الحاجة المُلِحّة لعَقد اجتماعي جامع للسوريين
وليد الشيخ

بعد أكثر من نصف قرن من حكم حزب البعث في سوريا، ترسّخت منظومة سلطوية أُحادية أفرغت الدولة من مضمونها المدني، وحوّلتها إلى جهاز أمني يتحكّم بالمجتمع عبر احتكار السياسة وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات وتكريس ثقافة الطاعة. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011 أدّت هذه المنظومة في النهاية إلى تفكّك الدولة ومؤسساتها؛ ما كشف هشاشة “العقد الوطني” – إن كان هناك عقد أصلاً- واليومَ، وبين أطلال الدولة البعثية، وسياقات الحرب والتفكّك المجتمعي، ومحاولات إعادة بناء السلطة بطرق غير تمثيلية، تبرز الحاجة المُلِحّة لإعادة تعريف “سوريا” عبر عقد اجتماعي جديد وشامل، يُنهي مرحلة الحكم المركزي الأُحادي، ويؤسّس لنظام ديمقراطي تعدّدي قائم على الحقوق والكرامة.
وفي هذا السياق؛ تطرح تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا نموذجًا مغايرًا، يستحقّ التأمّل والبناء عليه؛ فقد أسّست هذه التجربة عقدًا اجتماعيًا يتجاوز الدولة القومية، ويعترف بالتعدّد الثقافي والسياسي، ويمنح المجتمعات حقَّ تقرير مصيرها ضمن إطار سوريا لا مركزية ديمقراطية.
أولاً: انهيار الدولة كمنتج لانهيار العقد الاجتماعي
ما شهدته سوريا لم يكن انهيار سياسياً فحسب، بل كان تفكّكًا بنيويًا لعقد اجتماعي زائف، فُرِض بقوة السلطة لا برضى المكوّنات. ولم يُؤسّس النظام البعثي أي شكل من أشكال التعاقد بين الدولة والمجتمع، بل فَرض “عقيدة الدولة الأمنية” على أنّها الحقيقة الوحيدة، وتم تهميش المكوّنات القومية والدينية والطبقية تحت مظلّة “الوحدة الوطنية”، التي لم تكن سوى قناع لسلطة أمنية عسكرية ضيّقة، هيمنت على المجال العام.
مع سقوط السلطة المركزية في كثير من الجغرافيا السورية بعد 2011، انهار هذا العقد الهشّ، وانكشفت الحقيقية المُرّة؛ حيث لم يكن هناك توافق اجتماعي-سياسي حقيقي حول شكل الدولة، ولا حول هوية المجتمع، ولا حول منظومة الحقوق والواجبات؛ وهكذا بدأ السوريون يبحثون – ولأول مَرّة بعد الاستقلال – عن إجابات لأسئلة جذرية؛ مَن نحن؟ وكيف نعيش معًا؟ وبأيّة صيغة حُكم؟
ثانيًا: الإعلان الدستوري للحكومة الانتقالية… خطوة ناقصة
الإعلان الدستوري الذي أطلقته الحكومة السورية المؤقّتة برئاسة أحمد الشرع، شكّل محاولةً لترميم ما يمكن ترميمه من هوية سياسية لسوريا الجديدة؛ إلّا أنّ الوثيقة، على أهميتها الرمزية، لم تستطع أن ترقى إلى مستوى الوثيقة التأسيسية لدولة ما بعد الحرب؛ فاللغة التي صِيغ بها الإعلان ما زالت أقرب إلى الأدبيات الكلاسيكية للدولة الوطنية المركزية، ولم تُحدِث قطيعة معرفية مع النموذج البعثي الذي قامت الثورة ضدّه. لم يذكر شيئاً جوهرياً عن قضايا “الهوية المركّبة”، ولا عن الاعتراف بالمكوّنات القومية الأخرى مثل الكُرد والسريان والتركمان وغيرهم، وكذلك غابت مفاهيم العدالة الاجتماعية، والتمكين السياسي للنساء، وتوزيع السلطة والثروة عبر اللامركزية السياسية الحقيقية.
والأهم من ذلك كلّه هو أنّ الإعلان لم ينبثق من عملية تشاركية مجتمعية واسعة، بل جاء نتيجة تفاهمات فوقية؛ وهو ما يُضعِف شرعيته المجتمعية، ويُضعِف كذلك قدرته على أن يكون أساسًا فعليًا لدستور جامع.
ثالثًا: تجربة الإدارة الذاتية… نموذج لعقد اجتماعي بديل
في المقابل؛ شكّل “العقد الاجتماعي” الذي صادقت عليه الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا عام 2023 تجربة رائدة تستحقّ النظر إليها بجدّية؛ فهو لم يُصَغ كنصّ قانوني بحت، بل جاء نِتاجًا لحوارات شعبية ومؤتمرات مجتمعية، شارك فيها ممثّلون عن مختلف المكوّنات الديمغرافية والسياسية والدينية والثقافية.
أبرز ملامح هذا العقد:
– الاعتراف بالتعدّد القومي والديني، والقطيعة مع مفهوم “الهوية القومية الواحدة” الذي شكّل أساس الدساتير السابقة.
– إقرار مبدأ اللامركزية الديمقراطية، بحيث تُدار المناطق ذاتيًا، مع الحفاظ على وحدة سوريا.
– المساواة الجندرية؛ عبر فرض آليات تمثيل فعليّ للمرأة، ليس كشريك رمزيّ، بل كفاعل سياسي متساوٍ.
– الاعتراف باللغات المتعدّدة لغاتٍ رسمية ومحلّية.
– الفصل الحقيقي بين السلطات، وإنشاء محكمة لحماية العقد الاجتماعي (بمثابة محكمة دستورية).
– التأكيد على أنّ السيادة تعود للشعوب والمجتمعات، لا للدولة ككيان فوقيّ.
هذا العقد، وبالرغم من تحدّيات تطبيقه، يشكّل انتقالًا حقيقيًا من “الدولة-الأمة” إلى “المجتمع-الديمقراطي”، حيث السيادة موزّعة، والهوية متعدّدة، والدولة في خدمة الإنسان، وليس العكس.
رابعًا: نحو عقد اجتماعي جامع للسوريين
إنّ أيّة محاولة لتأسيس دولة سورية جديدة لا يمكن أن تُبنى على أنقاض دستور 1950 أو 1973 أو حتى على إعلان انتقالي هشّ. وإنّما المطلوب هو عقد اجتماعي جديد ينبع من الأرض، يعترف أوّلاً بفشل التجربة السابقة، ويعتمد على:
– الاعتراف بكلّ المكوّنات كمكوّنات أصيلة، متساوية في الحقوق والواجبات.
– إعادة تعريف السيادة: من سيادة الدولة إلى سيادة المجتمع، حيث تُبنى السلطة من القاعدة نحو المركز.
– فصل الدين عن الدولة، مع ضمان حرية المعتقَد، حمايةً للدين من التسييس، وحمايةً للدولة من الطائفية.
– توزيع عادل للموارد يضمن العدالة الاجتماعية ويعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
– ديمقراطية توافقية لا إقصائية، تحترم نتائج الانتخابات، لكنّها تضمن تمثيل الجميع.
خامسًا: تحدّيات المسار الدستوري القادم
إنّ بناء عقد اجتماعي جامع سيواجه تحدّياتٍ كبرى؛ ومنها:
– التدخّلات الإقليمية والدولية التي لا ترغب غالبًا بقيام نموذج ديمقراطي حقيقي في سوريا.
– بنية المعارضة التقليدية التي ما تزال أسيرة الفكر المركزي والإقصائي.
– انقسامات المجتمع السوري العميقة على أسس قومية ومذهبية وطبقية.
– الضعف المؤسسي في أغلب مناطق سوريا، وغياب أجهزة قادرة على تنفيذ التوافقات الدستورية.
لكن؛ كل هذه التحدّيات، رغم ضخامتها، لا تُلغي الضرورة القصوى لصياغة “ميثاق وطني جديد”، يُعيد تعريف السوريين كجماعة سياسية متساوية، لا كأتباع متنازعين.
لقد سقط النظام، لكن الدولة لم تولد بعدُ؛ فالانتقال من الطغيان إلى الديمقراطية لا يتم بإزاحة السلطة فحسب، وإنّما بإعادة صياغة الأسس التي تقوم عليها شرعية الحكم، وهذا لا يمكن أن يتم إلّا بعقد اجتماعي جامع، يقرّ بتنوّع السوريين، ويضمن العدالة والكرامة للجميع؛ وتجربة الإدارة الذاتية، رغم محيطها المعقّد، تقدّم نموذجًا أوّليًا يستحقّ البناء عليه وتطويره، كنواة لسوريا جديدة، عادلة ولا مركزية وديمقراطية ومدنية.