هيكلة الجيش السوري الجديد.. تهديدٌ لتأسيس جيش وطنيّ أم تدويرٌ لأدوات الصراع؟!

د. مرشد اليوسف

 تواجه سوريا، في أعقاب حربٍ مدمِّرة ومعقَّدة، معضلة مركزية تتعلّق بكيفية إعادة بناء مؤسساتها، لا سيّما المؤسسة العسكرية التي تفكّكت بفعل الصراع وتحوّلت إلى تشكيلات طائفية وميليشياوية.

ومن بين التحدّيات المطروحة اليوم، يبرز ملف المقاتلين الأجانب، وعلى وجه التحديد مقاتلي الإيغور والتركستان، الذين استقرّوا في مناطق شمال غرب سوريا، واندمجوا في بعض الفصائل الإسلامية المسلّحة.

وجود هؤلاء المقاتلين الأجانب في سوريا لم يعد مجرّد تفصيل عابر ضمن مشهد الصراع، وإنّما تحوّل إلى عنصر بنيوي في تركيبة الفصائل المتنازعة، وأصبح امتدادًا للتداخلات الخارجية، خاصة بعد أن وجدوا موطئ قدم لهم في الشمال السوري، لا بوصفهم لاجئين أو نازحين، بل بوصفهم قوة عسكرية عقائدية لها أجنداتها العابرة للحدود.

 ولكن سرعان ما تحوّل هذا الوجود من حالة جهادية متحرّكة إلى نمط استيطان مقاتل، خاصة في مناطق مثل جسر الشغور وأرياف إدلب، حيث استقرّت آلاف العائلات، وسط تقارير عن طرد سكان محلّيين واستيلاء هؤلاء المقاتلين على ممتلكات السكّان المطرودين، وهو ما يمثّل تغييرًا ديمغرافيًا مؤدلجًا.

 معظم هؤلاء ينحدرون من منطقة شينجيانغ الصينية، وقد قَدِموا إلى سوريا ضمن موجات الهجرة الجهادية المعروفة، مدفوعين بخطابات دينية وأيديولوجية تعبّر عن مظلومية مسلمي الإيغور وتعرّضهم للاضطهاد في الصين.

وقد ساهمت شبكات دعم خارجية (تركية، قطرية، خليجية) في تمكين هؤلاء المقاتلين ماليًا ولوجستيًا، وفي تحويلهم من حالة طارئة إلى كيان دائم يخترق مبدأ السيادة الوطنية السورية.

وفي الوقت الذي يتحدّث فيه بعض الفاعلين المحلّيين عن دمج هؤلاء المقاتلين في التشكيلات العسكرية الجديدة، تتصاعد المخاوف من تحوّل هذا الخيار إلى عائق حقيقي أمام تأسيس جيش وطني جامع، وأمام إعادة إنتاج الصراع تحت غطاء الدولة.

ويمكن فهم وجود المقاتلين الإيغور والتركستان في سوريا ضمن سياق أوسع يُعرف في أدبيات الصراع بـ “الهجرة الجهادية”، أي انتقال جماعات مؤدلجة دينيًا من مواطنها الأصلية إلى مناطق النزاع بهدف نصرة المستضعفين (حسب رأيهم) أو إقامة شرع الله، بحسب سردياتهم.

لكن سرعان ما انزاح هذا الحضور من الخطاب الطوباوي إلى الممارسة السياسية والعسكرية الفعلية، ليتحوّل إلى مشروع استيطانيّ مقنّع، خاصة في مناطق مثل جسر الشغور؛ حيث تشير تقارير إلى استقرار الآلاف من هذه العائلات، وتملّكها لمنازل وأراضٍ هُجِّر منها سكانها الأصليون.

هذا التحوّل يحمل دلالات خطيرة، إذ يخرق مبدأ السيادة السكانية الذي يفترض أن تكون الدولة مسؤولة عن تنظيم وجود الأجانب وفق القوانين والمواثيق، لا وفق التوازنات العسكرية المؤقّتة.

ويُعَدّ الجيش – في أيّة دولة – مؤسّسة سيادية تعكس هوية الدولة ومجتمعها وتطلّعاتها المستقبلية، والجيش – في أيّة دولة – ليس مجرّد مؤسّسة أمنية، بل هو تعبير عن العقد الاجتماعي والهويّة الوطنية. ودمج مقاتلين غير سوريين، لا صلة لهم بالجغرافيا أو التاريخ أو المجتمع السوري، يشكّل انتهاكًا لهذا العقد.

وتبرز في هذا السياق عدّة إشكاليات، من أبرزها:

غياب الولاء الوطني وانعدام التجانس الثقافي واللغوي والارتباط بالشبكات الخارجية؛ فولاء مقاتلي الإيغور والتركستان غالبًا ما ينتمي إلى مشروع الأمة الإسلامية لا إلى الدولة السورية.

وقد تُستخدَم هذه المجموعات كورقة ضغط إقليمية؛ وهو ما يصعّب عمليات الدمج والتدريب والتواصل العملياتي.

وبذلك، فإنّ أي مشروع لبناء جيش سوري تُدمَج فيه هذه الفئات سيؤدّي إلى تفخيخ البنية الوطنية.

وهنا يتجلّى التناقض السوسيولوجي والسياسي بصورة واضحة؛ فهؤلاء المقاتلون لا يحملون سجلًّا مدنيًا أو تاريخًا وطنيًا سوريًا، ولا يملكون الروابط الاجتماعية أو الثقافية الراسخة داخل المجتمع السوري، كما أنّ ولاءهم الأيديولوجي غالبًا ما يرتبط بالخطاب الأممي الإسلاموي العابر للحدود وليس بالدولة السورية ككيان جامع.

كل ذلك يجعل الحديث عن دمجهم في الجيش السوري لا يشبه مشروع بناء المؤسسات الوطنية، بل أقرب إلى منطق الميليشيات المقنّعة التي تُستبقى لأغراض توازنات القوى أكثر من بناء الدولة.

وفي التحليل الاجتماعي لمراحل ما بعد الحروب، كثيرًا ما يُطرح السؤال التالي: كيف نتعامل مع المقاتلين السابقين؟

فالمجتمعات الخارجة من الحرب تحتاج إلى نزع فتيل التوتّر، لا إلى تكريسه. وفي هذا السياق؛ كان الأجدر بالجهات الفاعلة في الشمال السوري، وفي عموم سوريا، أن تتعامل مع مقاتلي الإيغور والتركستان كملفّ يجب تفكيكه، إمّا بإعادة تأهيل هؤلاء المقاتلين نفسيًا واجتماعيًا ضمن برامج دمج مدنية خاضعة للرقابة، أو عبر التفاوض مع دولهم الأصلية لترتيب عودتهم الآمنة، أو في الحدّ الأدنى عزلهم عن أي دور عسكري أو أمني داخل الجغرافيا السورية.

أمّا تحويلهم إلى عناصر في التشكيلات المسلّحة، ومنحهم دورًا مؤسساتيًا، فيُعدّ بمثابة تشريع للقضاء على التجانس الوطني وضرب لجوهر فكرة الجيش الوطني.

وضمن هذا السياق؛ فإنّ المشروع السوري المنشود لا يمكن أن يقوم على أساس تجميع القوى، بل على أساس إعادة تأسيس العقد الاجتماعي، والذي يمرّ ضرورةً عبر إصلاح المؤسسة العسكرية لتكون انعكاسًا لواقع سوري متنوّع ومتوازن.

لكن في مقابل هذا المشروع؛ هناك ما يمكن تسميته بـ “التهجين العسكري”، أي دمج عناصر غير سورية في المؤسسات الأمنية لتكريس توازنات إقليمية مؤقّتة، وهذه الاستراتيجية التي سبق أن شهدتها بلدان مثل العراق ولبنان، قد أثبتت فشلها الذريع؛ لأنّها تؤسّس لأزمات قادمة بمجرّد اختلال ميزان المصالح.

فجيش يضمّ الإيغور والتركستان قد يُرضي طرفًا إقليميًا مؤقّتًا، لكنّه – بكلّ تأكيد – لن يُرضي الذاكرة الجمعية للسوريين، ولا مشروعهم في التحرّر والاستقلال، ولا حتى إمكاناتهم في بناء وطن يتجاوز عقد الدم والهوية القاتلة.

لا شكّ في أنّ الخيار الذي تقف أمامه سوريا اليوم ليس خيارًا بين الحرب والسلام فحسب، بل خيار ما بين إمّا إعادة بناء الدولة أو السقوط في التهجين الدائم والانهيار الوظيفي؛ ولا يمكن أن تنشأ دولة حقيقية بجيش لا يمثّلها، ولا يستمدّ شرعيته من شعبها.

لذا؛ فإنّ إخراج المقاتلين الأجانب من معادلة الجيش الوطني ليس خيارًا أمنيًا فحسب، وإنّما هو شرط وجودي لبقاء سوريا كوطن لا كساحة.

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush