مستقبل سوريا في ظل التجاذبات الداخلية والإقليمية والدولية
عبدالرزاق علي

بعد التضحيات الجِسام في مواجهة التنظيم الإرهابي تمّ القضاء عليه جغرافياً في آخر معاقله في الباغوز بفضل دماء كافة مكوّنات الطيف الاجتماعي في المنطقة، وبعد السقوط المدوّي للنظام الاستبدادي، وتطهير المنطقة من الميليشيات الإيرانية، وتحطيم أشكال الحياة في غزة من خلال زجّها في أتون حربٍ غير متكافئة، والتي كانت مغامرة غير محسوبة وغير محسومة النتائج حتى الآن من قبل إيران، وكذلك بعد سحق حزب الله ودكّ أوكاره لبتر الذراع الإيرانية لصالح السيادة اللبنانية، وانهيار محور الممانعة، تمّ تمهيد الطريق أمام الجماعات الإسلامية المتطرّفة بقيادة الجولاني لتولّي القيادة في سوريا، وقد تكون من خلال صفقة (إسرائيلية بريطانية أمريكية روسية)، ليتحوّل الجولاني إلى أحمد الشرع ويصبح رئيساً للجمهورية العربية السورية.
الآن “ذاب الثلج وبان المرج” وبدأت خيوط اللعبة تتكشّف تدريجياً؛ ومنها أنّ أحمد الشرع يؤدّي الدور المناط به على خشبة المسرح بعد أن تمّ التخطيط له مسبقاً، ولأداء هذا الدور بإتقان كان لزاماً أن تتمّ إزالة العوائق وتذليل العقبات، بدءاً من إلغاء المكافأة المالية المخصّص لمن يقبض على الجولاني أو لمن يدلي بمعلومات عنه (ما قيمته عشرة ملايين دولار أمريكي) بمعنى أنّهم أعتقوه ليتحوّل من إرهابي إلى ديمقراطي؛ فألبسوه ربطة عنق أنيقة، وأظهروه بمظهر حضاريّ متأنّق، ليجلس مع الرئيس ترامب ويتغزّل ترامب بوسامته بحضور وليّ العهد السعودي، ويقرّر رفع العقوبات عن سوريا وسط تصفيق حادّ من وليّ العهد السعودي. أليست هذه مسرحية تثير الدهشة والاستغراب؟
لتتقاطر بعدها الإعفاءات لإنعاش الاقتصاد السوري وإعادته إلى دورة الحياة، ولتتوالى بعد ذلك زيارات الوفود الأوربية، كلٌّ حسب مصلحته، ولتنهال عليه الأموال الخليجية، وليُفتح الباب على مصراعيه لدخول الشركات الإقليمية والدولية لتعويم هذا النظام وترميم ما دمّرته الحرب خلال عقد ونيّف.
ناسين أو متناسين طبيعة هذه الجماعات، أليست هذه مفارقة غريبة وفريدة؟ نعم إنّها لغة المصالح.
لقد تمّ تبنّي هذا النهج وصُرف النظر عن الجرائم التي ارتُكبت في الساحل السوري وفي منطقة الدروز، كما صُرف النظر عمّا يحدث من قتل وذبح وخطف على الساحة السورية بشكل يومي.
ما الذي نفهمه ونستنجه من ذلك؟
نستنج أنّ الذين أوصلوا أحمد الشرع إلى الحكم هم المسؤولون عن حمايته، وهو يلبّي كل ما يُطلَب إليه دون تردّد، ولنورد مثالاً على ذلك:
- استعداده التام للتوقيع على الاتفاقيات الإبراهيمية للتطبيع مع إسرائيل.
- تبديد مخاوف وهواجس إسرائيل إزاء الجماعات المتطرّفة المنضوية تحت عباءته؛ مُظهِراً قدرته على معالجة الأمور بحنكة.
- ترحيل الجماعات الجهادية الفلسطينية.
- ضمان حقوق المواطنة.
- دستور عصريّ جديد يضمن حقوق كافّة المكوّنات.
- وحدة الأراضي السورية وسلامة حدودها.
وهذه البنود المذكورة أعلاه تتماشى مع الرؤية الأمريكية والأوربية والعربية.
هكذا يسوّق الشرع نفسه داخلياً وإقليمياً ودولياً؛ إلّا أنّ الوضع الداخلي يظهر عكس ذلك تماماً:
أولاً: يتّضح ذلك في الحوار الوطني الذي عقده.
ثانيا: الإعلان الدستوري الإقصائي.
ثالثاً: انتخابه من قبل الفصائل المتطرّفة رئيساً للمرحلة الانتقالية.
وكمحصّلة؛ فإنّ هذه الإجراءات أعلاه تدحض وتفنّد ما يدّعي، الأمر الذي يثير مخاوف وقلق المكوّنات الأخرى، كرداً ودروزاً وعلويين ومسيحيين ومتنوّرين من السُّنّة.
وعلى ضوء ما تم عرضه وسرده من التناقضات في الشكل والمضمون؛ نطرح جملة من الأسئلة:
1) أولاً: هل (أحمد الشرع) قادر على ترتيب الوضع الداخلي بروح الديمقراطية؟
2) ثانياً: هل هو جاد في ترجمة أقواله إلى أفعال؛ بمعنى ضمان حقوق كافّة المكوّنات في الدستور الجديد؟
3) ثالثاً: هل هو منفتح على خصوصية المكوّنات دستورياً مثل الكرد والدروز؟
4) هل يراعي المصالح الوطنية ويقطع الطريق أمام التدخّلات الخارجية؟
باعتقادنا؛ إنّ هذه الأسئلة المحورية والجوهرية تعجز حكومة الشرع عن إيجاد إجابات عليها؛ وذلك لأسباب داخلية وإقليمية ودولية، سنوردها واحداً تلو الآخر لتوضيح وتقصّي الحقائق:
على الصعيد الداخلي:
- الجماعات المشاركة في إدارة البلاد هي جماعات ظلامية إسلامية متطرّفة، أجندتها قائمة على الانتقام وسفك الدماء، كما حدث في الساحل وصحنايا وجرمانا وحمص وحماة، وحالياً منطقة السويداء “الطائفة الدرزية”؛ فهي بعيدة عن التعدّدية والديمقراطية والتشاركية.
- هذه الجماعات غير منسجمة وهي متناغمة مع القيادة السياسية، وذات لونٍ واحد، وعقيدتها جهادية سلفية.
- عجز القيادة السياسية عن التصالح والحوار الديمقراطي مع الداخل عموماً والكرد خصوصاً.
- تمسّكها بالمركزية هو تكريس للاستبداد؛ وهو الأمر الذي يخشاه الشعب السوري ويرفضه تماماً.
على الصعيد الإقليمي:
الدول الداخلة في الصراع السوري، هي: تركيا وإسرائيل والدول العربية، ولكلّ منها مصالحها وأجنداتها مع الحكومة الجديدة؛ فمع وصول هذه الجماعات سعت تركيا سعياً حثيثاً لتعزيز وتوطيد وترسيخ علاقاتها على الصعيد الأمني والاقتصادي، بغية الاستفادة من الاستثمارات الاقتصادية، وعرضت كافّة التسهيلات لهذا الغرض، لكن الأهم من ذلك كلّه بالنسبة لتركيا هو تقويض مشروع الكرد مهما كلّفها الأمر. أمّا إسرائيل فتلعب دوراً مركزياً في سوريا، وتحاول العزف على الأوتار العاطفية الكردية، لكن الكرد أوعى من ذلك، لهم خطّهم الثالث، ولا يخفى عليهم الدور التاريخي العدائي الإسرائيلي تجاه القضية الكردية، بدءاً من تزويد الأتراك بالأسلحة التكنولوجية المتطوّرة، مروراً بدورها القذر في عملية اعتقال السيد عبدالله أوجلان، وصولاً للوضع الراهن؛ فهي الآن في مواجهة مع تركيا على الساحة السورية، وما يهمّها هو حفظ أمنها ومصلحتها ولا شيء آخر.
أمّا المنظومة العربية فتدور في فلك الاستراتيجيات الأمريكية، وتريد استرداد الشرع من حضن تركيا؛ وذلك من خلال دعمه مالياً وتقديم الخدمات والتسهيلات لتعويمه.
فتطبيع “النظام الجديد” مع إسرائيل يمهّد الطريق للدول العربية المتبقّية للتطبيع.
على الصعيد الدولي:
تسعى الدول الأوربية جاهدة لتعزيز الأمن والاستقرار في سوريا؛ والهدف من ذلك هو إعادة ما أمكن من اللاجئين السوريين إلى بلادهم، لأنّ أولئك اللاجئين باتوا يشكّلون عبئاً اقتصادياً على الدول المستضيفة، ولأنّ ذلك من شأنه أن يخفّف مشاكل كثيرة، بالإضافة إلى توظيف شركاتها في الاستثمارات في سوريا المدمَّرة. أمّا أمريكا فهي على رأس القائمة، ودورها محوريّ في رسم الخرائط في الشرق الأوسط انطلاقاً من سوريا، فإنّ حليفتها الاستراتيجية في تنفيذ المشروع هي إسرائيل، وشريكتها في الناتو هي تركيا، ويدها الطولى في محاربة داعش هي قوات سوريا الديمقراطية، وعلاقاتها القوية مع الحكومة الجديدة في سوريا.
ولكلّ طرف من هذه الأطراف المتداخلة على الجغرافية السورية موقع في سلّم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية وأمنها القومي.
والسؤال الذي يُطرَح هو:
كيف ترتب أمريكا سلّم أولويات مصالحها بين هذه الأطراف؟ فكما نعلم أنّه عندما تلتقي المصالح تختفي المبادئ وتتحرّك البوصلة تجاه المصلحة؛ وهذا يدفعنا إلى طرح السيناريوهات المحتمَلة حول ما سيؤول إليه للوضع القائم في سوريا:
السيناريو الأول:
بما أنّ الحكومة المؤقّتة في دمشق ترفض اللامركزية والفدرالية رفضاً قاطعاً، وبمباركة المبعوث الأمريكي، توماس باراك، وكأنّه الناطق باسم الحكومة التركية في المفاوضات الجارية، وبما أنّ اللامركزية مطلَب لجميع المكوّنات السورية، وهي ضمانة لمنع تكريس العنف والاستبداد والقبضة الأمنية، كما كان في عهد النظام السابق، فإنّ إصرار الحكومة المؤقّتة على المركزية سيؤسّس لمرحلة جديدة من الفوضى والحقد وإثارة النعرات الطائفية، بل وربّما التصادم، وهذا ما لا تتمنّاه غالبية الشعب السوري.
السيناريو الثاني:
إذا ما أنصفت الأطراف الدولية – ونقصد أمريكا وفرنسا والدول الأوربية الأخرى – غالبية الشعب السوري، بمن فيهم الكرد، في حقوقهم الدستورية، ووجّهت في الاتجاه الصحيح، فإنّ الوضع سيركن للهدوء، وستنعم سوريا بالأمن والأمان، وستتّجه نحو التنمية والازدهار؛ وإلّا فستنزلق الأمور إلى المربّع الأول وربّما الهاوية.
السيناريو الثالث:
رغم تحفّظنا على تصريحات المبعوث الأمريكي المثيرة للجدل، والتي أثارت زوبعة وضجّة إعلامية، فإنّها قد تصبّ في خدمة الأجندة التركية.
لأنّنا نعتقد جازمين أنّ توقيع اتفاقية (عبدي – الشرع) كانت بوساطة أمريكية – فرنسية؛ فهي وثيقة متوازية ولا يمكن القفز عليها، والأمر مرهون بالتطبيع والتوقيع على الاتفاقيات، ليُصار بعدها إلى تسوية الوضع السوري بشكل يُرضي كافّة المكوّنات، آخذين خصوصية القضية الكردية بعين الاعتبار؛ لأنّ الأمور لا يمكن حلّها إلّا بالديمقراطية، وهذا السيناريو هو الأقرب للتحقيق في قادم الأيام.