قفزة الخامس عشر من آب.. من المقاومة المسلّحة إلى بناء السلام

وليد السيخ

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

تعرّض الكرد في تركيا على مدى العقود السابقة لسلسلة من السياسات التي سعت إلى طمس ثقافتهم وهويتهم؛ حيث تم حظر استخدام اللغة الكردية في المدارس والفضاءات العامة، وتم تغيير أسماء القرى والمدن، وسُجّلت محاولات ممنهجة لتغيير النسيج الديمغرافي عبر التهجير القسري والضغط الاقتصادي وارتكاب مجازر بحق الكرد، وأي تعبير علنيّ عن الانتماء القومي كان يُعَدُّ مخالفة خطيرة، يعاقب عليها القانون أو تعاقب عليه الأجهزة الأمنية. في هذا المناخ القمعي، لم تكن الأحزاب الكردية أو الحركات السياسية قادرة على تحقيق أي إنجاز ملموس؛ إذ اصطدمت دوماً بحواجز قانون الطوارئ والأحكام العرفية ونظام العسكر.

في صباح الخامس عشر من آب عام 1984، دوت طلقات الرصاص الأولى في جبال شمال كردستان (باكور)، معلنة بداية مرحلة جديدة في النضال الكردي، لم يكن هذا الحدث مجرّد هجومين على مخفرين في منطقتي جلي وشرناخ، بل كان إعلانًا عمليًا عن قدرة الشعب الكردي على التعبير عن نفسه وتحديد مصيره، بعد عقود من القمع والحرمان الثقافي والسياسي. هذه اللحظة لم تولد فجأة، بل كانت نتيجة تراكم طويل من السياسات القمعية التي تبنّتها الدولة التركية ضدّ هوية الكرد ووجودهم القومي.

مع نهاية السبعينيات، كانت تركيا تعيش أزمة سياسية واقتصادية عميقة، ترافقت مع انقلابات عسكرية متكرّرة، زادت من سيطرة الدولة على الحياة العامة وأضعفت فرص النقاش السياسي. في هذا الإطار، في جوٍّ مشحون بالتوتّرات والانقلابات، ظهر السيد عبد الله أوجلان كقائد فكري وسياسي، مدركًا أنّ النضال السياسي وحده لن يحقّق أي نتيجة حقيقية في ظل إنكار أبسط حقوق الكرد، وأنّ الشعب الكردي بحاجة إلى قدرة دفاعية ملموسة تحميه وتفرض وجوده. تأسيس حزب العمال الكردستاني في عام 1978 جاء استجابة لهذه الرؤية؛ حيث تبنّى الحزب هدف التحرّر القومي للشعب الكردي ولجميع شعوب المضطهدة، مستنداً إلى مفاهيم وأفكار يسارية اشتراكية ينشد العدالة الاجتماعية والمساواة.

فترة السجون بعد انقلاب 1980 كانت نقطة تحوّل مفصلية؛ ففي سجن آمد (ديار بكر)، تعرّض المعتقلون الكرد لأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي؛ وهو مّا دفع العديد من القادة إلى إعادة النظر في جدوى النضال السلمي وحده. في هذا المناخ القمعي، وبناءً على أنّه لا يمكن حماية الهوية والوجود إلّا بامتلاك القدرة على الدفاع الذاتي، بدأ جناح الحزب خارج السجون بالتحضير لمرحلة الكفاح المسلّح.

مع بداية عام 1984 اكتملت الاستعدادات لتنفيذ العمليات الأولى، التي استهدفت مراكز عسكرية في منطقتَي حلوان وسيفرك التابعتين لأورفا، وإروه وشمزينان التابعتين لشرناخ. كان اختيار هذه المناطق استراتيجيًا؛ نظرًا لقربها من الحدود العراقية، وهو ما يتيح للمقاتلين التحرّك والتراجع بسهولة، والاستفادة من التضاريس الجبلية الصعبة التي تمنحهم ميزة تكتيكية على القوات التركية. في فجر 15 آب، نفّذت وحدات الكريلا بقيادة معصوم قورقماز (عكيد) الهجوم، مخلِّفة أثرًا نفسيًا وسياسيًا كبيرًا؛ إذ أدركت الدولة التركية أنّ الصراع لم يعد مجرّد احتجاجات مدنية يمكن قمعها بسهولة، بل تحوّل إلى حركة مسلّحة منظمة تمتلك قاعدة جماهيرية واسعة.

القرار باللجوء إلى الكفاح المسلّح لم يكن سهلاً، بل جاء بعد نقاشات داخل القيادة حول مخاطره، خاصة على القرى والمدنيين الكرد، الذين قد يتعرّضون للانتقام من قبل الدولة. ومع ذلك، كانت رؤية أوجلان واضحة؛ فإن لم يتم اتخاذ هذه الخطوة، فإنّ سياسة الإبادة البطيئة ستستمرّ، وسيمحى وجود الكرد تدريجيًا، بما في ذلك لغتهم وثقافتهم وتاريخهم.

ردّ الدولة التركية على العمليات المسلّحة كان عنيفًا وشاملاً؛ فبعد إعلان الكفاح المسلّح وخلال التسعينيات، اعتمد الجيش التركي سياسة “الأرض المحروقة”، مستهدفًا البنية التحتية والزراعة والمنازل، بهدف تهجير السكان وإضعاف الدعم الشعبي للكريلا. تشير التقديرات إلى أنّ آلاف القرى الكردية تعرّضت للتدمير أو الإخلاء القسري، لكن إرادة الشعب الكردي لم تُكسَر، بل تعزّزت، وأصبح التنظيم الداخلي والخبرة المكتسبة في الجبال عاملًا حاسمًا في استمرار المقاومة. في الوقت نفسه، ساعدت أجواء الحرب العراقية – الإيرانية في العراق على توفير ملاذات آمنة للمقاتلين، واستمرار تدفّق الدعم اللوجستي عبر الحدود.

قبل اعتقال عبد الله أوجلان عام 1999، كان الكفاح المسلّح للكرد في تركيا يمرّ بمراحل تطوّر حاسمة. بعد إعلان الكفاح المسلّح في 15 آب 1984، انطلقت وحدات حزب العمال الكردستاني (PKK) لتنفيذ عمليات تكتيكية محدودة، مستهدفة نقاطًا عسكرية وأمنية في جنوب شرق تركيا، في مناطق مثل شرناخ، وهكاري، وديار بكر. هذه العمليات لم تكن عشوائية، بل خضعت لتخطيط استراتيجي قائم على طبيعة التضاريس الجبلية، وسرعة التحرّك، وإمكانية التراجع عبر الحدود العراقية؛ وهو ما وفّر للمقاتلين قاعدة عمليات آمنة نسبيًا.

في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، صعّدت الدولة التركية من حملتها العسكرية، مطبِّقةً سياسة “الأرض المحروقة”، مستهدفة القرى والمزارع والبنية التحتية، كما حاولت تهجير السكان الكرد من مناطقهم. على الرغم من هذا القمع العنيف، إلّا أنّ الحزب قد نجح في ترسيخ قواعده الشعبية، وبناء شبكات دعم محلّية؛ ما مكّنه من الاستمرار في العمليات العسكرية، وتطوير أسلوب “حرب العصابات” الذي أصبح علامة مميّزة للكريلا.

تزامن ذلك مع مبادرة وقف إطلاق النار من جانب واحد في التسعينات من قبل أوجلان لإيجاد مخرج ما وإنهاء الصراع والوصول إلى تسويات سياسية، إلّا أنّ تركيا رفضت أي تفاوض مباشر مع PKK قبل وقف العمليات المسلّحة؛ ما أوجد حالة من الجمود السياسي. في هذه المرحلة، كان أوجلان يضع أسس استراتيجية الحركة، مؤكّداً أنّ الكفاح المسلّح ليس هدفاً نهائياً، بل وسيلة للضغط على الدولة التركية لفتح المجال أمام الاعتراف بالهوية القومية الكردية وحقوق الشعب الكردي. كما شمل التخطيط بناء مؤسسات دعم داخلي، مثل شبكات إعلامية ومؤسسات تعليمية وتثقيفية، لتعزيز الوعي القومي بين السكان المحلّيين.

مؤامرة الاعتقال وتأثيرها على الحركة

اعتقال أوجلان في شباط 1999 في كينيا كان ضربة هزّت أركان الحركة، لكنّها لم تقضِ على الحركة ولم تُنهِ الكفاح المسلّح.

أوجلان، الذي ما زال معتقلاً في جزيرة إمرالي، حوَّل سجنه إلى منصّة سياسية فكرية وعلمية من خلال قراءته للآلاف من الكتب، وقدّم عصارة أفكاره من خلال خمس مرافعات مقدّمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، يتّهم فيها قوى الهيمنة الرأسمالية بأنّها هي المسبّب الرئيسي لِما جرى للكرد والشعوب الأخرى؛ من حيث إنكار حقوقهم وتجزئة جغرافيتهم بما يخدم مصالحهم، وذلك عبر إبرام معاهدات دولية (سايكس بيكو – لوزان…) ناكرةً فيها حقوق الشعوب الأصيلة في المنطقة. إلى جانب ذلك؛ قام أوجلان بتغيير نهج الحركة إلى الانتقال من المقاومة المسلّحة إلى استراتيجية شاملة تشمل السياسة الديمقراطية، والاقتصاد الإيكولوجي، والمجتمع الديمقراطي الحر، وحرية المرأة. هذه المرحلة شهدت تحوّلًا مهمًّا على الصعيد الفكري؛ من حيث التحوّل من الاعتماد الكامل على القوة العسكرية إلى السياسة والتفاوض والوسائل القانونية والدبلوماسية.

بعد اعتقال أوجلان، واجه الحزب تحدّيًا مزدوجًا؛ حيث استمرار العمليات العسكرية ضد الجيش التركي، وحماية قاعدة الدعم الشعبي من الانحراف أو الانقسام الداخلي. وبدلاً من الانهيار، طوّر الحزب آليات جديدة لإدارة العمليات، شملت قيادة لامركزية، ونظام اتصالات داخلياً محصّناً ضدّ الضربات التركية؛ وهو ما ساهم – رغم غياب القيادة المركزية المباشرة – في استمرار العمليات المسلّحة على الأرض.

في العقدين التاليين، استمرّ النضال الكردي في عدّة اتجاهات متوازية؛ فعلى المستوى العسكري، استمرّت وحدات الكريلا في تنفيذ عمليات نوعية ضد الجيش التركي، مستفيدة من خبرتها الطويلة في حرب العصابات، وقدرتها على التكيّف مع تكتيكات الردع والهجمات المضادّة. أمّا على المستوى السياسي، فقد بدأ التركيز على الضغط الدولي، وبناء دعم شعبي من خلال الشتات الكردي في أوروبا وأمريكا الشمالية، واستغلال المنصّات الإعلامية والدبلوماسية لتسليط الضوء على القضية الكردية.

على صعيد الفكر الاستراتيجي، ركّز أوجلان من سجنه على تطوير مفهوم “الأمّة الديمقراطية”، الذي يربط الكفاح الكردي بحقوق جميع المكوّنات في الشرق الأوسط، ويؤكّد أنّ المقاومة المسلّحة يجب أن تترافق دائمًا مع بناء مؤسسات مدنية وديمقراطية لضمان مستقبل مستقرّ. هذا الفكر أصبح أساسًا لتجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا بعد الثورة عام 2011؛ حيث تم دمج المقاتلين في قوات حماية متعدّدة المكوّنات، وبناء مؤسسات محلّية قادرة على إدارة المجتمع بأكمله، وليس فقط الدفاع عن القرى الكردية.

في سوريا والعراق استمرّ تأثير الفكر والأيديولوجيا التي رسّخها أوجلان في جبال كردستان؛ حيث شجّعت الحركة الكردية على بناء مؤسسات محلّية، وإقامة تعاون متعدّد المكوّنات، وتحقيق توازن بين القوة العسكرية والشرعية السياسية. كما كان لدى الكرد القدرة على الاستفادة من الفراغات الأمنية الناتجة عن الحروب الإقليمية، سواء في العراق بعد الغزو الأمريكي، أو في سوريا بعد الثورة، لتثبيت وجودهم السياسي والأمني، وتحويل خبرة الحرب إلى أدوات إدارة مدنية وسياسية.

يمكن القول إنّ اعتقال أوجلان شكّل بداية مرحلة جديدة من النضال الكردي؛ ألا وهي مرحلة دمج القوة العسكرية مع التفكير السياسي والإستراتيجي، والتحرّك على المستوى الدولي للحصول على اعتراف ودعم للقضية، مع الحفاظ على مقاومة ميدانية مستمرّة. هذا التوازن بين القوة والوعي، بين المقاومة المسلّحة والحوار السياسي، أصبح نموذجًا استراتيجياً فريداً في تاريخ الحركات القومية المسلّحة، ويعكس قدرة الحركة الكردية على التكيّف مع المتغيّرات، والحفاظ على إرثها النضالي عبر عقود طويلة من الصراع.

مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، بدأ فصل جديد في مسيرة النضال الكردي، إلّا أنّ جذور هذا النضال تعود إلى ما قبل ذلك بسنوات طويلة؛ إذ كان الكرد في شمال وشرق سوريا قد بدؤوا مواجهتهم مع النظام منذ انتفاضة عام 2004، حين خرجوا مطالبين بالحقوق والحرية، دون أن يلقَوا أي دعم من باقي القوى المعارضة، بل إنّ الكثير من تلك القوى قد وقفت إلى جانب النظام في قمع تلك الانتفاضة.

وعندما غادرت قوات النظام البائد مناطق الشمال الشرقي في بداية الثورة، لم يكن ذلك طوعاً، بل جاء نتيجة الضغط المتصاعد من قبل وحدات حماية الشعب، التي خاضت معارك شرسة وقدّمت خلالها تضحيات كبيرة وسقط منها العديد من الشهداء في سبيل تحرير تلك المناطق. لقد خلّف النظام فراغاً أمنياً وإدارياً كبيراً، تولّت القوى المحلّية ملء ذلك الفراغ وتنظيم الحياة، واضعة أسساً لإدارة ذاتية ديمقراطية رغم التحدّيات والتهديدات المستمرة. ولا ينبغي لأحد أن يتجاهل أنّ الثوار الكرد كانوا في طليعة مَن تصدّى للنظام، ودفعوا ثمناً باهظاً في الوقت الذي لم يكن فيه أحد مستعدّاً للوقوف إلى جانبهم؛ وذلك من خلال تنظيم مجالس محلّية ومؤسسات مدنية، إلى جانب قوات حماية مدنية قادرة على إدارة الأمن المحلّي. وقد أسست الإدارة الذاتية الديمقراطية نموذجًا سياسيًا متقدّمًا، قائمًا على التعدّدية والمشاركة، يضمن حقوق جميع المكوّنات، من الكرد والعرب والسريان والإيزيديين، مع التركيز على التعليم متعدّد اللغات والعدالة الاجتماعية.

لكن هذه التجربة لم تبقَ دون تحدّيات؛ ففي عام 2014 ظهر تنظيم “داعش” كتهديد شامل، واجتاح مناطق واسعة من سوريا والعراق، محاولًا القضاء على أي شكل من أشكال التعدّدية. هاجم التنظيم مدينة كوباني، وارتكب مجازر مروّعة بحق الإيزيديين في شنكال، مستهدفًا القضاء على وجودهم الثقافي والديموغرافي. وقد واجه الكرد هذه الهجمات بقواتهم المنظّمة، التي تلقّت لاحقًا دعماً من التحالف الدولي، وأثبت الكرد أنّ المقاومة ليست مجرّد خيار دفاعي، بل أداة للحفاظ على التعدّدية وحق المجتمعات في البقاء.

نتيجة لذلك؛ تأسست قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كتحالف عسكري متعدّد المكوّنات، تضمّ الكرد والعرب والسريان، لتصبح نموذجًا عمليًا لما دعا إليه أوجلان تحت عنوان “الأمّة الديمقراطية”. هذه التجربة لم تقتصر على الجانب العسكري، بل شملت بناء مؤسسات مدنية قوية، وضمان مشاركة المجتمع المحلّي في الحكم، وترسيخ فكرة العدالة والمساواة بين المكوّنات المختلفة.

مع تراجع النظام السوري في شمال وشرق البلاد، وسقوطه في كامل البلاد لاحقاً، وظهور الحكومة الانتقالية، بدأت فرصة جديدة لفتح مسار تفاوضي بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، برعاية دولية، تحت إشراف أوجلان من سجنه. الرؤية الاستراتيجية كانت واضحة؛ ألا وهي إنهاء الصراع المسلّح مقابل اعتراف كامل بالحقوق القومية والثقافية للكرد، وإعادة المهجّرين، وضمان المشاركة السياسية في المؤسسات المحلّية والوطنية في الدولة، وتحويل القوة العسكرية إلى قوة مدنية وسياسية قادرة على المساهمة في الأمن والإدارة المحلّية.

تشمل عملية السلام المقترحة إطلاق حزمة حقوق دستورية وسياسية، تضمّ الاعتراف بالوجود الكردي واللغة الكردية، وتوفير التمثيل السياسي في المؤسسات، إلى جانب آليات لإعادة الدمج التدريجي للقوات المسلّحة ضمن هيئات أمنية محلّية متعدّدة المكوّنات، وضمان حماية المدنيين والمناطق المتضرّرة، بما في ذلك تعويض المتضرّرين. كما تقترح الخطة حكمًا ذاتيًا ديمقراطيًا محليًا ضمن الدول القائمة، مع آليات تمثيل ومشاركة مجتمعية لضمان التعايش السلمي بين كافة المكوّنات.

اليوم، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود على قفزة 15 آب، يظل هذا التاريخ رمزًا لإرادة الكرد في مواجهة قمع طويل، ورمزاً لقدرتهم على التحوّل من الضحية إلى الفاعل، ومن النضال المسلّح إلى العمل السياسي المؤسسي. يمثّل هذا الإرث درسًا واضحًا في أنّ المقاومة، مهما كانت أدواتها، كانت دائمًا وسيلة لحماية الهوية والوجود، وأنّ السلام المستدام لن يكون ممكنًا إلّا من خلال الاعتراف المتبادَل وتهيئة أرضية سياسية عادلة تضمن حقوق جميع الشعوب في المنطقة.

منذ إعلان الكفاح المسلّح في 1984، مرورًا بصمود كوباني، ومعارك داعش، وصولًا إلى مرحلة الحكومة الانتقالية والمفاوضات مع تركيا، يبدو أنّ الخط المشترك هو التحوّل من القوة العسكرية إلى القوة السياسية، وبناء مؤسسات ديمقراطية تعكس التعدّدية والعدالة. إذا نجحت هذه التجربة، فإنّها يمكن أن تصبح نموذجًا لإعادة ترتيب العلاقات بين الشعوب في الشرق الأوسط على أساس الاحترام المتبادل والمساواة، لتصبح قفزة 15 آب نقطة انطلاق لحقبة جديدة من السلام والتنمية.

على الرغم من أنّ الصراع المسلّح بدأ في جبال كردستان (باكور)، إلّا أنّ تأثيره سرعان ما تجاوز الحدود الوطنية، ليشمل أجزاء كردستان الأخرى ومناطق الشتات الكردي في أوروبا والعالم؛ ففي أوروبا برزت مجموعات كردية سياسية وثقافية تعمل على كسب التأييد الدولي للقضية الكردية، سواء عبر الإعلام، أو اللجوء إلى البرلمان الأوروبي، أو تنظيم مظاهرات تضامن، هذه الحركة الدولية ساهمت في خلق ضغط سياسي على الحكومات الأوروبية لدفع تركيا نحو سياسات أكثر اعتدالًا، أو على الأقل الاعتراف بوجود قضية كردية قائمة. لم يقتصر دور الشتات على العمل السياسي، بل شمل الدعم اللوجستي والمالي للحركة المسلّحة في الجبال؛ ما عزّز من قدرتها على الصمود في مواجهة حملات الجيش التركي المكثّفة.

إنّ مقارنة التجربة الكردية في سوريا وتركيا والعراق، تظهر اختلافات استراتيجية ملحوظة؛ ففي تركيا، كان الصراع طويل الأمد، قائمًا على المقاومة المسلّحة في مواجهة دولة مركزية قوية ومتسلّطة، مع محدودية فرص الاعتراف السياسي، وهو ما جعل من الكفاح المسلّح أداة ضرورية للدفاع عن الهوية. أمّا في العراق فكان للكرد ماضٍ طويل في المقاومة والكفاح المسلّح ضدّ نظام بغداد منذ الحرب العالمية الأولى؛ وهو ما شكّل أرضية قوية في عدم التخلّي عن مطالبهم في العيش بحرية، الأمر الذي أجبر حكومة بغداد على الاعتراف بالحكم الذاتي للكرد، والذي تحوّل فيما بعد إلى إقليم فيدرالي، وهذا ما أتاح بناء مؤسسات محلّية وإدارة الموارد بشكل شبه مستقل. وفي سوريا تمكّن الكرد من تأسيس الإدارة الذاتية الديمقراطية، التي تُعَدّ تجربة فريدة في تاريخ النضال الكردي؛ إذ جمعت بين الأمن، والإدارة المحلّية، والتنمية الاجتماعية، ومبدأ التعدّدية، تحت مظلة حكم مدني يحمي جميع المكوّنات.

الأبعاد الإقليمية للصراع الكردي تكشف عمق التحدّيات الاستراتيجية التي واجهتها الحركة؛ فتركيا، الدولة الأكثر قوة بين الدول الأربع، رأت في أي تحرّك كردي مسلّح تهديدًا لأمنها القومي، ولهذا كانت المواجهة عسكرية ومباشرة، وشاملة، ودون هوادة. إيران والعراق، ورغم اختلاف سياقهما السياسي، مارستا سياسات متقاربة في التعامل مع الحركات الكردية، ما بين السماح بحدود من الحكم الذاتي، وبين قمع محاولات التمرّد المسلّح. أمّا في سوريا، فقد شكّلت الثورة فرصة غير متوقّعة، أتاحها الخلل الأمني والنفوذ الدولي الجزئي، وهو ما خلق تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية.

لقد أرست هذه التجارب درسًا استراتيجيًا مهمًّا؛ وهو أنّ القوة العسكرية وحدها لا تكفي، بل يجب أن تترافق مع استراتيجية سياسية واجتماعية متكاملة، تشمل الإدارة المحلّية، وتحصين الدعم الشعبي، وإقامة تحالفات داخلية وخارجية، وتهيئة الأرضية لمفاوضات سلام مستدامة. تجربة الإدارة الذاتية في روج آفا أثبتت إمكانية بناء مؤسسات مدنية، ودمج المقاتلين في هيكل أمني متعدّد المكوّنات، وتحقيق مشاركة مجتمعية فعلية؛ بما يتيح نموذجًا مستقبليًا يمكن تعميمه في مناطق أخرى، أو استخدامه كمرجعية في المفاوضات مع الدولة التركية.

من منظور استراتيجي؛ تمثل قفزة “الخامس عشر من آب” علامة فارقة في تاريخ الحركة الكردية وشعوب المنطقة؛ لأنّها لم تقتصر على لحظة عسكرية، بل شكّلت نقطة تحوّل في وعي الشعب الكردي ودوره في المنطقة. التحوّلات التي أعقبت هذه اللحظة أظهرت قدرة الكرد على التكيّف مع الظروف المتغيّرة، والانتقال من المقاومة المسلّحة إلى النضال السياسي، مع الحفاظ على مكتسباتهم في الهوية والثقافة والإدارة المحلّية وإدارة أنفسهم ذاتياً جنباً إلى جنب مع مكونات المنطقة؛ هذا التحوّل يوضح أنّ الاستراتيجية الكردية الحديثة تقوم على مبدأ تحويل القوة إلى وسيلة للسلام، لا غاية للحرب.

يمكن القول إنّ إرث قفزة “الخامس عشر من آب” يشمل ثلاثة أبعاد رئيسية: الأول، البُعد العسكري والرمزي الذي أظهر أنّ الكرد قادرون على الدفاع عن وجودهم. الثاني، البُعد السياسي والاجتماعي الذي أكّد على أهمية بناء مؤسسات محلّية وديمقراطية. الثالث، البُعد الإقليمي والدولي، الذي يربط القضية الكردية بمجمل التحوّلات في الشرق الأوسط، ويجعلها جزءًا من المعادلة الإقليمية الكبرى، بما في ذلك التوازن بين الدول، وحماية حقوق الأقليات، وبناء تعاون متعدّد الأطراف يضمن الاستقرار والسلام.

في ضوء ذلك؛ يمكن النظر إلى تجربة الكرد اليوم، بدءًا من “قفزة الخامس عشر من آب”، مرورًا بمعارك كوباني ضد داعش، وصولًا إلى الإدارة الذاتية ومفاوضات السلام، كنموذج شامل في التفكير الاستراتيجي؛ بمعنى قوة دفاعية لحماية الوجود، واستراتيجية سياسية لضمان الحقوق، وتجربة إدارة مدنية لدعم التعدّدية، مع رؤية مستقبلية نحو السلام المستدام. هذه الرؤية تمثّل درسًا لكل صراع قومي في المنطقة مفاده أنّ المقاومة، مهما كانت أدواتها، يجب أن تترافق مع استراتيجية متكاملة تشمل القوة، والسياسة، والمجتمع، والاعتراف الدولي لضمان نجاح طويل الأمد.

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush
https://se.net.ua/ amavi5d sesetoto situs slot ollo4d slot titi4d Situs Slot Toto Slot Situs Toto Situs Slot Situs Toto sontogel idrtoto akuntoto situs slot slot gacor situs slot slot88 leon188 naruto 88 naruto 88 Wikatogel babe138 slot login ikut4d slot Togel sgp deposit pulsa tanpa potongan sumsel toto toto slot situs toto toto togel https://id.desapujonkidul.net/ toto togel toto togel toto togel toto slot slot gacor titi4d https://fh.unvicsorong.ac.id/ karatetoto mmatoto situs gacor situs toto toto slot toto slot mahongtoto toto slot slot gacor situs toto toto slot toto togel toto togel onod6148 toto slot sulebet slot gacor maxwin Togel sgp Data sdy toto slot Keluaran hongkong