رسم ملامح اللامركزية في سوريا الجديدة
شرفان سيف الدين

مع انطلاقة ثورات الشمال الأفريقي وثورات الشرق الأوسط، بدأت الكثير من الأقليات القومية والدينية والمذهبية والطائفية بمحاولة لملمة شملها؛ وذلك للمحافظة على خصوصيتها ضمن إمكانية التعايش مع باقي المكوّنات التي تتشارك معها ضمن البلد الواحد، لكن الكثير من الأنظمة والمثقّفين الراديكاليين أو المتزمّتين والمتعصّبين، قومياً أو دينياً، حاولوا تشويه تلك المحاولات؛ من خلال تصويرها على أنّها حالات تمرّدٍ تهدّدُ وحدة البلاد، وأنّها شكل من أشكال التقسيم المباشر أو حتى خطوة أولى نحو التقسيم.
إنّ الفيدرالية أو اللامركزية أو الاتحادية أو الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية أو المجالس والإدارات المحلية أو غير ذلك – أيّاً كانت التسمية – كلّها تُعَدّ شكلاً من أشكال الاحتواء لمكوّن أو مكوّنات المجتمع؛ وذلك عندما تحاول القيادة المركزية احتكار كلّ شيء، مثل القرارات السياسية والقضائية والاقتصادية، وكذلك عند محاولتها التحكّم في معظم أو غالبية مفاصل الحياة ضمن الدولة ومؤسساتها، كما كان النموذج البعثي البائد في سوريا، وكما يحاول النظام المؤقّت حالياً السير على نفس النهج؛ وذلك من خلال ما تتمّ ملاحظته خلال سبعة أو ثمانية الأشهر الماضية، والتي هي الفترة الافتراضية الحقيقية من عمره.
سوريا اليوم تضمّ ما لا يقلّ عن خمس قوميات وأكثر من خمس عشرة طائفة، وهذا دليل على غنى الفسيفساء الجميلة التي تتكوّن منها؛ وبالتالي فإنّه من حق هذه المكوّنات والطوائف والقوميات البحث عن البديل المناسب كأداة وآلية لحماية نفسها ووجودها وكينونتها؛ وعليه فإنّ اللامركزية في هكذا حالة تغدو ضرورة ووسيلة للحماية والاستمرارية، لا غاية للتقسيم والتشرذم والانفصالية؛ كما يحاول المركز أو الطرف الآخر من المثقّفين والمستفيدين تصوّرها وعرضها للجمهور.
سوريا وإسقاط بشار الأسد وحزب البعث:
رغم أنّ الأحداث في سوريا قد بدأت في آذار من العام 2011م، وتواترت تلك الأحداث بشكل دراماتيكي، إلّا أنّها بدأت تتسارع بشكل ملحوظ مع اندلاع الحرب الأوكرانية – الروسية؛ وبعد ذلك أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2023م ما بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة؛ حيث تبيّن فيما بعد أنّ التحضير لإسقاط نظام البعث السوري ورئيسه بشار الأسد كان جزءًا من خطّة أوسع في المنطقة، والأمر متعلّق أساساً ببتر أذرع النظام الإيراني، والذي بدأ منذ الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979م بالتوسّع والانتشار في المنطقة على أساس أيديولوجي وبنفَسٍ اقتصاديّ وهيمنة عسكرية مبطّنة؛ فبعد الضربات القاصمة الإسرائيلية ضدّ الذراع الأولى والأساس لإيران في المنطقة، والمتمثّل بحزب الله اللبناني، وقتل أمين عام الحزب حسن نصرالله الذي كان يمثّل صخرة معنوية قوية لأنصاره؛ جاء الدور بعد ذلك على النظام السوري، والذي كان الهدف الرئيسي من إسقاطه هو قطع الإمداد البرّي ما بين إيران وحلفائها، وقطع شريان التمويل الاقتصادي المتمثّل بعمليات التهريب وصناعة (الكبتاغون) وتوزيعه وانتشاره في المنطقة، خاصةً دول الخليج؛ أما ما تمّ البدء به من محافظة إدلب السورية في الثامن والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام المنصرم، وتوجّه ما باتت تُعرف بـ”غرفة العمليات المشتركة” بقيادة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وإسقاط النظام السوري السابق في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول؛ فما هي إلّا عملية دولية وإقليمية مسبَقة التحضير، وما حدث لم يكن سوى نتيجة لأهداف مرسومة ومخطّطة مسبقاً.
سوريا إلى أين؟
بعد سقوط البعث تأمّل السوريون خيراً ممّن خلف عمّن سلف؛ لكن سرعان ما ثبت العكس تماماً؛ فالقيادة المؤقّتة ذات الخلفية الجهادية والأيديولوجية المتزمّتة لم تتوانَ كثيراً في الكشف عن وجهها الحقيقي، فكان التفرّد بالقيادة أوّل مطبّ وقعت فيه، وفيما بعد تمّ تشكيل الهيئات والوزارات، وانعقد المؤتمر الوطنيّ “الشكليّ” وترسّخت فكرة القائد الأوحد الذي تتمحور وتتركّز معظم أو أغلب القرارات في شخصه؛ من تعيين ثُلث البرلمان عن طريق التزكية من قِبَله، وتعيين القضاة والمحكمة العليا وإعلان حالة الطوارئ وغير ذلك؛ وما كلّ ذلك إلّا إعادة إنتاج لمنتوج سابق أصلاً، ولكن هذه المرّة بشخصية جديدة وراديكالية أكثر.
كانت أحداث الساحل السوري بالنسبة للسوريين بمنزلة الصفعة الأولى على وجوههم؛ حيث التجاوزات غير الأخلاقية وغير الإنسانية، ولم تكن سوى انتقام على أساس طائفيّ، وبعد ذلك جاءت الحرائق التي اجتاحت غابات الساحل، منها ما كان طبيعياً، ومنها ما تبيّن فيما بعد أنّها كانت بفعل فاعل، وتم توثيقها ومدى ارتباطها بغرف استخبارات تابعة لدول إقليمية متحكّمة أصلاً بالملف السوري لدرجة كبيرة جدّاً.
بعد ذلك كان للاستهداف المباشر للطائفة المسيحية ولدور عبادتهم نصيب من كل ما يجري على الساحة السورية، والتي تم تمريرها تحت بند “ممارسات فردية وتجاوزات غير مقبولة” وقوبلت بتصريحات وتنديدات خجولة من قبل القيادات السياسية والعسكرية التي تقود المرحلة الحالية للبلاد.
أمّا ما يجري في الجنوب، وحصراً في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، ومنذ أكثر من أسبوع، وما نجم عنه من مضاعفات أدّت إلى تدخّل إسرائيلي مباشر وخطير؛ حيث استهداف مبنى وزارة الدفاع وهيئة الأركان في وسط العاصمة السورية دمشق، وكذلك استهداف محيط القصر الجمهوري، وإعلان مجلس الأمن الدولي الانعقاد على أثرها، يُعتبَر تطوّراً خطيراً ذا دلالات، ربّما أقلّها عدم إعطاء الضوء الأخضر المطلَق لسلطات دمشق للتحرّك بكامل إرادتها في إدارة البلاد، وأكثرها تنبيههم تنبيهاً شديداً على عدم تجاوز الخطوط الحمر المحدّدة لهم.
إنّ النداء الأخير للعشائر العربية، وكذلك التحشيد الطائفي والعرقي من كامل المحافظات السورية باتّجاه الجنوب والسويداء؛ يُعَدُّ من أكثر الخطوات أو المغامرات غير محسوبة العواقب، ونوعاً من الانتحار الأمني للبلاد على وجه الخصوص؛ وبالتالي فإنّ هذه الخطوة ربما تكون الامتحان الأكثر صعوبة للحكومة المؤقّتة التي تدير البلاد في الوقت الحالي، وهي بذلك ربما تكون أمام أكثر من خيار أحلاها أمرّ من الآخر بكثير، وهي:
- في حال عدم تمكّن الدولة من ضبط ما تُسمّى (فزعة العشائر) فهذا يعني عدم أهلية وزارة الداخلية بشكل مباشر، والقيادة السياسية بشكل غير مباشر، على ضبط البلاد وبسط سيطرتها؛ وبالتالي سقوط هيبتها وأهليتها في قيادة المرحلة.
- إذا ما تم تصنيف هذه القوى (فزعة العشائر) تحت مسمّى “القوى غير المنضبطة والخارجة عن القانون” فإن الدولة ملزمة بمحاربتها بحسب الاتفاقات الإقليمية والدولية التي تفرض على الحكومة الانتقالية إثبات جدّيتها وقوّتها في ضبط الأمور الأمنية على وجه الخصوص في البلاد.
- أمّا إذا ما تبنّت الحكومة (فزعة العشائر) فستكون المصيبة أعظم وأكثر وقعاً؛ إذ يعني أنّ الحكومة لم تستطع الخروج بعد من تحت عباءة الفصائلية، ويعني كذلك تحوّلها إلى قوة حماية وضبط؛ وبالتالي فإنّ عدم خروجها من خط الممارسات الإرهابية وتبنّي الفكر المتطرّف، والتي هي في الأساس تحمل خلفياتها، وبالتالي هناك إمكانية إسقاط الشرعية الإقليمية والدولية المؤقّتة أساساً عنها.
الممارسات الاقصائية هي السبب الرئيس لما يجري:
منذ سقوط النظام البعثي البائد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول من العام المنصرم، تعيش سوريا حالة اللون الواحد، وخلال ما مضى من الوقت لم يستطع النظام الجديد الخروج من تحت العباءة الجهادية المعارضة إلى حالة قيادة الدولة والمؤسسات، وربّما يُعَدّ التعنّت الأحادي في هذه الممارسات نواة وسبباً لكلّ ما يجري اليوم؛ فبدلاً من أن تكون الدولة مظلّة جامعة لجميع المكوّنات والطوائف والاعراق والمعتقدات، فقد تجاوزت كل ما سبق وأصرّت ويبدو أنّها تصرّ على حصر واحتكار السلطة في يد هيئة تحرير الشام وبعض المستفيدين والمتسلّقين والانتهازيين الذي يتقرّبون منها، أمّا التجييش الإعلامي والتحريض المستمرّ على خلق أجواء مشحونة ما بين المكوّنات السورية فتُعَدُّ من أسوأ الحالات في الوقت الراهن، والتي تعبِّر عن مدى التخلّف الثقافي والاجتماعي في إمكانية مشاركة فئات المجتمع المدني في قيادة وبناء المؤسسات على أساس التكنوقراط ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
من الأهمية بمكان أن تعلم القيادة الحالية في دمشق أنّ التفرّد بقيادة المرحلة ربما أكبر حجماً منها؛ وبالتالي فالمشاركة المجتمعية وإشراك جميع المكوّنات ليست حالة إرضاء لهم أو حالة محاصصة سياسية، بل على العكس تماماً؛ فهي ضرورة مرحلية لا بدّ منها، وعليها أن تعلم كذلك أنّ التعنّت والانفراد بالسلطة يجعلها تتحمّل كامل التبعات السلبية الناتجة عن الأخطاء والممارسات التي تتم في ظلها.
ما يجري حالياً على الساحة السورية ما هو إلّا إشارة ودليل على أنّ المركزية الخانقة تُعَدّ من الأخطاء الاستراتيجية في قيادة المرحلة، وعلى النقيض من ذلك تماماً؛ فإنّ اللامركزية – بكلّ تأكيد – لا تعني ضياع البلاد وتقسيمها، بل على العكس تماماً، فربما تكون اللامركزية إحدى الحلول المنطقية المتماشية مع مجريات الأحداث المتسارعة.
خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، والتي هي العمر الحقيقي للأزمة السورية التي عصفت بالبلاد، عاش الشمال السوري بشرقه وغربه حالات من اللامركزية الإدارية في قيادة المجتمعات المحلية؛ فتجربة الإدارة الذاتية – بالرغم من عدم وصولها لحالة الكمالية أو المثالية المطلقة وبالرغم من بعض النواقص وخاصةً في الجوانب الخدمية – تُعَدّ من أهم التجارب التي يمكن الأخذ بها وترسيخها وتقويتها، طبعاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حالات الحصار والتعقيدات السياسية التي مرّت بها تلك التجربة بشكل خاص والمنطقة بشكل عام، كما يمكننا الأخذ بتجربة الحكومة المركزية الحالية في دمشق؛ فهي الأخرى كانت تمثّل شكلاً من أشكال اللامركزية تحت مُسمّى “حكومة الإنقاذ” في محافظة إدلب، وكان يتغنّى بها كثير من الإعلاميين والمثقّفين الذين تحوّلوا حالياً لأبواق على مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية والأستوديوهات التحليلية، وهؤلاء لا ينفكون صباحَ مساءَ عن معاداة وتحشيد خطاب الكراهية تجاه باقي المكوّنات والطوائف التي لم تطالب إلّا بأدنى حقوقها في المحافظة على خصوصيتها.
بناءً على المعطيات على الأرض، وبعد سفك الدماء ما بين أبناء الشعب السوري، ومحاولة بعضهم جرّ البلاد نحو حرب أهلية طويلة الأمد؛ فإنّ اللامركزية هي الحل الأنسب ضمن جغرافية موحّدة، وعلى جميع الأطراف والمكوّنات أن تفهم ذلك للملمة ما تبقّى من سوريا.