ماهية أزمة سقف الديون الامريكية

شرفان سيف الدين

الدين بشكل عام يأتي من عملية الشراء بدون أن يتم التسديد الكامل للمبلغ، ويمثل تكلفة المشتريات التي تتجاوز المبلغ المدفوع عجزاً، وبالتالي فإن العجز المتراكم بمرور الوقت يؤدي إلى إجمالي الديون، وهذا ما جرى مع الحكومات الأمريكية المتعاقبة فهي تنفق أكثر من معدلات إيراداتها، فبحسب آخر الإحصائيات لصندوق النقد الدولي تجاوزت الديون العالمية حاجز ال 97 تريليون دولار أمريكي، وأكد الصندوق بأن هذه الديون تعادل 94.4 % من الناتج العالمي. وبطبيعة الحال كان لهذا العجز تداعيات على عجز الميزانيات الحكومية وذلك بتجاوزها نسبة ال 4.9 % لغايته، أما حصة الأسد من هذه الديون فهي بطبيعة الحال للولايات المتحدة الأمريكية برصيد 31.8 تريليون دولار أمريكي. وإذا ما عرفنا سقف الدين الأمريكي فإنه يمكننا القول بأن سقف الدين الأمريكي يعني إنه بإمكان الحكومة الفيدرالية اقتراض الأموال عند حد معين بحيث لا يتجاوز سقف الدين المسموح به لدفع فواتيرها، أي تكاليف الموظفين الفيدراليين والجيش والضمان الاجتماعي والرعاية الطبية وفائدة الديون الوطنية….الخ. بشكل عام فإن إيرادات الحكومة الأمريكية أقل من نفقاتها ولذلك بدأ الكسر أو العجز في ميزانيتها منذ البداية أي مع نشوء حكومة الاستقلال، وبدأت بالتزايد كما كرة الثلج مع مرورها بالحرب الأهلية من عام 1961 – 1965م،  وحتى بدايات الحرب العالمية الأولى، مروراً بالكساد العالمي العظيم سنة 1929م، وهكذا مروراً بالحرب العالمية الثانية، ومروراً بالحرب الباردة، فقد انفقت الولايات المتحدة المليارات على ميزانية الدفاع، أما حربا أفغانستان والعراق الأخيرة فقد كانت لهما الوقع الأكبر في الفجوة العميقة وزيادة حجم الدين العام، وما زاد الطين بلة ما بين عامي 2008م – 2009م الأزمة الاقتصادية الخانقة التي مر بها العالم بشكل عام وخاصة بعض الدول الأوربية التي تضررت بشكل مباشر منها مثل اليونان واسبانية، وبطبيعة الحال لم تكن الولايات المتحدة بمأمن منها فكانت أيضاً إحدى الأسباب في زيادة الدين ورفع سقفه، وكان عام 2020م سنة كبيسة على العالم بشكل مجمل فقد كان لفيروس كورونا الأثر الأبرز على الاقتصادات العالمية، فقد توقفت عجلة الاقتصاد بشكل فجائي مما أدى إلى تعطل المصالح العالمية وانهيار الاقتصادات بشكل عام، أما ما نعيشه اليوم من حرب روسية أوكرانية  فلا يخفى على أحد مدى تأثيرها المباشر على الاقتصادات العالمية وخاصةً الأوربية والغربية.

من يرفع سقف الدين الأمريكي كيف ومتى ولماذا؟

رفع سقف الدين الأمريكي أول مرة مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، والذي يحدده بطبيعة الحال هو الكونغرس الأمريكي، وقد تم رفعه منذ 1960م أكثر من ثمانين مرة لغايته، ورفع السقف يعني بما معناه أنه لا يجب على الحكومة أن تقترض أكثر من هذا الحد. ويمر بعدة مراحل لا بد منها ولأن الدين العام الأمريكي متعلق بالاستقرار الاقتصادي العالمي فأنه لم يتم التخلف عن الدفع أبداً لغايته، لأن ذلك متعلق بإعلان الولايات المتحدة الأمريكية ل إفلاسها مما سيؤدي إلى حالة فوضى في الأسواق العالمية، وذلك لأن بعض الدول العالمية أصبحت احتياطاتها تترادف وتترابط ما بين الذهب والعملة الخضراء (الدولار)، وعليه فإن الحكومات الأمريكية تأخذ بعين الاعتبار أن أي خلل في المنظومة الاقتصادية أو مسألة الدين العام الأمريكي سيكون له تداعيات وآثار جانبية سلبية بالمطلق.

وفي الأحوال العادية يكون هناك صراع ما بين الحزبين الحاكمين الديمقراطي والجمهوري، لكن بشكل عام لا يكون هناك تعقيد في رفع السقف عندما يكون الجمهوريون في البيت الأبيض، أما ما حدث قبل أيام مع الرئيس الحالي والكونغرس هو أنه كان من ضمن الشروط المقدمة للرئيس بأن يتعهد بخفض معدلات الإنفاق الحكومي حتى يتم التصويت لرفع سقف الديون من قبل النواب الجمهوريين وفي المقابل هناك بعض الأفكار لإلغاء سقف الدين من أصله ويتبنى المبررون لهذه الفكرة بان النقاشات المتكررة في الكونغرس تزيد من حالة التشكيك لدى الغير، حتى وانهم يطرحون بعض الافكار الموازية لذلك، بسك عملات بلاتينية بقيمة تريليون دولار، أو اصدار سندات مميزة وبفائدة أعلى، وذلك لجذب المستثمرين للشراء وبالتالي توفير السيولة النقدية للحكومة متى ارادت.

طباعة الاوراق النقدية (الدولار) والعلاقة بالتضخم:

مما لا شك فيه أن حالة عدم الاستقرار في العالم تعتبر من مصلحة الدول الرأسمالية بالدرجة الأولى وذلك لأنه في حالات عدم الاستقرار يقوم أصحاب الثروات الكبيرة من البلدان النامية بتهريب أموالهم للدول الأكثر أماناً، مما يزيد في انتعاش النمو في الاقتصادات المستقبلة لهذه الأموال ويعتبر الدولار الأمريكي العملة الأولى عالمياً في التبادلات التجارية، وذلك بحسب اتفاقية (بريتون وودز) والتي عقدت في 22 يوليو تموز من العام 1944م، حيث حدد فيها سعر أوقية الذهب ب 35 دولاراً، اما قرار طباعة الدولار فيتشارك فيها أربعة جهات رئيسية وهي: البيت الأبيض، ومجلس النواب والشيوخ، ووزارة الخزانة، والمجلس الاحتياطي الفيدرالي. حيث يعتبر هذا الأخير بمثابة البنك المركزي وهو الذي يعطي أمر طباعة (البنكنوت أو الكاش أو السيولة النقدية) إلى وزارة الخزانة في عملية متوازنة ودقيقة. ويزيد الطلب على السيولة في الأزمات ما يفيد لجهة التضخم الذي يتم توزيعه على جميع حاملي الدولار وبذلك لا يتأثر سعر الصرف، كما وأنه يرتبط بتقديرات الاحتياطي الفيدرالي لمعدل التضخم ومستوى الطلب، ففي حال بيع السندات يتم رفع سعر الفائدة مما يؤدي إلى التضييق وبالتالي لا حاجة إلى عملية الطبع، والعكس صحيح ففي حال شراء السندات يتم خفض سعر الفائدة مما يؤدي إلى التوسع وبالتالي الحاجة إلى عملية الطبع. ففي بداية الأزمة الاقتصادية سنة 2008م كانت سياسة طبع الدولار جزءاً من عملية الانعاش الاقتصادي، فقد كانت الفكرة المطروحة من قبل الاقتصاديين الذين تبنوا هذه الفكرة هي أنه: عليهم طباعة كميات من البنكنوت أي السيولة النقدية وإقراضها للبنوك وبالتالي فإن البنوك سوف تقرض الأشخاص وهؤلاء الأشخاص بدورهم سوف يصرفون هذه الأموال مما يؤدي إلى تحريك عجلة الاقتصاد ودوران السيولة النقدية.

العولمة والانفتاح الاقتصادي والاستثمار الخارجي:

مما لا شك فيه إننا أصبحنا نعيش ونتعايش مع هذا التطور الهائل للتكنولوجيا وسرعة وصول المعلومة والخبر، بغض النظر عن صحة المعلومة من عدمها أو مدى أوجه المصداقية فيها، وأصبحت أسواق المال هي المتحكمة في اقتصادات الدول فمع افتتاح هذه الأسواق أصبحت بعض الدول تزداد غنى وترفاً وعكس ذلك بالنسبة للبعض الآخر، فالعولمة فتحت آفاق العمل الحر في الأسواق العالمية، فلم يعد خافياً على أحد أن الثقة في الدولار كورقة تداول هي اتفاق الجميع فيما بينهم على أنها ذات قيمة وفئة معينة، وإن قدرتها الشرائية تكون بحجم هذه القيمة أو الفئة أو تلك، وعليه يتم تحديد القدرة الشرائية وتم اعتمادها كعملة دولية وخاصة بالتداول ما بين الدول وربط اقتصادات بعض الدول معها بالتوازي مع الربط بالذهب. وبالتالي فان دخول الأموال من الدول المتقدمة اقتصادياً وصناعياً إلى الدول الأقل تقدماً والتي يكون فيها نسب البطالة مرتفعة يؤدي إلى زيادة في الانتاجية وبتكلفة أقل، ذلك لأن ارتفاع الاسعار تأتي من ارتفاع تكلفة الانتاج، وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن مدخلات الإنتاج ثابتة بالنسبة لجميع الدول من مواد أساسية أو أولية داخلة في العملية الانتاجية، لكن بالنسبة للأجور والرواتب فإن معدلات البطالة العالية تكون احدى الأسباب الرئيسية في خفض قيمتها وبالتالي فإن الاستثمار في هذه البلدان تؤدي إلى زيادة الربحية للبنوك المستثمرة فيها والتي تكون بالأساس مقترضة تلك الأموال بربحية تكاد تكون صفرية، وبالتالي عائد الربح سيكون مرتفعاً.

إننا نلاحظ في الصراعات الحديثة أن للاقتصاد الدور الأبرز على سقوط حضارات ودول وإن المنافسة في النفوذ والسيطرة تتمدد عبر الوسائل الاقتصادية اكثر من الحرب الكلاسيكية والسيطرة العسكرية المباشرة كما في السابق، إن تمدد التنين الصيني اقتصادياً وفي جميع دول العالم ما هو إلا دليل على الموديل الجديد لهذا الصراع والنفوذ وعليه فإن الولايات المتحدة وكقوة عسكرية واقتصادية أولى في العالم إذ تتحسس وتحاول العرقلة لهذا التيار او التوجه، لم يعد خافياً على أحد اننا مقبلون على تغييرات عالمية خلال الربع القرن القادم بكل تأكيد وهذا يتطلب الكثير من الحذر في كيفية الاستثمار الحالي للمواد المتاحة وإمكانية استدامتها وتواكب التطور والحداثة وإمكانية الاستفادة بالشكل الأمثل للعلاقات في خلق اقتصادات مستدامة وقوية.

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

زر الذهاب إلى الأعلى