السياسة الإيرانية وما آلت إليه
عبدالرزاق علي

المقالة تعبر عن رأي الكاتب
مع وصول الإسلام السياسي الى سُدّة الحكم عام ١٩٧٩اتّبعت إيران الأيديولوجية الإسلامية بموجب دستور جديد كُتب عام ١٩٧٩ وعُدّل عام ١٩٨٩ وحدّد النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي لجمهورية إيران الإسلامية، معلناً أنّ الإسلام هو الدين الرسمي، والشيعة الإثنا عشرية هو المذهب الرسمي للبلاد. يضع الدستور الإيراني (الوليّ الفقيه) أو المرشد الأعلى في رأس الهرم للنظام السياسي للدولة الإيرانية، وهو الجهة المخوّلة للإشراف على سير السلطات الثلاث في البلاد، إلّا أنّ مجلس الشورى الإسلامي هو الجهة المشرفة والمسؤولة دستورياً عن سنّ القوانين والتشريعات، بينما رئاسة الجهورية هي الجهة المنفّذة لتلك القوانين.
هذه التركيبة السياسية هي ظاهرة فريدة ونادرة في العالم؛ أي أنّ الأمور، الكبيرة منها و الصغيرة، تصدر وترجع إلى فكر الوليّ الفقيه الذي يستلهم بصيرته وحكمته من لقاءاته المستمرّة بالإمام الغائب.
على الصعيد الداخلي
لعب الدين دوراً أساسياً في صنع القرار وفي رسم السياسات الداخلية والخارجية، كما منح دوراً اساسياً للحرس الثوري والباسيج وأنصار حزب الله، والتي عملت دون كل أو ملل على قمع احزاب المعارضة والتنكيل بهم وزجّهم في غياهب السجون؛ تدخّلت هذه القوى في كل مناحي الحياة، بدءاً من حقوق المواطنة وحرية الإعلام والرأي، ومنعت الناس من التحدّث بلغاتهم، ومن ممارسة طقوسهم القومية، وحاربت كل مظاهر الحياة للقوميات الأخرى وكتمت أفواههم وضيّقت عليهم ظروف الحياة، وتدخّلت حتى في لباسهم ليكون في قوالب إسلامية. وحدثت الإعدامات ولاتزال، وتمّ قمع المظاهرات بالحديد والنار، وحادثة (مهسا/جينا أميني) هي من أبرز حالات الاضطهاد والتمييز، ناهيك عن الفقر والحرمان وضيق العيش والعزلة؛ تلك هي السياسة الداخلية للحكومة الإيرانية التي حكمت البلاد بالقبضة الأمنية.
أمّا على صعيد السياسة الخارجية:
إنّ إيران تتمتّع بموقع استراتيجي هام في الشرق الأوسط وآسيا، فهي ذات أهمية قصوى إقليمياً ودولياً؛ لكن بوصلة السياسة الخارجية قد انحرفت وتراجعت وانحسرت وتوقّفت كلّياً في الوقت الراهن؛ ومردّ ذلك إلى أسباب كثيرة، منها داخلية ومنها خارجية، ومنها إقليمية ودولية، واقتصادية وعسكرية، وعلى سبيل المثال:
أولا: لتعزيز وتحصين موقعها عالمياً؛ لجأت إيران إلى بناء المفاعلات النووية بغية الوصول إلى القنبلة النووية لتصبح دولة نووية أمبراطورية إسلامية في مصافي الدول النووية؛ وهو الأمر الذي تخشاه الدول الإقليمية ودول الخليج وإسرائيل وأمريكا وأوروبا.
هذه هي العقلية المتخلّفة؛ والخوف كل الخوف من امتلاك إيران للقنبلة النووية في يوم ما؛ فذلك من شأنه أن يهدّد السلام الإقليمي والدولي.
ثانياً: استنفذت أيران كل طاقاتها الاقتصادية سواء في الداخل؛ مثل بناء هذه المفاعلات، وإهمال الناس وحرمانهم من أدنى أسباب العيش والحياة. أو في الخارج؛ حيث أسّست وزرعت أذرعها في فلسطين وسوريا ولبنان واليمن، وأغدقت عليها المال على حساب الشعب الإيراني، ودعمتها بالسلاح لعرقلة مَن يقف في وجهها، لتتفرّغ للوصول إلى السلاح النووي.
ثالثاً: فشلت إيران فشلاً ذريعاً في بناء علاقات استراتيجية مع الدول القوية، وكانت علاقاتها اقتصادية ومرحلية.
رابعاً: تدخّلت إيران في شؤون الدول الإقليمية من خلال نشاطاتها الخبيثة؛ الأمر الذي أثار سخط واستنكار هذه الدول.
خامساً: معاداتها لإسرائيل وادّعائها أنّها ستمسحها من الخارطة تحت شعارات دينية مزيّفة؛ الأمر الذي أثار حفيظة إسرائيل ومن ورائها أمريكا والدول الأوروبية.
كل هذه الممارسات في الداخل والخارج تكدّست وتراكمت وانفجرت وانعكست على إيران بشكل مباشر؛ ومن أهمّ نتائجها:
١- فشلت إيران في “طوفان الأقصى” فشلاً ذريعاً، وهذا هو الإخفاق الأول.
٢- قُضِي على حزب الله، ذراعها الأهم، كما قُضي على ترسانتها العسكرية وصفوة قاداتها، وأصبحت أثراً بعد عين، وعادت سيادة لبنان، وهذا هو الاخفاق الثاني.
٣- مُنيت بهزيمة نكراء في سوريا، وتبخّرت ميليشياتها وتلاشت مشاريعها (الهلال الشيعي) وسقط بشار الأسد بشكل مفاجئ؛ وهذا هو الإخفاق الثالث.
٤- والإخفاق الأخير هي الضربات القاصمة التي شلّت حركة الحوثيين وحجّمتهم؛ وهذه هي المحطة الأخيرة لإخفاقاتها.
وأخيراً بقيت إيران وحيدة معزولة، وهمّها هو مركزيتها ومفاعلها النووي، لكن يبدو أنّها لن تفلت من العقاب؛ فهي الآن تحصد ما زرعته، وتنتظر ما ستؤول إليه. وصلت إيران إلى مرحلة اللاعودة؛ حيث لم يعد هناك أمامها أيّ هامش للمناورة أو المفاوضات من أجل الملفّ النووي، وقد ضحّت بالغالي والنفيس؛ فهي الآن أمام خيارَين لا ثالث لهما إمّا مرحلة الوجود أو العدم، وإسرائيل أيضاً وصلت إلى قناعة تامة بأن هذه المرحلة هي مرحلة وجود أو لا وجود بالنسبة لمستقبل دولة اسرائيل ومن ورائها الدول الغربية وأمريكا وأوروبا.
وحتى تركيا – وإن راوغت – فإنّها تخشى أن تكون هي المحطّة الثانية على طريق التغيّرات في خارطة الشرق الأوسط الجديد كما هو واضح، فالحرب على أشدها ما بين إيران وإسرائيل كمحصّلة للسياسة الرعناء التي تبنّتها إيران، ونتائجها الخراب والدمار للبنية التحتية الإيرانية، وتخريب ما بنته خلال عقود، وما حلمت به للوصول إلى النووي استنزِف بالضربة الاستباقية من خلال تدمير كافة دفاعاتها الجوية ومنصات إطلاق الصواريخ ومفاعلاتها مثل نطنز وأراك وفوردو وغيرها من المنشآت الخاصّة بتخصيب اليورانيوم والبلاتونيوم، كما قُتل قاداتها من الصف الأول؛ فإيران مخترقة وبامتياز، ولديها ثغرات وخلخل أمني كبير، وهذه هي نتيجة لسياساتها الداخلية، والأكثر فظاعة هي قتل العلماء.
أمّا على الضفة الأخرى فقد تمّ إلحاق الأذى والدمار كبير بالمنشآت الإسرائيلية، العسكرية منها والمدنية، كما تسبّبت هذه الحرب بخسائر اليومية، وتزداد يوماً بعد يوم؛ فإسرائيل مستمرّة في تنفيذ مخطّطها ولن تتراجع عنه، فيبدو أنّها لن تتوقّف حتى تُزيِل أي أثر للمفاعلات النووية، وبعد هذا المخاض سوف تتبلور تحالفات جديدة وخرائط جديدة وتختفي دول وتنشأ دول أخرى.
أمّا إيران فتقاوم بكل ما لديها من صواريخ ومسيّرات، وقد فُرِض عليها واقع لا تستطيع سوى أن تستمرّ فيه، لكن السؤال يبقى: إلى أية درجة ستبقى إيران صامدة في وجه العاصفة؟
الأمر الذي أتوقّعه هو إمّا أنّها ستنهار في لحظة فارقة، أو أنّها ستذعن لشروط أمريكا بالاستسلام ولو بعد حين. وهذه هي النتيجة النهائية للممارسات السياسية الخاطئة وهذا هو ما آلت إليه تلك السياسات.