إسرائيل وإيران.. معركة كسر العظم وملامح شرق أوسط جديد
شرفان سيف الدين

إيران دولة محورية في المنطقة، وإذا ما اعتبرناها امتداد للحضارة الفارسية فهي تشكّل إحدى الركائز الأساسية للشرق الأوسط عبر التاريخ، وعليه؛ فإنّنا – وبشكل طبيعي – أمام حضارة كان لها دورها الأساسي في قيادة المنطقة في مرحلة تاريخية ما، أو أنّها كانت على منافسة مستميتة مع باقي الحضارات والامبراطوريات التي كانت تقود وتسيطر على المنطقة.
ومع انتشار الدين الإسلامي في المنطقة وامتداده لجغرافية واسعة تجاوزت حدود شبه الجزيرة العربية، كانت دول وحضارات الجوار هي الهدف الرئيس لهذا الامتداد الذي دخل الدين الجديد، بعضها عن طريق الإيمان به، وبعضها الآخر نتيجة ممارسة القوة …إلخ.
اليوم تُعتبَر الجمهورية الإسلامية الإيرانية معلماً أساسياً من معالم الدول الـ 57 التي تتبنّى الدين الإسلامي ضمن منظمة دولية تحت هذا المسمّى، وعملياً تُعتبَر إيران الدولة الفعّالة أو الأقوى في قيادة المذهب الشيعي حصراً، والذي يُعتبَر ثاني أكبر مذهب في الإسلام كمعتقد، والذي يركّز على آل البيت، في إشارة إلى آل بيت رسول الإسلام محمد، في قيادة العالم الإسلامي، وبالتالي خلق نوع من المنافسة الدينية والسياسية في قيادة العالم الإسلامي مع المذهب السُّنّي ولو بشكل مبطّن.
الصراع الإسرائيلي – الإيراني:
يمكننا القول أنّ الصراع الحديث ما بين الدولتين قد بدأ مع وصول التيار الإسلامي في إيران إلى لسلطة؛ أي بعد ما باتت تُعرَف بالثورة الإيرانية عام 1979م وإسقاط الشاه الإيراني، حيث اتّخذت إيران ما بعد الثورة موقفاً معادياً لإسرائيل بشكل مباشر، وذلك بدعم الحركات الإسلامية في فلسطين ودول جوارها، وبذلك خلقت الحرب بالوكالة عبر هذه الأذرع في كل من فلسطين ولبنان على وجه التحديد، ولبنان بالذات كانت لحربها الداخلية عام 1982م الدور الأبرز في تغلغل إيران فيها وتقوية شوكتها وخلق وتقوية المجتمع الشيعي وتمدّده فيه، وبالتالي كان حزب الله اللبناني اللبنة الأولى لإيران في المنطقة كذراع قويّ وامتداد طبيعي لاستخدامه في المواجهات غير المباشرة مع إسرائيل كنوع من حرب الوكالة، أمّا الصراع المباشر ما بين الدولتَين فيمكننا القول أنّه قد بدأ بالفعل في الأول من نيسان من عام 2024م؛ وذلك بعد التبنّي المباشر للقصف الإسرائيلي للسفارة الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، والردّ الإيراني المباشر أيضاً لإسرائيل بالصواريخ البالستية، لتعود إسرائيل بالردّ بتنفيذ ضربات انتقامية… وهكذا.
البرنامج النووي الإيراني تحت المجهر:
عملياً؛ يعود برنامج إيران النووي إلى فترة الخمسينيات من القرن الماضي، حيث أنه جزء من برنامج (الذرة من أجل السلام) الذي أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية بالتعاون مع الشاه الإيراني الحاكم، بعد الثورة الإيرانية عام 1979م حرّم الخميني العمل بهذا البرنامج من مبدأ تعارضه مع الأخلاق والفقه الإسلامي، ولكنّه عاد وحلّله مع بداية الحرب العراقية – الإيرانية، وهكذا كان الحال بتحريم وتحليل العمل في هذا المجال بفتاوى دينية حتى عام 1992م؛ حيث توجّه كامل الهوى الإيراني نحو روسيا وبدء العمل معها ومع المؤسسات البحثية الخاصة بالطاقة النووية والتي ركّزت على استخدامها لأغراض سلمية وعلمية والاستفادة منها قدر الإمكان لخدمة المجتمع فقط، بعد إسقاط نظام صدام حسين في العراق بدأت إيران بشكل فعليّ بالتطوير المتسارع لبرنامجها النووي، وكان أول إعلان غربي عبر وكالة الطاقة الذرية عام 2006م أنّ إيران تحاول العمل خارج المسموح به، وهي بالتالي ربما تحاول امتلاك قنبلة ذرية ورؤوس نووية تحمل للصواريخ المتطوّرة، وربما يُعتبَر الخطاب الشهير للرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد، في نيسان عام 2006م، الدليل القاطع على هذه الفرضيات؛ حيث قال: “إنّني أعلن رسمياً في حديثي هذا أنّ إيران قد انضمّت إلى النادي النووي والبلدان التي تمتلك التكنولوجيا النووية، وقد نجحت في تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.5 % باستخدام أكثر من 100 جهاز طرد مركزي”.
وهكذا بدأت الدول الغربية بالتركيز والتوجّه نحو إيران وملفّها النووي حتى اندلاع ما بات يُعرَف بـ”ربيع الشعوب” الذي اجتاح الشمال الأفريقي والشرق الأوسط، ومع وصول الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إلى سدّة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية حاول لحلحة هذا الملف بالذات؛ وبالفعل فقد وصل مع مجموعة “الخمس زائد واحد” إلى الاتفاق مع الجانب الإيراني بعد مفاوضات ماراثونية مستميتة من الطرفين، حيث تم الإعلان في 2 نيسان/أبريل من عام 2015م، وفي بيان مشترك، عن التوصّل إلى اتفاق وتفاهمات بهذا الخصوص، لكن هذا الاتفاق لم يدم طويلاً مع وصول الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب لسدّة الحكم في دورته الأولى؛ حيث أعلن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق بشكل رسمي في الثامن من أيار مايو من عام 2018م، وهكذا انقضت ما تبقى من الفترة الأولى لترامب وكامل فترة مواطنه جو بايدين في عملية شدّ وجذب حتى عودة ترامب بداية فترته الثانية مع بداية العام الحالي.
مفاوضات حقيقية أم ترهيب تحت النار:
مع وصول الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، أو الأصحّ عودته للبيت البيضاوي، في الفترة الرئاسية الثانية توعّد إيران بالذات بالانتهاء ممّا بدأه في فترته الأولى وحل الملف النووي بشكل جذري، وبالفعل فقد بدأت المفاوضات مبكّراً، سرّاً أو علناً، مباشرة أو غير مباشرة عن طريق دول الخليج ومنها سلطنة عمان ودويلة قطر (صاحبة المهمات والوساطات والملفات القذرة)، أما ما يركّز عليه كلّ طرف خلال هذه المفاوضات فهي مصالحها الضيّقة والعليا في الدرجة الأولى، فالولايات المتحدة مثلاً تركّز على:
- تخلّي إيران الكامل عن حلمها النووي وفكرة امتلاكها للقنبلة الذرية.
- الرضوخ الكامل ودون أي قيد أو شرط للقرارات الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بطبيعة الحال.
- على إيران أن تنسى فكرة التمدّد الإقليمي والدولي الأيديولوجي والعقائدي منها وحتى الاقتصادي أو التنموي.
- التوقّف الكامل والنهائي عن معاداة إسرائيل، الحليف المدلّل للغرب، وحتى الاعتراف بها ككيان ودولة رسمية وحتى إمكانية التطبيع معها، أسوةً بباقي الدول الإسلامية والجوار، وعلى رأسها الدول العربية.
أمّا متطلّبات وأهداف الجمهورية الإسلامية الإيرانية من كل الحراك الدبلوماسي القائم منذُ أكثر من ربع قرن فهي:
- اللعب على الوقت حتى يتسنّى لها امتلاك القوة النووية المطلوبة أو انجاز القنبلة الذرية.
- تشكيل شبكة إقليمية ودولية، وحشدها في وجه الطوفان الغربي الذي يجتاح المنطقة.
- محاولة إفهام المعسكر الشرقي والقوة العالمية الشرقية، مثل الصين وروسيا، أنّ الدور اليوم على إيران وغداً سيكون عليها.
استخدام القوة العسكرية العشوائية حالياً:
ربّما أنّ من أهم ما يلفت النظر في الثورة الإسلامية، التي قادها زعيمها الراحل الخميني، أنّ الخميني عندما وصل إلى الأراضي الإيرانية كان قادماً من العاصمة الفرنسية باريس، وأنّ الطائرة التي أقلّته كانت فرنسية، والضباط الذين قدموا معه كانوا من أرفع ضباط الاستخبارات الفرنسية، ورغم وجود حركات جهادية إسلامية وقتها في الكثير من الدول الإسلامية، مثل أفغانستان وباكستان …الخ، والتي كانت تعلن الجهاد المقدّس في وجه التمدّد السوفياتي والفكر الشيوعي آنذاك. إنّ الحرب الحالية الدائرة رحاها عبر استعراض للقوة الصاروخية ما بين إسرائيل وإيران ما هي إلّا لعبة “كسر العظم” ما بين القوتين، والولايات المتحدة الأمريكية – بطبيعة الحال – هي المستفيد الأكبر من كل ذلك، وذلك من خلال:
- أولاً: تصفية التيار الراديكالي المتزمّت داخل إيران، والرافض للحوار والوصول إلى أي صيغة حل مع الغرب.
- ثانياً: الاستفادة من الخطأ الروسي في أوكرانيا؛ أي الدخول أو المواجهة المباشرة مع أي قوة عسكرية في العالم رغم امتلاكها لأكثر من 800 قاعدة عسكرية في جميع أنحاء العالم.
- ثالثاً: الاستفادة من أخطائها في التاريخ الحديث في مواجهاتها غير الناجحة بشكل أو بآخر في كل من كوبا وفيتنام وأفغانستان والعراق.
في حين أنّ إسرائيل – ومن خلال حربها حالياً – تسعى لتحقيق حلمها التاريخي في إقامة إسرائيل الكبرى وتطبيق خارطة الشرق الأوسط الجديد بحسب أهوائها ومصالحها، كما تسعى لقطع الطريق أمام المشاريع الطرقية والتجارية التي تحاول الدول الموازية للغرب إنشاءها وتفعيلها، وعلى رأسها مبادرة الحزام والطريق الصيني وممرّ الشمال – الجنوب الروسي والسكك الحديدية الإيراني؛ كل ذلك لصالح ممرّ التوابل الهندي الذي يقوم على جغرافية الدول المطبّعة ضمن الاتفاق الابراهيمي الأخير وإنعاش فكرة “قناة بن غوريون” الموازية لقناة السويس المصرية، إضافةً إلى ممر داوود الذي يربطها مع وسط آسيا ومراكز الطاقة الأحفورية فيها.
في كل الأحوال؛ إنّ كل ما يجري حالياً ما هو إلّا لعبة مصالح دولية ولاعبين دوليين كبار على حساب الشعب القائم على هذه الأرض؛ ففي خضمّ كل ما يجري حالياً لا أحد يكترث أو يناقش أي مطلب حول التحوّل الديمقراطي، أو إصلاح في البنية السياسية للأنظمة القائمة، أو حتى إعطاء الحقوق للمكوّنات العرقية والدينية المختلفة، أو حتى مناقشة مساحات الحريات العامة والخاصة والتطوير والتنمية المجتمعية، إنّ كل ما يجري ما هو إلّا إضرار مباشر للبنية المجتمعية والبيئية لا غير ذلك.