العملات الأجنبية في الأسواق المحلية بين النعمة والنقمة

شرفان سيف الدين

ممّا لا شكّ فيه أنّ للاقتصاد الدور الأبرز في معظم أو غالبية المشاكل السياسية في العالم، وأنّ معظم هذه المشاكل أو غالبيتها تكون ذات خلفية اقتصادية، فمنذ اندلاع ما بات يُعرَف بـ “الربيع العربي” في نهاية عام 2010م وبداية عام 2011م على أثر إضرام الشاب التونسي (محمد البوعزيزي) النار في جسده، ردّاً على مصادرة السلطات لعربته التي كان يقتات منها وإهانته أمام الملأ، وشعوب شمال أفريقيا والشرق الأوسط تعيش حالةً من اللااستقرار في أعلى الهرم السياسي وأسفل القاعدة الجماهيرية.

بطبيعة الحال؛ لكل دولة مستقلّة عملة نقدية خاصة بها، وتحدّد قيمتها في الأسواق العالمية بحسب احتياطيها من الذهب والعملات الرئيسية في العالم مثل الدولار الأمريكي واليورو (العملة الأوروبية الموحدة) والين الياباني والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري …الخ، وعلى أساسه تتم طباعة الكمية المقابلة لها، وذلك لضمان استقرارها النسبي نوعاً ما؛ ففي سوريا مثلاً؛ كانت العملات الأجنبية محصورة بيد الدولة، ويتم التداول بها حسب الحاجة التجارية فقط، أي لأمور الاستيراد والتصدير الخارجي، وبموجب هذه السياسة كانت معظم العملات الأجنبية في حالة الاستقرار بالنسبة لعمليات التداول وانخفاض وارتفاع أسعار التبادل وسعر الصرف…الخ، لكن مع اندلاع الأزمة السورية والعمليات العسكرية وبدء استنزاف الاحتياطي الاقتصادي وتسخيره في العمليات القتالية وتمويل الآلة العسكرية الخاصة بالنظام وتوابعه، بدأ العدّ العكسي لعجلة الاقتصاد السوري وبدأ بالانهيار شيئاً فشيئاً، حيث بدا ذلك جليّاً مع تدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية، ولتخسرَ الليرة السورية قيمتها بشكل متلاحق ومتسارع في حالة سلبية، تتبيّن آثارها المباشرة على المواطن كأوّل المتضرّرين من ذلك، وحتى يكون الأجر إنسانياً يجب أن يؤمّن الحاجات الإنسانية للمواطن، فقد كان متوسّط راتب الموظّف السوري بحسب إحصاءات سابقة 11500 ليرة سورية، أي ما يقابل 250 دولارا أمريكيا (وذلك بحسب سعر الصرف 46 ليرة آنذاك) أي ما قبل الأزمة الحالية، في حين لا يقابل راتب الموظف السوري اليوم سوى 20 دولارا أمريكيا في أحسن الأحوال، والجدير بالذكر أنّه في كلتا الحالتين لم يكن يقدّم أدنى متطلّبات العيش للفرد أو للأسرة.

مع تطوّر الأحداث المتسارعة في الثورة السورية، ومع موجة الهجرة الخارجية التي شهدتها البلاد، بدأ المواطن داخل البلد بالتعرّف على العملات الخارجية وملامستها والتعامل بها بالإضافة إلى الذهب، وذلك بسبب استقرارها العالمي نسبياً بشكل عام، أمّا موارد أو مصادر العملات الأجنبية فقد كانت الحوالات الخارجية التي يتمّ ضخّها في الأسواق المحلية عن طريق أولئك المهاجرين الذين قذفتهم الاقدار خارج البلاد، وأيضاً عن طريق منظّمات المجتمع المدني التي دخلت المنطقة وتدفع رواتبها بالعملات الأجنبية وخاصةً الدولار الأمريكي، حيث نشط التعامل بهذه العملات في مناطق شمال وشرق سوريا؛ فكان فتح وترخيص العديد من محلات الصرافة والحوالات المالية في المنطقة كنتيجة حتمية، أمّا مناطق المعارضة السورية ومناطق الاحتلال التركي في شمال غرب سوريا فقد تم إلغاء التعامل بالعملة الوطنية السورية نهائياً، وتم استبدالها بالدولار الأمريكي والليرة التركية، ممّا أدّى إلى تدهور الليرة السورية بشكل متسارع ودون ضوابط أو أي نوع من السيطرة عليها.

كان كلّ ما سبق الأسباب المباشرة وغير المباشرة لتدهور العملة المحلية، و”لتزيد من الطين بلة” فقد أقدمت سلطات المركز على طباعة المزيد من الأوراق النقدية، ليس كبدل تالف أو تجديد لعملة قديمة، بل على العكس من ذلك، فقد تمّت إضافة فئات جديدة وفئات أكبر، وهو ما أدّى إلى تسارع في تضخّم الاقتصاد المحلّي، وزيادة الأصفار على فئات العملة، وبدء تصفية تلقائية للفئات الصغيرة، أمّا قانون قيصر والذي تمّت المصادقة عليه أمريكياً ودولياً في كانون أول من العام 2019م، والذي يقضي بفرض حصار اقتصادي على مفاصل الدولة وبعض رموزها، فقد كان بمثابة ضربة أخرى في صميم الاقتصاد السوري عموماً والمواطن المسكين خصوصاً، أمّا ما يحدث خلال السنوات الأربع الماضية الأخيرة فهي بالضبط عملية (دولرة ) للعملة المحلية، والتي تعني استبدال الأوراق النقدية المحلية بالدولار الأمريكي، وبطبيعة الحال فإنّ هذه الخطوة تكون بمثابة الانتحار الاقتصادي للدول، أما بالنسبة لمعظم الدول التي تتبنّى هذه السياسة فهي دول فقيرة وذات اقتصادات متدنّية، وأغلبها يكون من دول القارة الامريكية الجنوبية، وبالتالي؛ فإنّ الدول التي تتّبع هكذا سياسات تخسر استقلالها في السياسة النقدية، وتخسر سلطتها في طباعة النقود المحلية. وإذا ما طرحنا مسألة كيفية مواجهة التضخّم، فإنّه يكمن في عدة إجراءات تقوم بها الدولة أو السلطات الحاكمة في بلد معين، ويمكن ذكرها لا حصرها في: تطبيق السياسة النقدية الانكماشية وذلك بتقليل المعروض النقدي من خلال خفض أسعار السندات وزيادة أسعار الفائدة، ورفع معدل الأموال الفدرالية ويقصد بذلك إقراض الأموال من قبل الحكومة للبنوك بأسعار فائدة أعلى ممّا يضطرها بالتالي إلى رفع معدّلات فائدتها أيضاً وبالتالي التقليل من الطلب عليها، زيادة متطلّبات الاحتياطي، الحدّ من عرض النقود وبالتالي رفع سعر صرف العملة بسبب ارتفاع الطلب، تطبيق السياسات المالية التدبيرية التي تستخدمها الحكومات لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو وتثبيت الأسعار والأجور.

 بقيت لدينا مسألة مهمة أخرى وهي ظاهرة السوق السوداء في صرف العملات، وهي ظاهرة خطيرة بطبيعة الحال، وتعني تبادل العملات الأجنبية بسعر صرف غير رسمي وغير قانوني؛ مما يؤدّي إلى عدم قدرة البنك المركزي السيطرة على سعر الصرف، وبالتالي خلق تشوّهات في النظام النقدي، وخلق مشكلة عجز في الاحتياطي النقدي الأجنبي، بطبيعة الحال تستخدم هذه المبالغ التي يتم جمعها في هذه الأسواق في شراء واستيراد مواد استهلاكية قد لا تكون ضرورية، في حين أنّ البنوك المركزية عادةً على استعداد لبيع العملة الأجنبية لتلبية الطلب على الواردات على بنود هامة مثل الأغذية الأساسية والنفط ومدخلات قطاع التصدير.

بشكل عام لكلّ ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية …الخ جوانب إيجابية وأخرى سلبية، ويبقى الحكم في ذلك لمسألة النسبية، كذلك هو الحال بالنسبة لهذا الموضوع الاقتصادي الهام، والذي يعتبر جزءًا هامًّا من معاناة الناس ومعاشاتهم اليومية، وتبقى الجهات المسؤولة هي صاحبة القرار النهائي في ذلك، وبالتالي تحمّلها أيضاً لتبعية اتّخاذ تلك القرارات.

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

زر الذهاب إلى الأعلى