المؤتمر القادم في باريس وحقوق الكرد في سوريا

وضع سوريا في ظلّ حكومة الشرع:
بات أمرًا معروفًا كيف وصلت هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا وكيف شكّلت حكومة مؤقّتة، برئاسة محمد البشير، مشابهة لحكومة إدلب (ذات لون واحد)، ثم ما لبثت أن جمعت هيئة تحرير الشام الفصائلَ الموالية لها لتعيين أحمد الشرع رئيساً لسوريا في ظل غياب جميع المكوّنات السورية والمؤسسات المدنية والنسائية والشبابية. ومن ثمّ قيام الرئيس الجديد بزيارتَين إلى كلّ من السعودية وتركيا؛ حرص الرئيس السوري الجديد، من خلال هاتين الزيارتين، على ألّا يكون بعيداً عن المحيط العربي، وضمان الوقوف في صفّه ضدّ تطلّعات كلّ من إيران وروسيا، فإيران تقلّص حجم نفوذها إن لم نقل إنّه انعدم تماماً – وإن كانت لدى الدولتَين المذكورتَين مساعٍ حثيثة للعودة علناً أو خفية للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية – حيث ترغب إيران في استمرار دعمها لحزب الله وإمداده بالسلاح، وإن بات ذلك عسيراً في الوقت الحاضر. أمّا روسيا فسوف تسعى للحفاظ على القاعدتَين العسكريتَين في حميميم وطرطوس. الزيارة الثانية إلى أنقرة، والتي استقبله فيها أردوغان بحفاوة، أظهرت ميل الشرع في كثير من الجوانب وتماهيه مع أردوغان في الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية والاستراتيجية رغم علم الجانبَين أنّ هناك عقباتٍ دوليةً تقف عائقاً أمام التطلّعات التركية وحكومة أحمد الشرع في سوريا، وكذلك وجود عقبات عربية عبّرت عنها الدول العربية في اجتماعات الرياض وقرارات مؤتمر العقبة التي تستند على القرار الأممي /2254/ والقرار /2118/ حول حلّ الأزمة السورية بطرق سياسية سلمية، وتشكيل هيئة حكم انتقالية للمرحلة، ووضع دستور للبلاد، وإجراء انتخابات تشريعية وتنفيذية برعاية أممية.
مؤتمر العقبة كان بحضور الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي وتركيا والاتحاد الأوربي وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وغيرها، وحضره ممثّل الأمم المتحدة، وفيه تمّت إدانة الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان واحتلاله لأراضٍ سورية جديدة، حيث وباتت إسرائيل على مشارف العاصمة السورية، ومن الملاحَظ أنّه لم تكن هناك إدانة للاحتلال التركي لأراضي الشمال السوري، كما أنّ هيئة التفاوض السورية ومعارضة الائتلاف السوري متوافقة مع قرارات العقبة؛ وهذا يناسب تركيا وتطلّعاتها الاستعمارية والاقتصادية في سوريا؛ هذا الأمر أثار تحفّظ الدول الأخرى واختلف الأمر في تفسير القرار الأممي /2254/ على اعتبار أنّ النظام السوري قد أُزِيل من المشهد، ونقصد الرئيس السابق بشار الأسد، وكان أحد أطراف التفاوض بموجب القرار الأممي /2254/. بالعودة إلى حكومة الشرع الحالية؛ فهي تفتقر إلى هيئة حكم انتقالية، كما أنّها تفتقر إلى وضع دستور للبلاد، وتفتقر إلى الحوار الوطني السوري، كما أنّها لم تشرك جميع المكوّنات السورية؛ من العلويين في الساحل، والموحّدين الدروز في الجنوب والسويداء وجبل العرب، والأمر ذاته يُساق على المسيحيين والكرد في شرق الفرات، وغيرهم الكثير من الأقلّيات الإثنية والعرقية في سوريا، كما لم تعقد المؤتمر الوطني المزمع عقده، والذي يجب أن تنبثق عنه حكومة مؤقّتة برعاية أممية، رغم وجود تجاوزات من قبل الفصائل الموالية لها في الاعتداء على السوريين في حمص وفي طرطوس وفي عفرين وغيرها، وتعتبرها حكومة الشرع تجاوزاتٍ فرديةً.
الموقف الأممي والدولي:
حثّ كلّ من الاتحاد الأوربي وكذلك المبعوث الأممي “غير بيدرسون” وكلّ من وزير الخارجية الفرنسي ووزيرة الخارجية الألمانية خلال زيارتهم لأحمد الشرع في دمشق، حثّوا على مشاركة جميع المكوّنات، وأكّدوا أنّ السلطة يجب ألّا تكون من لون واحد، وأنّهم لن يرفعوا العقوبات عن سوريا إلّا في حال كان أداء الحكومة السورية مناسباً، وأنّهم سوف يراقبون الأفعال لا الأقوال. وذات الموقف أظهرته كلّ من إيطاليا وإسبانيا، والأمر ذاته يُساق على بريطانيا والولايات المتحدة، وتمّ التأكيد على أنّ الموقف الأممي سيبقى معلّقا ومعه موقف الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوربي، وخاصة فرنسا وألمانيا، بانتظار سلوك الحكومة المؤقّتة في حفظ الأمن وضمان تغيير سلوك الحكم بما يتوافق وطموحات المجتمع السوري ومكوّناته بطريقة توافقية.
تلعب دول التحالف الدولي، وخاصة أمريكا وفرنسا، دوراً في الملف الكردي داخل سوريا، وقد سارعت فرنسا في إقامة اتصالات سريعة مع السلطات الجديدة في دمشق، وبدأ بذلك الرئيس الفرنسي ماكرون بدعوة الحكومة الجديدة لحضور مؤتمر باريس الذي سيُعقَد من أجل سوريا وحولها في 13شباط 2025م، وذلك من أجل الدعم الجماعي للعملية الانتقالية في سوريا حسب مؤتمر العقبة الأخير، لكن الأمر المقلق والذي يثير الشكوك هو استمرار الهجمات التركية بشكل مباشر أو عن طريق فصائل ما يُسمّى الجيش الوطني، والتي باتت فصائل هيئة تحرير الشام والتي تدور في فلكها، لا تتوقّف عن ممارسة الانتهاكات في الشمال السوري من اعتقال المدنيين والتضييق على الأهالي، خاصة ما يحدث الآن في عفرين وسدّ تشرين وجسر قره قوزاق ومنبج وغيرها؛ فإذا ما كان التحالف الدولي يزعم أنّه يتفهّم المخاوف التركية فإنّه بالتأكيد يشاهد الخروقات والاعتداءات التركية؛ وبالتالي يجب أن يضع لها حدّاً، كما فعل مع روسيا وإيران في سوريا.
التوقّعات حول مؤتمر باريس 13 شباط 2025م:
من المتوقّع أن تحضره معظم الدول المعنية بسوريا والشرق الأوسط ذات التأثير والتأثير المتبادَل مع سوريا، وسوف تحضره معظم الدول الأوربية والاتحاد الأوربي وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك معظم الدول العربية وتركيا وحتى الحكومة السورية الحالية برئاسة أحمد الشرع، كامتداد لاجتماعات الرياض وقمّة العقبة الأخيرة، لتتّسم بالخيار الأممي والعربي والدولي برعاية فرنسية وأمريكية ولتؤكّد على القرار الأممي /2254/ الذي مرّ ذكره سابقا، لتصحيح مسار الحكومة السورية الحالية في حالة انحرافها عن المسار الذي ترغبه هيئة الأمم المتحدة، وهذا ما أكّدته سابقاً معظم الدول والتي تؤكّد على الثوابت التالية:
- وحدة الأراضي السورية والسيادة الكاملة على أراضيها.
- التخوّف من التوسّع الإسرائيلي والتركي في الأراضي السورية.
- إبعاد سوريا عن الحروب الداخلية والمذهبية، وتطبيق القرارات الدولية.
- ضمان عدم تكرار تجارب العراق وليبيا وأفغانستان.
تشمل الرؤية الفرنسية، التي تتطابق مع الخيارات الأممية والدولية، تحقيق انتقال سياسي سلمي، وحماية جميع السوريين بما فيها معتقداتهم الدينية والفكرية والقومية، واحترام حقوق الإنسان، وحماية حقوق الأقلّيات وحقوق المرأة، ومحاربة الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية، واستمرار الحوار مع حكومة دمشق الجديدة، والقيام بالزيارات الديبلوماسية واللقاءات حتى تحقيق المعايير الفرنسية والأوربية والأممية؛ لتحقيق الاستقرار السياسي في سوريا وعودتها إلى دورها الإقليمي والعربي والدولي.
تعمل حكومة دمشق الجديدة على العمل لاكتساب الثقة من المجتمع الدولي، خاصة الولايات المتحدة وفرنسا؛ ففرنسا كانت تحكمها علاقات تاريخية مع سوريا منذ الانتداب الفرنسي على سوريا منذ عام 1920م، ولديها خبرة وخلفية بتطلّعات الشعب السوري إبان قيام الثورات السورية في الساحل وفي جبل العرب، بزعامة سلطان الأطرش والشيخ صالح العلي وإبراهيم هنانو، كما ترغب حكومة دمشق بإزالة صفة الإرهاب عنها، وقد ظهرت البوادر الإيجابية من جانب الولايات المتحدة عندما رفعت المكافأة المخصّصة للإدلاء بمعلومات عن أحمد الشرع (الجولاني سابقا)، وترغب حكومة دمشق الجديدة برفع العقوبات عن سوريا من أجل تحسين الوضع المعيشي للسوريين، وتلقّي الدعم الدولي والإنساني الأممي والعربي، وإعادة الإعمار من أجل العودة الآمنة لملايين السوريين اللاجئين في دول الجوار وفي الشتات.
مؤتمر باريس والحقوق الكردية في سوريا:
فرنسا على دراية تامة بالمظلومية الكردية وبمعاناة الكرد الطويلة منذ فترة انتدابها على سوريا، كما أنّها على دراية تامّة بالمواقف الوطنية الكردية السورية، ولدى الكرد صداقات تاريخية مع الشعب الفرنسي وشخصياته السياسية منذ أيام ميتران وزوجته دانييل ميتيران التي كانت دائماً إلى جانب الشعب الكردي في نضاله وتشرّده، وهذا ليس غريباً على فرنسا والشعب الفرنسي؛ فهو بلد الثورة الفرنسية وبلد الحريات وبلد الأدباء والمفكّرين وملاذ المعارضين وملاذ الثوّار في جميع أنحاء العالم. ويبدو أنّ الموقف الفرنسي المعلَن أكثر وضوحاً من الموقف الأمريكي نفسه؛ ففرنسا وعبر وزير خارجيتها أعلنت أنّها مع المقاومة الكردية في سدّ تشرين وجسر قره قوزاق، وخلال مقاومة كوباني أعلن الفرنسيون مراراً أنّ الكرد بقضائهم على داعش قاموا بحماية أوربا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الامريكية، ففرنسا تدعم الحقوق الكردية في اللامركزية وحتى الفيدرالية في سوريا، والإدارة الذاتية الديمقراطية بدورها مدعوة مع قوّاتها، قوات سوريا الديمقراطية، لحضور مؤتمر باريس حول سوريا في 13شباط في العاصمة الفرنسية، بل باتت كلّ المكونات السورية تدعو قوات سوريا الديمقراطية في الساحل وفي جبل العرب للتعاون والقيام بحماية جميع السوريين في كل مكان.
تبقى العقبة الوحيدة أمام الحقوق الكردية في سوريا حول الفيدرالية واللامركزية هي الدولة التركية ذات الأجندة العثمانية، والتي تسعى لتحقيق أجنداتها في الميثاق الملّي. وربّما تتوصّل فرنسا والولايات المتحدة إلى تسوية ما مع دولة الاحتلال التركي لوقف هجماتها ووضع حدّ نهائي لها؛ لأنّ فرنسا تسعى إلى إقامة قاعدة عسكرية لها في مدينة كوباني، كما تسعى أمريكا إلى إقامة قاعدة لها في مدينة الرقة؛ لمواجهة داعش من جهة ومن جهة أخرى لردع الهجمات والتطلّعات التركية في التوسّع رغم الوضع الاقتصادي الهشّ لتركيا، ورغم تدهور قيمة الليرة التركية أمام الدولار، وتصاعد وتيرة المظاهرات في المدن الكردية رغم محاولات الدولة التركية التلاعب بورقة الإفراج عن الزعيم أوجلان، رغم أنّه أنهى الفترة القانونية لسجنه؛ وذلك في محاولة من حكومة أردوغان لشقّ الصف الكردي والتأثير على قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية الديمقراطية.
الإدارة الذاتية الديمقراطية والمفاوضات مع الحكومة المؤقّتة في دمشق:
من المفيد القول أنّ هناك حواراً إيجابياً بين الطرفَين حول معظم المسائل، وقد أثبتت قسد أنّها قوة عسكرية وطنية وقبلت الاندماج بوزارة الدفاع السورية، ولكن هذا الاندماج لن يكون بشكل إفرادي، وإنّما ككتلة ضمن الجيش السوري الواحد، كما أنّ الإدارة الذاتية أيضاً قد أثبتت أنّها وطنية وديمقراطية؛ فهي تؤكّد على وحدة الأراضي السورية والتزامها بالدفاع عنها، كما أنّها، أي الإدارة الذاتية، تقبل بتقاسم الثروات مع حكومة دمشق الجديدة لتُوزَّع على كلّ المحافظات السورية، والغالب أنّ نقطة الخلاف الرئيسية تكمن في “اللامركزية” والتي لم يتم الاتفاق حولها حتى الآن، وستكون اللقاءات مستمرّة وبرعاية من الولايات المتحدة الامريكية. ومن المرجّح أنّ العقبات بين الجانبَين تكون في الغالب نتيجة الضغوط التركية، خاصة ما يتعلّق منها باللامركزية وبموضوع توزيع الثروات التي يسيل اللعاب التركي عليها، لكنّ أوراق قسد والإدارة الذاتية أقوى في المفاوضات بسبب مساندة التحالف الدولي، أمريكا وفرنسا والاتحاد الأوربي، لأنّها مطلب جميع المكوّنات السورية من المسيحيين والعلويين والدروز، وهذا يتوافق مع القبول الإسرائيلي في المنطقة أيضاً؛ حيث تراقب إسرائيل التحرّكات التركية والقطرية في سوريا عن كثب، كما تراقب التحرّكات الإيرانية والروسية وفلول النظام السابق في دير الزور والميادين لقطع خطّ الإمداد إلى حزب الله في لبنان عبر الأراضي السورية، ولعلّ من أفضل الخيارات والسيناريوهات المتوقّعة أن تتفاهم قوات سوريا الديمقراطية مع حكومة دمشق الجديدة برعاية فرنسية وأمريكية وأممية؛ وذلك بعد إنجاز مؤتمر وطني ودستور للبلاد وإجراء انتخابات نزيهة، بحيث يعمّ الأمن والسلام على كامل التراب السوري، ويتحقّق الاستقرار والتنمية بما فيه خير الشعب السوري بكلّ مكوّناته.