المركزية القسرية في سوريا إعلانُ حربٍ ضدّ المكوّن الكرديّ والمجتمعات اللّامركزية

د. مرشد اليوسف

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

إنّ إصرار النظام السوري على إعادة فرض النموذج المركزي، دون حوار أو توافق وطني، لا يُعَدّ مجرّد تمسّك بنمط إداري تقليديّ، وإنّما هو في جوهره فعلٌ سياسيّ عِدائي يتجاوز الشؤون الإدارية، ليأخذ طابعًا إقصائيًا ووجوديًا تجاه المكوّنات التي طوّرت نماذج حكم ذاتي بديلة خلال سنوات الحرب، وفي مقدّمتها المكوّن الكردي في شمال وشرق سوريا.

والمسألة هنا لا تتعلّق بالبنية الإدارية فحسب، بل تتعلّق بما تمثّله اللّامركزية من تجسيد لمطالب تاريخية في الاعتراف، والعدالة، والمشاركة المتساوية في صياغة مستقبل الدولة.

وعليه؛ فإنّ الإصرار على المركزية دون أي اعتبار لهذه المطالب، هو رفض سياسي صريح لوجود هذه المكوّنات كشركاء متساوين في الوطن، ويترجم عمليًا إلى ما يشبه إعلان حرب سياسية، وربما عسكرية، على الهوية الكردية وحقوق باقي المكوّنات الإثنية والدينية.

وبالنظر إلى السياق الكردي تحديدًا، فإنّ المشروع القائم على الإدارة الذاتية الديمقراطية لم يعد مجرّد إدارة محلّية، بل بات يمثّل رؤية بديلة للدولة السورية المركزية، تقوم على مبادئ التعدّدية، وحقوق الإنسان، والديمقراطية التشاركية. ومن هنا فإنّ محاولة إسقاط هذا المشروع بالقوة، تعني نسف كل التراكمات السياسية والاجتماعية والثقافية التي نشأت في العقد الأخير، وهو ما يُعَدّ إعلانًا ضمنيًا – بل مباشرًا – لعدم القبول بالوجود السياسي الكردي، وبالتالي إعلان حرب شاملة على هذا الوجود.

والأمر ذاته ينطبق على المكوّنات الأخرى التي انضوت في تجربة الإدارة الذاتية، مثل السريان، والعرب والمكوّنات الأخرى، الذين وجدوا فيها مساحة للتعبير والمشاركة لم تكن ممكنة في ظل مركزية النظام.

وإنّ تجاهل هذه الحقائق يعني استدعاء لصراع هويّاتي واسع، قد يتّخذ طابعًا أهليًا، ليس فقط بسبب فرض السلطة بالقوة، بل لأنّ ما سيتم سحقه فعليًا هو الكرامة السياسية والثقافية والاجتماعية لهذه المكوّنات.

والمسألة لم تعد صراعًا على الموارد أو النفوذ المحلّي، بل صراع على معنى الدولة ومضمونها؛ هل هي دولة فوقية تُدار من مركز يفرض إرادته، أم أنّها دولة تعاقدية قائمة على تقاسم السلطة والمسؤوليات؟!

وإذا ما أصرّ المركز على رؤيته، فإنّ النتيجة الحتمية ستكون تفكّكًا سياسيًا واجتماعيًا يُفضي إلى نزاع أهلي متعدّد الأبعاد.

وتاريخيا لم يشهد النظام السياسي السوري منذ الاستقلال عام 1946، تحوّلًا جادًا نحو نماذج الحكم اللامركزي، رغم التنوّع الإثني والديني والجغرافي الواسع في البلاد.

بل إنّ العقود المتتالية الأخيرة شهدت ترسيخًا متصاعدًا للمركزية القسرية، والتي بلغت ذروتها في عهد حزب البعث؛ حيث باتت الدولة السورية تُدار من قلب العاصمة دون أي تفويض حقيقي للمجتمعات المحلّية.

ولم تكن المركزية في سوريا مجرّد خيار إداري، بل كانت إيديولوجيا شاملة، تقوم على دمج الدولة بالحزب، والسيطرة على المجال العام، وتجريد المجتمعات المحلّية من أدوات اتّخاذ القرار؛ وقد تم ذلك تحت شعارات مثل الوحدة الوطنية، ومحاربة الطائفية، لكنّها عمليًا كانت وسيلة لإقصاء التعدّد وتحقيق الهيمنة السياسية والثقافية.

وهذا السياق جعل أي مطالبة باللامركزية – وخصوصًا من قبل المكوّن الكردي – تُفسَّر على أنّها انفصال أو تهديد للوحدة الوطنية، ما أدّى إلى شيطنة هذه المطالب ومواجهتها أمنيًا وإعلاميًا.

غير أنّ الأزمة السورية التي اندلعت عام 2011، وما تبعها من انهيار جزئي في مؤسسات الدولة، أعادت فتح الباب أمام التفكير بنموذج جديد للدولة، يقوم على اللامركزية، والمشاركة المجتمعية، والتعدّدية السياسية.

وفي هذا السياق؛ شكّلت تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، التي قادها الكرد وانضوت فيها مكوّنات أخرى، تحديًا مباشرًا للمركزية البعثية؛ فقد قدّم هذا المشروع نموذجًا مضادًّا، لا يقوم فقط على توزيع السلطة والخدمات، بل يتضمّن رؤية فلسفية واجتماعية بديلة لمفهوم الدولة والديمقراطية.

وجاءت تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا كردّ فعل على هذا التاريخ الطويل من التهميش والإقصاء، وقد حاولت هذه التجربة، رغم التحدّيات البنيوية والإقليمية والدولية، تأسيس نموذج لامركزيّ ديمقراطي، يقوم على إشراك كل المكوّنات الإثنية والدينية، ويعتمد على مبادئ الفيدرالية المجتمعية، والمساواة الجندرية، وحكم الشعب من الأسفل.

ورغم عدم اعتراف دمشق الرسمي بهذه الإدارة، إلّا أنّ الواقع السياسي والميداني فرض وجودها كلاعب رئيسي لا يمكن تجاهله في مستقبل سوريا.

لاشكّ في أنّ إصرار النظام السوري الجديد على إعادة فرض النموذج المركزي بعد أكثر من عقد من الحرب والانهيارات يُعَدّ تحدّيًا صارخًا ليس فقط لتجربة الإدارة الذاتية، بل لكل مكوّنات المجتمع السوري التي تطالب بالعدالة والشراكة؛ ويمكن أن يُترجم هذا الإصرار عمليا كإعلان حرب سياسية وهوياتية على المكوّن الكردي، الذي يرى في الإدارة الذاتية تعبيرًا عن تطلّعات تاريخية في الاعتراف والمشاركة. وفي الوقت نفسه؛ يشكّل هذا الإصرار رفضاً لوجود المكوّنات الأخرى (مثل السريان، التركمان، العرب في الجزيرة والفرات) في معادلة الحكم، باعتبارها مجرّد أطراف هامشية. وهو تهديدٌ مباشر بتحويل النزاع السياسي إلى صراع أهلي، خصوصًا مع وجود القوة العسكرية المنظّمة (قسد) التي ترى في الحفاظ على منجزات الإدارة الذاتية مسألة وجودية.

وإذا ما أصر النظام على تطبيق النظام المركزي بالقوة، فإنّ السيناريوهات قد تتراوح بين:

 اندلاع صراع مسلّح بين دمشق والإدارة الذاتية، وهو ما تطمح إليه الدولة التركية بعد فشلها في الحصول على الضوء الأخضر لاجتياح عسكري بربريّ لمناطق الإدارة الذاتية ومنع بناء نظام ديمقراطي تعدّدي في سوريا؛ كون الإدارة الذاتية هي صاحبة المشروع الديمقراطي وهي الطرف الأقوى في المعادلة السورية.

 والتفكّك الاجتماعي والهويّاتي داخل المجتمع السوري، وشعور الكرد والمكوّنات الأخرى بأنّهم ليسوا شركاء في الوطن.

وتدويل الأزمة عبر تدخّل أطراف دولية لحماية مناطق الإدارة الذاتية، وهو ما سيفاقم الأزمة السورية؛ ولتفادي هذا السيناريو المأساوي ينبغي وجود حوار وطنيّ شامل، يعترف باللامركزية كحق دستوري، ويضمن لكل المكوّنات موقعًا فعّالًا في مؤسسات الدولة. ويمكن أن تتجسّد هذه الصيغة في:

  • دستور جديد قائم على الفيدرالية أو اللامركزية السياسية الديمقراطية
  • مجلس أعلى للحكم المحلّي يضمّ ممثّلين عن الأقاليم والإدارات.
  • توزيع عادل للثروات والموارد، يراعي الخصوصيات الجغرافية والثقافية.

وبتصوّري؛ إنّ اللامركزية المنشودة لم تعد مطلبًا محلّيًا فحسب، بل ضرورة وطنية لبقاء سوريا ككيان سياسي موحّد.

أمّا الاستمرار في التمسّك بالمركزية القسرية، فيعني عمليًا إعلانَ حربٍ على المجتمعات المحلّية، وعلى رأسها المكوّن الكردي، ويفتح الباب أمام تفكّك الدولة وتحوّلها إلى ساحة صراع أهلي وإقليمي دائم.

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush