تداعيات الصراع الإيراني – الإسرائيلي وأبعاده الإقليمية والدولية
أحمد بيرهات

يشهد الشرق الأوسط، منذ عقود، صراعات مركّبة تتداخل فيها العوامل الجيوسياسية والدينية والاقتصادية، وتشارك فيها قوى محلية وإقليمية ودولية.
ومن أبرز هذه الصراعات اليوم، المواجهة المتصاعدة بين إيران وإسرائيل، والتي دخلت مرحلة علنية بعد هجوم حماس في 7 تشرين الأول 2023، وأسفر عن نحو 1200 قتيل (1)، كما أُعلنته رسمياً وزارة الخارجية الإسرائيلية وتناقلته وكالات الأنباء، وبعد أن ردّت إسرائيل بقوة على حماس في غزة، وتدخّلت إيران مباشرة عبر وكلائها، تزامن ذلك مع غارات إسرائيلية على مواقع نووية في إيران بتاريخ 13 حزيران 2025، ما يُعدّ خطوة غير مسبوقة في تاريخ النزاع، ودخل الشرق الأوسط جراءها طوراً جديداً من التصعيد.
هذا التصعيد لم يعد شأناً محلّياً محوره فلسطين فقط، بل أصبح ساحة اختبار لإعادة تشكيل النظام الإقليمي، مع تداعيات تمتدّ عالمياً، ويمكن تحليل هذه التداعيات ضمن المحاور التالية:
- إيران تُعوّض أزمتها الداخلية بتصعيد خارجي
تعاني إيران من أزمات داخلية متراكمة، بدأت مع احتجاجات “المرأة، الحياة، الحرية” عام 2022، بسبب مقتل مهسا (جينا) أميني، ما كشف عن هشاشة شرعية النظام الإيراني، وتفاقمت هذه الأزمات بفعل العقوبات الغربية والعزلة الدولية المتزايدة. وفي ظل هذا الضغط، تلجأ السلطة الإيرانية إلى توظيف الأزمات الخارجية كوسيلة لتوحيد الداخل وصرف النظر عن التدهور الاقتصادي والاجتماعي، وتُستخدم هذه الاستراتيجية لتعزيز الاصطفاف القومي والمذهبي، لكنّها في الواقع تزيد من تآكل شرعية النظام، خصوصاً عندما تقع كلفة الحرب على الفئات الفقيرة، وهنا يظهر التناقض البنيوي بين الدولة والمجتمع؛ ما أدّى إلى تبنّي القيادة استراتيجية “الصراع الخارجي” كوسيلة لامتصاص الضغط الداخلي وتعزيز الوحدة الوطنية، كخطّة يدفع ثمنها غالباً الفقراء والطبقات المتضرّرة اقتصادياً.
- شبكة النفوذ الإيرانية فاعل غير دولي
نجحت إيران، لعقود، في بناء شبكة نفوذ ذات عمق استراتيجي غير تقليدي، عبر دعم فاعلين غير دولتيين مثل: حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، لكن هذه الشبكة، ورغم ما توفّره من عمق استراتيجي، تُدخِل المنطقة في دوامة حروب بالوكالة، وتزيد من هشاشة الأمن الإقليمي ، كما أنّ تراجع نفوذ بعض هذه الأذرع مؤخّراً، نتيجة الضربات الإسرائيلية المكثّفة وسقوط نظام الأسد في سوريا، قد أدّى إلى مواجهة مباشرة بين طهران وتل أبيب، وهي حرب تحمل خطر الانفجار الإقليمي الكبير.
- أثر الصراع على النظام الإقليمي العربي
أظهرت التطوّرات الأخيرة هشاشة النظام العربي، الذي عجز عن صياغة موقف موحّد تجاه ما يحدث؛ فالانقسامات العربية، وتطبيع بعض الدول مع إسرائيل، قد أضعفت القضية الفلسطينية، وسمحت لقوى غير عربية، كإيران وتركيا، للعب أدوار مؤثّرة في فلسطين ولبنان وسوريا (رغم انحسارهما الآن).
هذا الواقع يطرح أسئلة حاسمة عن معنى السيادة ودور الشعوب، ويكشف الحاجة إلى نماذج حكم بديلة تتجاوز بنية الدولة القومية، وتتبنّى مفهوم الإدارة الذاتية الديمقراطية كأداة لتمكين المجتمعات من تقرير مصيرها.
- الحرب سلعة دمار لا تحرير
الخطابات الرسمية، سواء من إسرائيل أو إيران، تقدّم الحروب كأدوات تحرير أو ردع، لكن الواقع مختلف؛ فهي تُكرّس منطق الدولة كرمز للهيمنة وتُدمّر المجتمع. فالقضيّتان الفلسطينية والكردية لم تُحلّا، والأزمة السورية – رغم إسقاط النظام البائد – لم تُحلَّ بعد، بل توسّعت واتّخذت منحىً آخر؛ وهو ما يشير إلى أنّ النموذج الحالي فاشل في تحقيق أهدافه الوطنية الحقيقية.
الحرب لم تُسقط نظاماً استبدادياً، بل خلّفت دماراً بشرياً ومجتمعياً طويل الأمد، وهنا تتبلور أهمية الرؤية الأوجلانية، التي ترى أنّ الخلاص لن يأتي من الدولة القومية، بل من تجاوزها نحو نموذج ديمقراطي، قائم على التنظيم المجتمعي والعدالة الاجتماعية والمساواة.
- التأثيرات الاقتصادية والأمنية والتداعيات العالمية
أولاً – اقتصادياً:
-ارتفاع أسعار النفط جراء الحرب، حيث بلغت 78 دولاراً للبرميل في 19 حزيران 2025، مع تقديرات بوصولها إلى 90–95 دولاراً حال استمرار التصعيد. (2)
-اضطراب سلاسل التوريد، خصوصاً في قطاعَي الطاقة والمواد الأولية.
-زيادة الإنفاق العسكري في المنطقة على حساب التنمية.
وفق تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) ارتفع الإنفاق العسكري في المنطقة بنحو 12٪ خلال النصف الأول من 2025. (3)
ثانياً – أمنياً واجتماعياً:
التلميحات الإيرانية بالسعي لامتلاك سلاح نووي شكّلت أحد أبرز دوافع الهجوم الإسرائيلي في 13 حزيران 2025.
تزايد التهديدات الإرهابية نتيجة الفوضى، وعودة جماعات كداعش في العراق وسوريا.
تدفّقت موجات لجوء جديدة، ومنها إلى أذربيجان انطلاقاً من إيران بحسب بعض الأنباء الواردة من هناك، حيث سجّلت مفوضية اللاجئين ارتفاعاً ملحوظاً في أعداد مَن يحتاجون لإعادة التوطين؛ حيث تجاوز عدد اللاجئين الأفغان والعراقيين في إيران إلى مئات الآلاف من الأشخاص، رغم ترحيل الكثيرين منهم، ويُقدّر العدد الإجمالي للاجئين داخلها بـ 3.8 مليون. (4)
- المستفيدون الحقيقيون من الحروب
تستغلّ الأنظمة السلطوية النزاعات لتصفية معارضيها داخليًا، وإعادة شرعنة سلطتها عبر التلويح بالخطر الخارجي، أمّا القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وبعض الدول الأوربية، فتستثمر تلك النزاعات في بيع الأسلحة وترتيب مناطق نفوذ جديدة.
كما تنتعش التنظيمات المتطرّفة في هذه الفوضى، وتعيد إنتاج العنف تحت شعارات المقاومة أو الجهاد؛ ما يُغذّي الطائفية والعرقية ويعيد المجتمعات إلى منطق الحرب المستمرّة.
- المرأة والشباب (الدرع البشري المنكسر)
غابت الأولويات الاجتماعية من المشهد. ففي كل هذه النزاعات، يتم تهميش دور المرأة والشباب، رغم كونهم وقود الحروب.
النساء يتعرّضن لانتهاكات جسيمة، والشباب يُستنزَفون في الجبهات أو يُدفَعون للهجرة.
لذا؛ لا يمكن لأي مشروع تحرّري أن يُكتب له النجاح ما لم يضع العدالة الاجتماعية، وتمكين النساء والشباب، في صلب أولوياته.
- المشروع البديل
يُقدّم صاحب “سوسيولوجية الحرية”، المفكّر الكردي عبد الله أوجلان، من خلال مفهوم “الأمة الديمقراطية”، رؤية شاملة تتجاوز نموذج الدولة القومية.
هذه الرؤية تقوم على:
1.الإدارة الذاتية الديمقراطية.
2.مشاركة جميع المكوّنات الثقافية والدينية.
3.تجاوز القومية والطائفية لصالح التعدّدية.
4.اقتصاد مجتمعي بيئي.
5.تنظيم مجتمعي يبدأ من القاعدة.
6.إشراك المرأة بشكل قانوني ومؤسساتي على قاعدة المناصفة مع الرجل.
وهذا النموذج قد يصلح ليس فقط لحل القضية الكردية، بل يشكّل إطاراً شاملاً لمعالجة الأزمات البنيوية في الشرق الأوسط.
- استراتيجيات الخروج من الأزمة
لحلحلة المأزق الحالي في الشرق الأوسط، يمكن اقتراح الخطوات التالية:
- إطلاق حوار إقليمي حقيقي يشمل جميع المكوّنات الاجتماعية.
- تفكيك احتكار الدولة القومية للسلاح والقوة، واعتماد نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية.
- وقف تسليح الأطراف المتصارعة وفرض رقابة أممية مستقلّة.
- بناء تحالف شعبي ديمقراطي يتجاوز العسكرة القومية والطائفية.
- تدويل الحلول مع ضمان الشفافية والمساءلة المجتمعية.
نحو وعي جديد ومشروع تحرّري جامع
لسنا أمام نزاعات سياسية متفرّقة فحسب، بل نحن أمام أزمة حضارية شاملة في مفاهيم الدولة والمجتمع والعدل.
لن تتحرّر شعوب الشرق الأوسط من الهيمنة أو الاستبداد عبر الأدوات ذاتها التي رسّخت أزماتها، وحده الوعي السياسي الجديد القائم على الديمقراطية المجتمعية والمشاركة والعدالة الاجتماعية، قادر على كسر هذه الحلقة.
والحلّ لن يأتي من السلاح، بل من إحياء السياسة الحقيقية، التي تُصنع من القاعدة، بروح “الأمة الديمقراطية”، وتخاطب الإنسان بوصفه جوهراً لا أداة.
لكن السؤال الأبرز في هذه المرحلة هو:
هل نملك الشجاعة لنقل المعادلة من دولة قومية إلى مجتمع متحرّر وديمقراطي؟
المصادر المشار إليها:
- 1. بيان رسمي حول هجوم 7 تشرين الأول 2023 وزارة الخارجية الإسرائيلية – الموقع الرسمي – وكالات الانباء.
- 2. CNBC عربية – وكالة رويترز ” أسعار النفط ترتفع مع تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل” 19-6-2025
- 3. تقرير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين – إحصاءات اللاجئين في إيران حزيران 2025
- 4. المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) – تقرير الإنفاق العسكري للشرق الأوسط.