية؛ فتعمل على جعل سوريا كسابق عهدها دولة مركزية لاديمقراطية بما يخدم استقرار تلك الدول نفسها.
أمّا القوى الدولية فهي في صراع على النفوذ في سوريا، صراع المشاريع الاقتصادية والتجارية والسياسية؛ فأمريكا التي باتت تعتمد سياسة الاستثمار في ما هو موجود في دمشق، لتفكيك المجموعات الإرهابية والجهادية، وسدّ الطريق أمام عودة النفوذ الإيراني، تجامل حكومة دمشق وتغريها من خلال رفع العقوبات، ولو شكلياً، وتعمل للتوسّط بينها وبين إسرائيل بما يدفع حكومة دمشق إلى قبول الاتفاقيات الإبراهيمية وضمان الأمن الإسرائيلي مقابل البقاء في السلطة؛ لذلك تمّ رفع اسم الجولاني ووزير داخليته أنس خطاب من قوائم الإرهاب.
أمّا روسيا التي تشعر بالهزيمة في سوريا وبأنّها وقعت ضحيّة الخداع التركي، فقد باتت تبحث عن سبل للاحتفاظ بقواعدها في الساحل السوري، وتأمين مصالحها في سوريا، لذلك باتت تتحدّث عن خطر الإدارة الذاتية والاتفاقات التاريخية مع سوريا والمشاريع الاقتصادية معها.
بينما إسرائيل التي تقود عملية إعادة رسم ملامح الشرق الأوسط، فإنّها تسوّق نفسها كحامية للأقلّيات وتسعى لخلق توازن مع النفوذ التركي المتزايد بين الفصائل الإسلامية، وذلك من خلال التقرّب من العلويين والكرد والدروز، ومن دون الصدام المباشر مع تركيا أو سدّ أبواب التفاوض مع دمشق والاستعداء المباشر لحكومتها المؤقّتة، على الرغم من خشيتها من تمركز فصائل إسلامية وجهادية على حدودها الشمالية؛ بمعنى أنّها تمارس سياسة “تدوير الزوايا” وإدارة الملفّات وفقا لتوجّهها في إعادة صياغة المنطقة، وتضغط لتحقيق قبول دمشق لمطالبها في التنازل عن الجولان وإنشاء منطقة منزوعة السلاح في الجنوب، ومنع حصول سوريا على الأسلحة أو بناء جيش جديد، خاصّة أنّ هذا الجيش يتشكّل في غالبيّته من السلفيين والإخوان؛ فإسرائيل لن ترضى بنفوذ تركي على حدودها ولن ترضى بوجود هذه الفصائل التابعة لتركيا، بمعنى أنّها لن ترضى بنفوذ تركي وجهادي بديلاً عن النفوذ الإيراني المنهار في سوريا، خاصة في الجنوب السوري.
وسط كل هذه الصراعات؛ يتم الحديث دائماً من قبل تركيا وأمريكا ونظام دمشق وأوروبا حول ضرورة تطبيق اتفاقية العاشر من آذار الموقّعة بين كلّ من الجنرال مظلوم عبدي والجولاني، في الوقت الذي يدرك فيه الجميع أنّ تطبيق الاتفاقية مرتبط بنزع يد تركيا من سوريا، وإبعاد الجهاديين من الجيش ومفاصل الحكومة، وإعادة صياغة الدستور وإعادة تشكيل الحكومة المؤقّتة التي كانت كل خطواتها أحادية وإقصائية لكل المكوّنات؛ وهذا يدلّ على أنّ كلّ طرف ينظر إلى الاتفاقية وفقاً لأجنداته ومصالحه، وليس وفقاً لما تتطلّبه سوريا الجديدة التي لا تقبل الدكتاتورية ولا إعادة تدوير النظام القومي، ولا تقبل كذلك تشكيل نظام إسلامي وقوموي وعنصري على حساب حقوق الشعب السوري.
زيارة أوحضور الجنرال مظلوم عبدي والسيدة إلهام احمد في مؤتمر (ميبس) في باشور كردستان تأتي لوضع النقاط على الحروف في ما يخصّ المشروع الديمقراطي لقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية؛ بأن تكون سوريا لكل السوريين وأنّه لا عودة إلى المركزية، ولتوجيه رسائل إلى تركيا ودمشق بأنّه لا حلّ من دون التعدّدية واللامركزية، وضرورة أن تكون تركيا إيجابية حيال ذلك؛ إذ يدرك الجنرال مظلوم عبدي أنّ تركيا هي التي تدير عملية التفاوض مع دمشق، وأنّ لها اليد الطولى في ما يسمّى بالجيش السوري الجديد، سواء من خلال الفصائل المرتبطة بها بشكل مباشر (الحمزات والعمشات) أو من خلال الشخصيات الموجودة داخل هيئة تحرير الشام والمرتبطة بالاستخبارات التركية، ويدرك الجنرال مظلوم عبدي كذلك أنّ مشروع السلام والمجتمع الديمقراطي، للقائد أوجلان قد وضع تركيا أمام مفترق طرق، وبذلك باتت أمام خيارَين؛ فإمّا أنّ تحلّ القضية الكردية سلمياً وديمقراطياً، أو أن تقع تركيا في فخّ القوى الغربية فتتّجه نحو التفكّك والفوضى الداخلية، ومع ذلك فإنّ الذهنية الطورانية التركية وطموحات أردوغان الشخصية تتسبّبان في المماطلة قدر الإمكان أملاً في تغيير الأوضاع السياسية في المنطقة، أو تغيير مواقف التحالف الدولي تجاه قوات سوريا الديمقراطية لتعود تركيا إلى سياسة البطش والإنكار؛ ولذلك تعيق تركيا الحلول في سوريا وتعمل جاهدة لإجبار قوات سوريا الديمقراطية، من خلال ربط موضوعها بمشروع السلام في تركيا، على التخلّي عن سلاحها وقبول شروط دمشق في الاندماج، ومنع نيل الإدارة الذاتية أي شكل من أشكال اللامركزية، أملاً في إضعاف المطالب الكردية في باكور كردستان أيضاً، على الرغم من أنّ حزب الحركة القومية، الحليف الأساسي لأردوغان، يدرك بشكل أكبر أنّ تركيا لم تعد تتحمّل إنكار القضية الكردية، وأنّ الوقت ليس في صالحهم ولا يجوز التهميش أو المماطلة في تحقيق السلام مع حزب العمال الكردستاني.
ومن جهة أخرى؛ فإنّ الدول الإقليمية والدولية باتت تدرك أنّ القوى الكردية، سواء في شمال شرق سوريا (روجافا) أو في الأجزاء الأخرى، باتت هي اللاعب الأساسي في إعادة صياغة الشرق الأوسط، ولم تعد مجرّد ورقة للاستثمار المرحلي، ولذلك تتّجه عيون الجميع نحو الكرد ويسعى لكسبهم إلى جانبه، كما أنّ الكرد أيضاً باتوا يدركون هذه المعادلة، وخاصة حركة حرية كردستان ومنظومة القوى الكردية، التي تتّخذ من المناضل أوجلان مرجعية لها فكراً وفلسفةً ومشروعاً؛ ولذلك فإنّ كلّ خطواتهم تتم بحسابات دقيقة ومدروسة، وذلك لحساسية المرحلة التاريخية االحالية التي ستقرّر شكل الشرق الأوسط ووضع الكرد فيه.
وسط كل هذه التطوّرات الدراماتيكية؛ فإنّ نموذج الشرق الأوسط الجديد سيتحدّد وفقاً لسوريا والحل فيها وشكل النظام وطبيعة الدولة؛ في حين أنّ كل المعطيات تشير إلى أنّ سوريا والمنطقة تتّجهان نحو اللامركزية بشكل من الأشكال، سواء إدارات ذاتية أو فدراليات، ولن يبقى هناك شيء ممّا يسمّى الدول القومية، وسيكون للكرد الدور الديناميكي في كل هذه التغييرات.


