سوريا بين حلم اللّامركزية وشبح المركزية

د. مرشد اليوسف

د.مرشد اليوسف

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

في كل مرحلة جديدة من التاريخ السوري، كان الأمل معقودًا على أن تُطوى صفحة الماضي، وأن تُفتَح نافذة جديدة على مستقبل يتّسع لكل السوريين. وهكذا كان الشعور بعد التغيير السياسي الأخير وصعود السيد أحمد الشرع إلى سدّة الحكم؛ حيث ظنّ كثيرون أنّ البلاد تسير نحو إصلاح ديمقراطي حقيقي، وأنّ مظالم المكوّنات المهمَّشة، وعلى رأسها المكوّن الكردي، ستجد طريقها إلى المعالجة. غير أنّ رياح الواقع، كما يبدو، لا تزال تهبّ من نوافذ الماضي، حيث يُعاد إنتاج المركزية والإقصاء بثوب جديد، وإن اختلفت الوجوه والشعارات.

لا شكّ في أنّ سوريا قد مرّت، خلال العقود الماضية، بتجربة قاسية من التسلّط السياسي، وحكم الحزب الواحد، والقائد إلى الأبد، والأجهزة الأمنية. ومع اندلاع الحراك الشعبي عام 2011، بدا أنّ باب التغيير قد فُتح، لكن انهيار الدولة المركزية لم يؤدِّ إلى بناء بديل تشاركي متماسك، بل على العكس من ذلك؛ فقد دفع إلى تفكّك الجغرافيا السياسية.

ومع صعود السيد الشرع إلى سدّة الحكم، ظهر خطاب جديد يحمل وعودًا بالدولة المدنية والمواطنة المتساوية، ولكن دون أي خارطة طريق واضحة تعترف بالتعدّد القومي والثقافي والاجتماعي. بل إنّ كثيرًا من المؤشّرات تُظهِر أنّ الدولة تميل نحو إعادة تمركزها حول النمط البعثي القديم، لا سيّما في رفض الاعتراف بتجارب الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، والتمثيل السياسي للمكوّنات غير العربية.

وضمن هذا السياق؛ يُعَدّ المكوّن الكردي من أكثر المكوّنات التي عانت من التهميش والحرمان في سوريا، سواء على مستوى الهوية أو الحقوق الثقافية والسياسية؛ فمنذ خمسينيات القرن الماضي، رافقت الكرد سياسات تعريب قسرية، مثل الإحصاء الاستثنائي، والحزام العربي، وصولًا إلى الحرمان من اللغة والتعليم والتمثيل السياسي.

واليوم، وبعد تجربة الإدارة الذاتية التي وفّرت للمجتمع الكردي (وللمكوّنات الأخرى) مساحة للمشاركة والحكم المحلّي، فإنّ موقف حكومة الشرع من هذه التجربة يكشف نزعة خطيرة نحو تجاهل هذا الإنجاز، بل وتجريمه تحت ذريعة الحفاظ على وحدة الدولة؛ فسياسات الإقصاء الحالية لا تختلف كثيرًا عن سابقاتها، بل تستمرّ في نفي أي حضور كردي مستقلّ أو شراكة حقيقية في القرار؛ وهو ما يُنذر بتكرار الأخطاء نفسها التي قادت إلى الانفجار السوري.

والحقيقة أنّ ما يحدث اليوم ليس مجرّد خلاف سياسي، بل هو صراع بين نمطَين في بناء الدولة: نمط مركزي هرمي، يرى في المركز مصدرًا وحيدًا للشرعية والسلطة، ونمط تشاركي لا مركزي، يعترف بالتعدّد، ويوزّع السلطة وفق مبادئ العدالة والتمثيل.

ورفض حكومة الشرع الاعتراف بتعدّد البُنى الإدارية، أو مشاركة الكرد والعرب والسريان والآشوريين في صياغة مستقبل الدولة، إنّما يحمل ملامحَ ديكتاتوريةٍ ناعمة، تتخفّى وراء لغة الإصلاح، لكنّها تُعيد إنتاج آليات التسلّط القديمة. والمركزية ليست مجرّد خيار إداري، بل هي أداة إقصاء سياسي عندما تُستخدم لنفي الآخر وكبح تطلّعات الشعوب إلى المشاركة والتمثيل، خصوصًا بعد حرب طاحنة دفعت كل المكوّنات ثمنها.

إنّ إقصاء المكوّنات، وخصوصًا الكرد، لا يؤدّي فقط إلى شعور بالظلم، بل يهدّد النسيج الوطني، ويؤدّي إلى هشاشة الانتماء الوطني؛ فعندما تُقصى مجموعة ما من القرار والهوية، فإنّ ذلك يُضعِف شعورها بالانتماء؛ وهو ما قد يؤدّي إلى انفجارات مستقبلية، بل يؤدّي إلى تراجع الثقة في الدولة، وتحوّل المجتمعات المحلّية نحو نماذج بديلة في التنظيم والإدارة.

وإذا ما كانت سوريا تريد الخروج من دوّامة العنف والانقسام، فإنّها بحاجة إلى إعادة تعريف الدولة، لا على أساس هيمنة المركز، بل على أساس عقد اجتماعي جديد، يضمن اللامركزية السياسية والإدارية كضامن للاستقرار، والاعتراف بالتعدّد القومي والثقافي واللغوي، ومشاركة المكوّنات في كتابة الدستور وصياغة السياسات، واحترام تجارب الإدارة الذاتية القائمة كجزء من الحلّ، لا كخطر يجب القضاء عليه.

وينبغي أن يعرف الجميع أنّ سوريا لن تنهض إلّا بجميع أبنائها، وأنّ تجاهل حقوق المكوّنات، وعلى رأسها الكرد، ليس مجرّد خطأ سياسي، بل هو تفريط بمستقبل سوريا؛ إذ لا أمن دون عدالة، ولا استقرار دون شراكة، ولا وحدة دون اعتراف. وإذا ما أراد السيد أحمد الشرع أن يسجّل اسمه في تاريخ سوريا كقائد للمرحلة الجديدة، فعليه أن يختار بين أن يكون صدىً لماضٍ مركزيّ متسلّط، أو أن يكون مؤسِّسًا لدولة تشاركية تُبنى على التعدّد والاعتراف المتبادَل.

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush