ملفُّ معتقَلِي داعش في شمال وشرق سوريا.. بين الانتصار العسكريّ والخذلان السياسيّ
وليد الشيخ

يُعَدّ ملف سجون ومخيمات داعش في شمال وشرق سوريا أحد أخطر الملفات الأمنية والإنسانية في المنطقة، وقد تحوّل بمرور الوقت إلى عبء ضاغط على الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تكفّلت منذ القضاء العسكري على “خلافة” داعش في الباغوز 2019، بمهمة حسّاسة تتجاوز طاقتها السياسية والاقتصادية والعسكرية. ويأتي بيان التحالف الدولي في مدريد (حزيران 2025) ليجدّد الاعتراف الضمني بهذه المسؤولية الثقيلة، ويعيد التأكيد على الخطر المستمر الذي يشكّله التنظيم، خاصة في ملف المعتقلين والمحتجزين في سجون ومخيمات كـ “الهول” و”روج”.
تحتجز قسد في شمال وشرق سوريا ما يقارب 10 آلاف مقاتل من تنظيم داعش في سجون متعدّدة، من ضمنهم قرابة 2000 من الأجانب (من غير السوريين والعراقيين)، إضافة إلى أكثر من 50 ألفًا في مخيم الهول، غالبيتهم من النساء والأطفال، بينهم أكثر من 8000 أجنبي من نحو 60 جنسية. ومع مرور أكثر من خمس سنوات على انهيار التنظيم، لم يتم التوصل إلى آلية دولية مستدامة لإعادة هؤلاء إلى دولهم أو لمحاكمتهم أمام هيئة شرعية معترَف بها دوليًا.
ويشكّل مخيم الهول بشكل خاص تهديدًا مركّبًا؛ فهو:
بؤرة تجنيد أيديولوجي: لا يزال المخيم فضاءً خصبًا لنشر فكر التنظيم من خلال “الحسبة النسائية” وجيوب متشدّدة نشطة؛ حيث سُجّلت العديد من حوادث الاغتيال داخل المخيم.
فجوة أمنية عالمية: يمثّل وجود آلاف الأجانب مع أطفالهم خطرًا على الأمن العالمي؛ خصوصًا أنّ بعض الدول ترفض إعادتهم أو أنّها لا تملك برامج تأهيل ودمج فعّالة.
ضغط على القدرات المحلية: تتحمّل الإدارة الذاتية كامل العبء من دون دعم سياسي مباشر أو اعتراف دولي، ما يُضعف من قدراتها على معالجة الملف.
دور قوات سوريا الديمقراطية – الثمن الثقيل للانتصار
لا يمكن فهم الوضع الراهن دون الإشارة إلى دور قسد كمحور أساسي في هزيمة داعش. لقد كانت هذه القوات الشريك الفعليّ للتحالف الدولي على الأرض، وخاضت أشرس المعارك ضدّ التنظيم في الرقة ودير الزور والبادية. وبعد الانتصار العسكري، تولّت تلك القوات مسؤولية حسّاسة تتعلّق بحراسة السجون وإدارة المخيّمات ومواجهة الخلايا النائمة، وسط موارد محدودة وغياب اعتراف دوليّ سياسيّ بالإدارة الذاتية.
تشكّل هذه المسؤولية تهديدًا مزدوجًا:
أمنيًا: مع كل عملية فرار من السجون (كما حصل في سجن الصناعة بالحسكة عام 2022)، يتبيّن خطر داعش وضرورة دعم البنية الأمنية.
سياسيًا: تتحمّل قسد عبء هذا الملف بلا مقابل سياسي حقيقي، بينما تستخدم بعض الدول الغربية والإقليمية الملف كورقة ضغط سياسية.
مسؤولية المجتمع الدولي – الحاجة إلى حلّ عادل واستراتيجي
رغم تأكيده على الدعم الفني والتعاون الاستخباراتي، إلّا أنّ بيان التحالف في مدريد لا يرقى إلى مستوى تحمّل المسؤولية الفعلية عن ملف المعتقلين؛ فالتحذير من خطر داعش دون اتّخاذ خطوات عملية إنّما يُعيد إنتاج الخطر بدلًا من احتوائه.
والحلّ العادل يتطلّب:
دعماً سياسياً ومالياً للإدارة الذاتية: وذلك من خلال الاعتراف بدورها، ومنحها شرعية قانونية تؤهّلها لإبرام اتفاقات دولية، خاصة فيما يخصّ ملفات حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب.
إقامة محكمة دولية خاصة في شمال شرق سوريا: لمحاكمة عناصر داعش ضمن إطار قانوني شرعي، يُنهي التسيّب القانوني الحالي.
برنامجاً دولياً لإعادة التأهيل وإعادة الإدماج: خاصة للنساء والأطفال، وربط ذلك بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة.
خطّةً لإعادة التوطين أو الإعادة إلى الوطن: خصوصًا لمواطني الدول الأوروبية والآسيوية، على أن يكون مصحوبًا بإجراءات متابعة أمنية وتأهيل نفسيّ.
مستقبل داعش في السجون
إنّ استمرار هذا الوضع بدون حلول جذرية قد يؤدّي إلى نتائج كارثية؛ ومنها:
قد تتحوّل السجون إلى ما يشبه “غوانتانامو مصغّر”، تولّد مزيدًا من الكراهية والتطرّف.
تزداد احتمالات تنفيذ عمليات اقتحام للسجون على يد خلايا نائمة أو جهات خارجية.
تنمو أجيال جديدة داخل المخيّمات تتشرّب الفكر الداعشي دون وجود بديل تربوي أو اجتماعي.
وفي ضوء التحدّيات المعقّدة التي يعاني منها شمال وشرق سوريا عقب معركة دحر تنظيم داعش، لا يمكن فصل الملف الأمني والحقوقي عن الضرورات السياسية والعدلية التي تفرضها المرحلة الانتقالية؛ فبين سجون التنظيم المتطرّف ومخيّماته، وما خلّفه داعش من دمار وتمزيق مجتمعيّ، وبين واقع قوىً محلّيةٍ، وعلى رأسها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، قدّمت آلاف الشهداء في معركة لا تمثّل مجرّد صراع محلّي، بل تمثّل دفاعًا عالميًا ضد الإرهاب، بين هذا وذاك تبرز الحاجة الملحّة إلى مقاربة عدالة انتقالية شاملة تحفظ التضحيات، وتضمن الحقوق، وتؤسّس لحل سياسي دائم وعادل، خصوصًا في ظل التوجّه الدولي لإعادة هيكلة التحالف وضمان “هزيمة دائمة” لداعش.
تجدّد الخطر بعودة داعش من البادية إلى المدن الكبرى
مع بداية عام 2025، بدأ خطر تنظيم داعش يتّخذ منحىً تصاعديًا من جديد، وسط فراغ أمني متفاقم في البادية السورية ومحيطها؛ فقد سجّلت عدّة تقارير أمنية وميدانية عودة نشاط خلايا التنظيم عبر مناطق تمتدّ من المثلّث الحدودي بين دير الزور والرقة وحمص، وصولًا إلى مناطق الريف الشرقي لمحافظات حلب ودمشق؛ وهو ما يشير إلى مرونة عالية في تحرّك هذه الخلايا مستفيدة من الطبيعة الجغرافية الصحراوية، كما يشير لانعدام التنسيق الأمني بين القوى المسيطرة في سوريا.
هذا التطوّر الخطير يُعيد للأذهان المراحل التي سبقت تمدّد التنظيم عام 2014؛ حيث أنّ الحروب المحلّية والتهميش السياسي والإقصاء المجتمعي قد مهّدت الطريق لصعوده السريع. واليوم، تُظهر خلايا التنظيم قدرة على تنفيذ عمليات خاطفة تستهدف نقاط تمركز للجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية، بل وتتحرّك في بعض الأحيان قرب مراكز مدنية رئيسية دون أن تواجه استجابة سريعة؛ وهذه المؤشّرات تؤكّد أنّ القضاء العسكري على داعش لم يكن نهاية التهديد، بل مجرّد محطّة مؤقّتة، وأنّ استمرار تجاهل الحلول الجذرية في المناطق المحرّرة – سواء في الشمال الشرقي أو في البادية – قد يُفضي إلى موجة عنف جديدة، وهذه المرّة ربما أقرب إلى قلب المدن الكبرى، كما هو الحال في محيط حمص وريف حماة الشرقي وأطراف البادية القريبة من دمشق.
بالتالي؛ فإنّ ربط ملف العدالة الانتقالية وإعادة دمج مؤسسات الأمن المحلّي بالملف الوطني الأوسع لمكافحة الإرهاب، لم يعد خيارًا سياسيًا، بل ضرورة استراتيجية تفرضها الوقائع الميدانية المتغيّرة. إنّ تفويت هذه الفرصة قد لا يؤدّي إلى فشل مشروع الاستقرار فحسب، بل قد يؤدّي إلى تكرار الكارثة، وهذه المرة في قلب المدن التي اعتقدت أنّها تجاوزت مرحلة الخطر.
الشهداء في معركة الدفاع عن الإنسانية
خاضت قسد حربًا مركّبة ضدّ داعش، تحمّلت خلالها عبء الاشتباك العسكري المباشر، إلى جانب مهامّ أمنية وإدارية وإنسانية بعد التحرير، في غياب أي غطاء دولي قانوني أو سياسي. ومن بين أكثر من 13 ألف شهيد و25 ألف جريح في صفوفها، لم تُترجَم هذه التضحيات إلى موقع تفاوضي في أي عملية سياسية وطنية أو دولية.
إنّ إدارة ملف معتقلي داعش وسجونه ومخيّماته من قبل قسد يجب ألّا يُنظر إليه بوصفه واجبًا مفروضًا على طرف محلّي، بل كدليل شرعيّ وفعليّ على امتلاك هذا الطرف دورًا مؤسّسًا في مستقبل سوريا السياسي، ويجب أن يُبنى عليه حق التمثيل الكامل في أي حوار أو تفاوض مع حكومة دمشق أو في أي إطار دولي معنيّ بمستقبل البلاد.
العدالة الانتقالية كأساس لحل مستدام
يُعَدّ تبنّي مسار عدالة انتقالية حقيقيّ في شمال وشرق سوريا أداة أساسية لضمان الاستقرار ومنع عودة العنف والتطرّف، ويجب أن يشمل هذا المسار الجوانب التالية:
- المساءلة والمحاسبة: من خلال تشكيل محكمة دولية أو محلّية معترَف بها لمحاكمة عناصر داعش، ووضع آليات لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات من جميع الأطراف، بما يشمل الانتهاكات الممنهجة في عفرين ورأس العين وتل أبيض.
- حفظ الذاكرة والتوثيق: توثيق الانتهاكات التي ارتكبها داعش بحق المكوّنات المختلفة (الكرد، العرب، الإيزديين، السريان…)، وتكريس الذاكرة الجمعية لضحايا الإرهاب والانتهاكات التركية والفصائلية.
- ردّ الحقوق لأصحابها: ضمان عودة النازحين من رأس العين وتل أبيض وعفرين إلى منازلهم، واسترداد ممتلكاتهم، وفتح مسارات قانونية لاستعادة الحقوق المغتصبة.
- الاعتراف بالتضحيات: تضمين ذكرى شهداء قسد في سردية الدولة السورية الجديدة، ومنح ذويهم الحقوق الكاملة ضمن أي عقد اجتماعي أو قانون وطنيّ مستقبليّ.
تفاوض مع دمشق على أسس جديدة من منطق الأمن إلى منطق الحقوق
إنّ أي تفاوض قادم مع حكومة دمشق لا يمكن أن يُبنى على أساس إلغاء الذات أو العودة إلى نموذج الحكم المركزي الذي مهّد أصلاً لصعود داعش وانتشار الفوضى؛ بل يجب أن يرتكز على الحقائق التالية:
قسد ليست طرفًا عسكريًا فحسب، بل قوة تحرير ومؤسسة أمنية متجذّرة في المجتمع المحلّي.
الإدارة الذاتية تمثّل اليوم إدارة أمر واقع، قائمة بمهام دولة؛ ما يجعل إشراكها شرطًا لا خيارًا في أي حل سياسي.
اللامركزية السياسية – وليست الإدارية فحسب – باتت ضرورة لبقاء الدولة السورية واستقرارها، وهي مطلب شعبي وواقعي في مناطق شمال وشرق سوريا.
الهاجس الأمني المجتمعي
من أهم العوائق النفسية والاجتماعية أمام إعادة الثقة بالدولة السورية لدى سكان شمال وشرق سوريا هو الهاجس الأمني العميق الذي تراكم عبر سنوات الحرب، والذي يتجسّد في عدّة حقائق:
معركة الوجود ضدّ داعش: مئات القرى والمدن دفعت ثمن المقاومة بدماء أبنائها، ما جعل السكان يشعرون أنّ الدولة المركزية لم تكن حاضرة لحمايتهم، بل إنّ قسد هي مَن لعبت هذا الدور.
غياب الضمانات من جانب دمشق: لم تُظهِر حكومة دمشق أي استعداد للاعتراف بالإدارة الذاتية أو بحقوق المكوّنات؛ ما يضع أي تسوية محتمَلة في موضع الشكّ والقلق من إعادة إنتاج القمع.
تجارب التهجير والانتهاك في عفرين ورأس العين وتل أبيض: لا تزال مئات الآلاف من الأسر نازحة بسبب عمليات التغيير الديمغرافي، وسط صمت حكومي سوري، ما يعمّق الشكوك من عودة الحكم المركزي دون محاسبة أو ضمانات.
إنّ إدارة ملف سجون داعش لا يمكن أن تستمر بمنطق أمني صرف، بل يجب أن تتحوّل إلى مدخل لحل سياسي متكامل يقوم على:
تحميل المجتمع الدولي مسؤولياته القانونية في محاكمة وإعادة مقاتلي داعش الأجانب.
تبنّي نموذج عدالة انتقالية شامل يبدأ من محاسبة داعش ولا ينتهي عند تسوية مظالم الحرب.
اعتبار قوات سوريا الديمقراطية شريكًا شرعيًا في أي معادلة سياسية مستقبلية، وليست مجرّد أداة أمنية وقت الحاجة.
في المرحلة المقبلة، لا يمكن الحديث عن نهاية حقيقية لداعش أو عن استقرار دائم في سوريا، دون ضمان العدالة لضحايا الإرهاب، وضحايا الدولة في الوقت ذاته. إنّ تضحيات قسد، وذاكرة المجتمعات المهدّدة بالاجتثاث، وملف المعتقلين والمخيّمات، كلّها نقاط مفصلية لا ينبغي التعامل معها بوصفها تفاصيل فنية، بل كأسس لأي عملية سياسية أو عدالة انتقالية قادمة.
والاعتراف بهذه الوقائع، ليس منّة من أحد، بل ضرورة لحماية ما تبقّى من سوريا، ولضمان ألا تتكرّر الحرب تحت شعارات جديدة، أو بأدوات أكثر فتكًا.
ليس بالإمكان الحديث عن “الهزيمة الدائمة لداعش”، كما جاء في بيان التحالف، دون معالجة حقيقية لملف السجون والمخيّمات في شمال وشرق سوريا. لقد أثبتت قسد والإدارة الذاتية التزامهما بمسؤوليات كبرى نيابة عن العالم، ولكن استمرار تجاهل العالم لتقديم الاعتراف السياسي، والدعم المؤسسي، وتبنّي حلّ شامل، يجعل من استمرار المهمة شبه مستحيل.
المطلوب اليوم هو عدالة انتقالية حقيقية لهذا الملف، تتضمّن محاسبة عادلة، وخطّة لإعادة التأهيل، واعتراف بمركزية دور شمال وشرق سوريا في المعركة العالمية ضدّ الإرهاب؛ فالمنطقة لا تحتمل الانتظار أكثر بينما يُعاد تدوير خطر داعش في الظلّ.