احتواء السويداء: غاية لم تُدرَك
وليد الشيخ

المقالة تعبر عن رأي الكاتب
منذ بداية الحديث عن مرحلة ما بعد النظام في سوريا، برزت أسئلة كبرى حول شكل الدولة الجديدة، هوية النظام السياسي، سبل تحقيق العدالة الانتقالية، وضمان عدم تكرار مآسي العنف والانقسام. كان من المفترض أن تكون هذه المرحلة محطة مفصلية، تعيد للسوريين ثقتهم في السياسة، وتفتح الباب لعقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة وحصرية السلاح بيد الدولة. لكن السنوات التي تلت هذا الخطاب المبشر لم تَقد إلى تلك الوجهة، بل فتحت أفقًا معاكسًا، تنامى فيه حضور السلاح خارج الدولة، وتكررت انتهاكات لا تقل فظاعة عن تلك التي سبقت مرحلة “مؤتمر النصر”.
كان هذا المؤتمر يُفترض أن يُؤسّس لمرحلة استعادة الدولة لعافيتها، لكنه تحول إلى محطة شكلية لم تفضِ إلى إعادة بناء المؤسسات، ولا إلى نزع حقيقي لسلاح الجماعات المسلحة. ما حصل، في الواقع، هو إعادة تموضع للقوى نفسها تحت عناوين جديدة. ظلت البنية الأمنية هشة وموزعة الولاءات، وأُعيد إنتاج الفصائل بأسماء أخرى، مع بقاء أدوات القهر والاستثناء قائمة، وإن تغيّر خطابها قليلًا.
تجربة الساحل في هذا السياق بدت أقرب إلى إعادة سيناريو مكرر: وقوع انتهاكات واسعة على أيدي فصائل كانت تُحسب على الدولة، أو على شبكات النفوذ المحلي، تلتها محاولات تهدئة شكلية عبر لجان تحقيق ووعود بمحاسبة الجناة. لكن ذاكرة الضحايا كانت أوسع من قدرة الدولة على طيّ الصفحات. لم يكن هناك مساءلة حقيقية، ولم تتغير آليات التعامل مع السكان، ما جعل تلك المناطق تغلي تحت السطح وتتحول إلى فضاء صامت للعنف الرمزي والاجتماعي.
اليوم، تعود الصورة في محافظة السويداء، لكن بتناقضات أكثر تعقيدًا. فهذه المحافظة لم تكن منخرطة في الصراع المسلح كما هو الحال في مناطق أخرى، كما لم تخضع كليًا لمعادلة النظام – المعارضة، بل حافظت على نوع من الحياد السياسي والمجتمعي، مستندة إلى تاريخ طويل من الاستقلالية والخصوصية الطائفية. ومع ذلك، لم تكن بمنأى عن الانهيار العام الذي أصاب بنية الدولة. تفككت فيها المؤسسات، وتضخمت فيها الشبكات المحلية المسلحة، وتشابكت فيها علاقات المصالح بين العشيرة والدين والسلاح والاقتصاد.
ما نشهده اليوم ليس مجرد انفلات أمني، بل هو تعبير صريح عن فشل الدولة في فهم طبيعة هذه الجغرافيا، وفي إدارة التنوع الطائفي والسياسي ضمن منطق يليق بدولة تدّعي السيادة. بات العنف في السويداء يتغذى من مناخ عام يتداخل فيه خطاب الانتقام مع سرديات الكرامة، ويُوظف فيه البعد الطائفي لتبرير السلاح والانتهاك، فيما تغيب الدولة أو تتدخل حين تستكمل الفوضى مسارها.
الأخطر أن هذا كله يجري في مناخ إقليمي شديد التوتر. فإسرائيل، التي لطالما كانت لاعبًا متحفزًا على الجبهة الجنوبية، بدأت تُعلن مواقفها بشكل أكثر صراحة. لم تعد تهديداتها مقتصرة على الردع العسكري، بل باتت تحمل مضمونًا سياسيًا يتمثل في مطلب نزع السلاح من الجنوب السوري، بذريعة حماية حدودها. أن هذا المطلب لا يبدو معزولًا عن خطاب داخلي بدأ يتنامى في السويداء نفسها، حيث تَبرز دعوات متزايدة لإنشاء نماذج “إدارة ذاتية” أو كيانات تحمي “الخصوصية”، وتطرح تصورات منفصلة عن المركز.
هذا التلاقي غير المباشر بين المطلب الإسرائيلي وبعض الخطابات المحلية لا يعكس بالضرورة تنسيقًا، لكنه يشير إلى فراغ سياسي تملؤه مشاريع متعددة، في ظل غياب مشروع وطني جامع، يضمن العدالة والمشاركة والكرامة للسكان، ويستند إلى الدولة كمؤسسة قانونية لا كمجموعة من الأجهزة الأمنية أو الميليشيات الرديفة.
إن الدولة، كما تظهر في مشهد السويداء، لم تعد تمثل سلطة ضامنة للأمن والاستقرار، بل تحولت إلى طرف يتعامل بانتقائية مع العنف، فتتغاضى عن الانتهاكات حين يخدم الصمت مصالحها، وتتدخل بعنف مفرط حين ترى في بعض التحركات تهديدًا لهيبتها، حتى لو كان ذلك على حساب أرواح المدنيين. وما يزيد من خطورة المشهد أن منطق الضبط الأمني لم يعد يتكئ على القانون، بل على أدوات الطائفية والثأر والردع الدموي، وهي أدوات تَسحب المجتمع نحو مزيد من الانقسام والتشرذم.
فشل احتواء السويداء لا يعود فقط إلى اختلال ميزان القوة، بل إلى غياب رؤية سياسية واضحة تجاه الجنوب السوري. الدولة لم تبذل جهدًا فعليًا لفهم البنية المجتمعية هناك، ولم تُقدم أي مبادرة جدّية تُعالج الأسباب العميقة للتوتر. كما أنها لم تستثمر في المسار التنموي، ولا في استعادة ثقة السكان، بل استمرت في التعامل مع المنطقة كحالة أمنية يمكن إدارتها عبر تسويات ظرفية أو إغراقها في صراعات داخلية.
لا يبدو أن هناك نية حقيقية لبناء علاقة صحية بين الدولة وهذه الجغرافيا. فكل المقاربات المعتمدة حتى الآن تَتراوح بين التهديد واللامبالاة، وبين الشدة في التعامل مع المعترضين، والتراخي أمام العصابات أو شبكات الخطف، ما يعكس خللاً عميقًا في فهم معنى الدولة، وفي تصورها لطريقة إدارة التعدد والتوترات داخلها.
السويداء اليوم تقف عند مفترق حاسم. فإما أن تتحول إلى ساحة مفتوحة لكل المشاريع العابرة، من انتقام داخلي إلى تدخل خارجي، أو أن تبدأ خطوات فعلية نحو عقد جديد، يؤسَّس على احترام إرادة السكان، وتفكيك الشبكات المسلحة، وتقديم مقاربة اجتماعية – سياسية تليق بهذه الجغرافيا العريقة. أما الاستمرار في السياسات الحالية، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من العنف، ولن تفضي إلى احتواء، بل إلى تفكك.
وعليه، فإن غاية “احتواء السويداء” ما زالت بعيدة المنال، لأن أدوات الوصول إليها لم تُبنَ بعد، ولأن من يدير المشهد لا يزال يراها مساحة للضبط لا شريكًا في الوطن، وأمنها شأنًا ثانويًا، لا ركيزة للاستقرار الوطني.
إن استمرار العجز عن احتواء محافظة السويداء لا ينبغي أن يُقرأ كإخفاق محلي معزول، بل كجرس إنذار لسوريا كلها. فما يحدث هناك يُمثّل عينة مكثفة من أزمة العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويكشف عمق الهوة بين السلطة المركزية واحتياجات الناس في الأطراف. حين تتحول الدولة إلى جهة طارئة في حياة مواطنيها، لا تقدم لهم سوى الخطابات أو القمع، فإنها تترك المجال مفتوحًا لكل المشاريع البديلة، من الطائفية إلى الانفصال، ومن التدخل الخارجي إلى الفوضى الذاتية.
وحتى لا تبقى غاية “احتواء السويداء” حلمًا بعيد المنال، لا بد من إعادة صياغة العلاقة مع الجنوب السوري، بما يتجاوز أدوات الضبط الأمني التقليدية. فالحل لن يأتي من مدرعات تدخل لفرض الاستقرار، بل من عقد اجتماعي حقيقي يشعر فيه السكان أنهم شركاء في القرار والمصير، وأن حقوقهم لا تُقايض بهدوء السلاح.
في ضوء ما سبق، تبرز ثلاث نقاط محورية كمدخل لأي استراتيجية فعالة:
أولاً، لا بد من تفكيك البنية المسلحة غير الشرعية، لا عبر المواجهة العنيفة، بل من خلال إدماج تدريجي قائم على تفكيك أسباب وجودها؛ من التهميش الاقتصادي، إلى غياب العدالة، إلى فقدان الثقة.
ثانيًا، تحتاج السويداء إلى خطاب وطني جديد، ينظر إليها ليس بوصفها “قلعة درزية”، ولا “خاصرة رخوة”، بل كجزء أصيل من الوطن، له هواجسه ومطالبه وكرامته، وعلى الدولة أن تصغي لا أن تتوجس.
ثالثًا، على السلطة في دمشق أن تتخلى عن سياسات التوظيف الطائفي والمناطقي، وأن تُقر بأن استمرار الانقسام هو تهديد لبقائها نفسها. فالدولة التي لا تمتلك الجرأة على المصارحة، لن تمتلك القدرة على الاستمرار.
احتواء السويداء ليس غاية مستحيلة، لكنه يتطلب قرارًا سياسيًا يخرج من منطق القهر إلى منطق الشراكة. وفي حال استمر إنكار ذلك، فإن الجنوب لن يصمت طويلاً، ولن يكون معزولًا عن التحولات القادمة في جسد الوطن.
اللحظة الراهنة لا تحتمل الترف النظري، فإما أن تُبنى سوريا على أسس جديدة من التعدد والعدالة، أو تتآكل قطعةً قطعة، فيما تتابع الدولة انكفاؤها عن الجغرافيا، حتى تجد نفسها غريبةً في عاصمتها نفسها.