المشهد العسكري والسياسي في سوريا
عباس شيخموس

لا يبدو المشهد السوري مستقراً حتى بعد سقوط النظام البعثي؛ فالنظام الجديد يعاني من مشاكل كثيرة، وتعود تلك المشاكل إلى سياسته ذات اللون الواحد، وهي مرتبطة بأجندة داخلية وخارجية، فلا استقرار اقتصادي بدون استقرار سياسي. إنّ رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا ورفع اسم سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وذلك لمنح النظام فرصة لبناء سوريا وجعلها خالية من الإرهاب، بالرغم من رمزيتها، إلّا أنّ ذلك لا يعني الانفتاح الدولي على سوريا، ولا يعني كذلك أنّ النظام الجديد قد أصبح محلّ ثقة لدى المجتمع الدولي؛ فرفض التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش انضمامَ الجيش السوري الجديد للتحالف يندرج ضمن عدم موثوقية التحالف بهذه القوة العسكرية، وقد تُعيد الولايات المتحدة والغرب تصنيف سوريا ضمن الدول الراعية للإرهاب، طالما أنّ هذا النظام – تحت مسمّيات جديدة – ما يزال مستمرّاً في ارتكاب المجازر بحق الطوائف السورية.
الوضع العسكري
تضمّ سوريا حالياً قوّتَين عسكريّتَين رئيسيّتين؛ تأتي في مقدّمتها قوات سوريا الديمقراطية الأكثر تنظيماً والأقوى تسليحاً والأكثر موثوقية لدى المجتمع الدولي الذي يعتمد عليها في محاربة تنظيم داعش. وبعد ذلك يأتي الجيش السوري الجديد والذي تدور حوله مجموعة من الاستفهامات، ويفتقر إلى التنظيم وإلى الولاء. بالإضافة إلى ذلك هناك ما يسمّى بالجيش السوري الوطني “مرتزقة تركيا” في الشمال السوري المحتل، والذي يرفض حتى الآن الانضمام إلى الجيش السوري الجديد رغم أنّ الكثير من فصائله قد انضمّت إلى الجيش السوري الجديد، كالحمزات والعمشات وأحرار الشرقية وغيرها من فصائل مرتزقة تركيا، والتي ما يزال ولاؤها للدولة التركية؛ وهو ما يفسّر وجود استفهامات حول الجيش السوري الجديد، بالإضافة إلى جيش سوريا الحرة، المنضوي ضمن الجيش السوري الجديد في منطقة التنف، والذي يعمل وفق سياسة التحالف الدولي في محاربة تنظيم داعش. إلى جانب المجلس العسكري في السويداء والذي ما يزال قيد التأسيس نتيجة وجود خلافات بين فصائله المسلّحة، إلّا أنه أثبت وجوده خلال الأحداث الأخيرة.
لا يمكن لسوريا أن تستقرّ في ظل وجود قوات متعدّدة الولاءات وانتشار الفكر التكفيري وفقدان الأمن؛ فتفجير كنيسة “مار إلياس” في منطقة الدويلعة بدمشق، وقبلها مجازر الساحل بحقّ المكوّن العلوي، وقد أثبتت التقارير الأممية أنّ فصائل مرتزقة تركيا من “الحمزات والعمشات ومقاتلين أجانب” المنضوية في الجيش السوري الجديد هي التي ارتكبت المجازر بدعم من قياداتها العسكرية، إلى جانب المجازر الجديدة بحق طائفة الموحّدين الدروز في السويداء، والتي ارتكبها هؤلاء تحت مسمّيات جديدة “قوات العشائر”.
إنّ العقلية العسكرية التي ينتهجها النظام الجديد بعدم الاعتراف بقوى عسكرية خارج إطارها العسكري رغم بُعد الجيش السوري الجديد عن العقيدة الوطنية ورغم تنوّع الولاءات فيها، قد جعله – النظام – أقرب إلى فكر التنظيمات الجهادية، وليس إلى الانتماء للوطن السوري وتحقيق الأمن والاستقرار فيها.
قوات سوريا الديمقراطية، والتي باتت تتحوّل إلى جيش نظامي بعد ازدياد عدد مقاتليها، ترفض أن تنخرط في هذا الجيش مادام على هذه الشاكلة، دون أن يكون لها خصوصية ودون أن تكون كتلة واحدة؛ وذلك نتيجة للانتهاكات التي تمارسها الفصائل الإرهابية بجميع مسمّياتها ضمن الجيش السوري الجديد بحق الشعب السوري.
والخلافات ما تزال عميقة، خاصة مع تلك الفصائل الإرهابية “الحمزات والعمشات وأحرار الشرقية” المنضوية في الجيش السوري الجديد، والتي تمّ تعيين قادتها كقادة لفرق عسكرية ضمن الجيش السوري الجديد.
إنّ سبب إخفاق النظام الجديد في بناء جيش وطنيّ، قد يكمن في أنّ النظام الجديد تسرّع في بناء الجيش السوري الجديد بضمّ هذه الفصائل الإرهابية لهيكلية الجيش، وفي عدم عقد اجتماعات عسكرية للقوى العسكرية الوطنية في كيفية بناء الجيش السوري الجديد؛ لذا يبدو أنّ النظام الجديد لديه عقلية عسكرية دينية تغلب العقلية الوطنية، وبالتالي لا تعنيه الانتهاكات والمجازر التي ارتكبها هؤلاء بحق الطائفة العلوية وطائفة الموحّدين الدروز، ولا يعنيه كذلك السخط الشعبي تجاهه، بقدر ما يعنيه إرضاء فكره وكسب رضى الدولة التركية والاستفادة من هذه الفصائل ومن الدعم التركي في ترسيخ حكمه.
إنّ بقاء الوضع العسكري على ما هو عليه اليوم قد ينذر بتبعات خطيرة على سوريا؛ خصوصاً في ظلّ تنامي نفوذ داعش في المنطقة، وتنامي مصطلح “قوات العشائر”، وانعدام الثقة بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام الجديد؛ فرغم وجود اتفاق بين الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية والرئيس المؤقّت أحمد الشرع، إلّا أنّ النظام الجديد – وبدعم من الدولة التركية – يحاول بسط سيطرته على مناطق الإدارة الذاتية دون تقديم أي تنازلات، ويعمل على خلق الفتن ويرفض الحوار مع قوات سوريا الديمقراطية، وهي سياسة أشبه ما تكون بسياسة النظام البعثي في قمع الديمقراطية والحرية وعدم الاعتراف بحقوق المكوّنات السورية.
إنّ سياسة الانكار والتجاهل التي يمارسها النظام الجديد، والسير على نهج النظام البائد، وتحكّم الدول الإقليمية ببعض المناطق السورية (تركيا في الشمال السوري، وإسرائيل في الجنوب السوري) مع بقاء الوضع العسكري على ما هو عليه؛ قد ينذر بتبعات خطيرة على سوريا، ويدفع للانتقال من أزمة إلى أزمة جديدة أكثر خطورة من سابقتها (حرب أهلية)؛ والأحداث الأخيرة في السويداء مؤشّر واضح وخطير على حالة الفلتان العسكري ضمن هيكلية الجيش السوري الجديد، ودليل على عدم قدرة الحكومة المؤقّتة – كما تدّعي – على التحكم بتلك القوات، حتى وإن كانت تحت مسمّيات مثل “مسلّحي البدو” أو حتى ما تسمّى بـ”قوات العشائر” والتي ثبت تورّط الجيش السوري الجديد وقوات الأمن العام معها؛ وقد تكون هذه سياسة ممنهجة ينتهجها النظام الجديد للتستّر على الانتهاكات التي يمارسها الجيش السوري الجديد وقوات الأمن العام التابعة للنظام الجديد، وليثبت عدم مسؤوليته إزاء ما يحدث في السويداء من مجازر بحق أبناء الطائفة الدرزية.
إنّ تلك الأحداث قد تخدم أطرافاً إقليمية في توسيع مناطق نفوذها؛ فليس من المستبعد أن تقوم أطراف إقليمية إلى جانب السلطة الجديدة في دمشق بدفع هذه الفصائل، “قوات العشائر” والتي يتمّ الترويج بأنّها خارجة عن سلطة دمشق، وتوجيهها نحو شرق الفرات لخلق فتنة عربية – كردية، وضرب السلم والتعايش الأهلي بين مكوّنات المنطقة؛ بغية إضعاف قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا.
الوضع السياسي
سوريا في ظل النظام الجديد بعيدة كلّ البُعد عن الاستقرار السياسي؛ فالنظام السوري الجديد ما يزال تحت تأثير الأجندة الإقليمية، ولا يمكنه وضع خطوط حمراء لمنع تدخّل القوى الإقليمية للتأثير على القرار السياسي، وذلك بحكم علاقته القديمة مع تلك القوى، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إنّ العقلية التي يحملها النظام الجديد ترفض أيّ نظام تعدّدي ديمقراطي، بل لا يؤمن بالفكر الديمقراطي أصلاً، هذا إن لم يكن يؤمن بالحكم الوراثي على غرار الخلافة الأموية؛ خاصة أنّ الرئيس المؤقّت بات يمتلك صلاحيات واسعة تمكّنه من السيطرة على السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ لذا فإن الوضع السياسي لا يقلّ خطورة عن الوضع العسكري في سوريا. لا تختلف العقلية السياسية لديه عن العقلية العسكرية؛ فمعظم أو أغلب المسؤولين السياسيين في النظام الجديد ذوي خلفية عسكرية تؤمن بالمركزية، وتكنّ الكراهية تجاه الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية وكذلك تجاه المكوّنات غير السنّية وغير العربية (العلوية والدرزية والإيزيدية والمسيحية والكردية وغيرها من المكوّنات التي تشكل الفسيفساء السورية)؛ والتصريحات التي يطلقها مسؤولو النظام الجديد بين الحين والآخر، والتي تُظهر الحقد والكراهية، مؤشّر واضح على العقلية الشوفينية.
إنّ ما يفسده العسكر يصلحه الساسة، والعكس صحيح؛ أمّا في الحالة السورية فإنّ العقلية العسكرية والسياسية فاسدة، بحكم رفضها لأي حوار وطني جامع، وبسبب إصرارها على النظام المركزي؛ لذا لا يمكن للنظام الجديد أن ينقل سوريا إلى برّ الأمان، وحتى إن كان هناك انفتاح دولي على النظام الجديد، وإنّ تم رفع العقوبات عنه، فإنّ ذلك يبقى بلا أهمية ما لم يرافقه استقرار سياسي وعسكري في سوريا؛ فالدعم السياسي والاقتصادي من الخارج لا يتم من دون مقابل، وذلك الدعم يخدم مصالح تلك الدول بالدرجة الأولى لا مصالح الشعب السوري؛ إلّا أنّه قد يخدم النظام الجديد في إطالة عمره.
التدخّلات الخارجية
سوريا بعد سقوط النظام البعثي أصبحت مرتعاً للدول الإقليمية، وخصوصاً تركيا وإسرائيل، وبينهما صراع غير مباشر، هذا التدخل، القائم على بسط نفوذها وأجندتها، ومع ضعف النظام الجديد، سيؤثّر على الوضع السياسي والعسكري في سوريا.
تركيا
تركيا منخرطة في الأزمة السورية منذ بداياتها، وقد لعبت دوراً تخريبياً؛ سواء بتحويل الفصائل العسكرية في الشمال السوري المحتلّ إلى فصائل مرتزقة تخدم أجندتها، أو من خلال دعم تنظيم داعش، وحتى بعد سقوط النظام البعثي، وبدلاً من أن تكون طرفاً داعماً لكل الأطراف من أجل بناء سوريا الديمقراطية والقضاء على التنظيمات الإرهابية فيها، إن كان أمن سوريا بالفعل – كما تدّعي – يخدم أمنها القومي، إلّا أنّ الواقع يثبت عكس ذلك؛ فتركيا ما تزال تمارس سياستها التخريبية في سوريا. وتركيا لديها ثلاثة أهداف رئيسية في سوريا:
- تطبيق الميثاق الملّي باحتلال الشمال السوري واعتباره مناطق نفوذ تركية خالصة، وتتريكها على مراحل وربطها بالمقاطعات التركية، وإن كانت مرتبطة بسوريا شكلاً، والتمدّد نحو الساحل السوري الذي يندرج ضمن صراع الطاقة في منطقة الشرق الأوسط.
- إنهاء الإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية؛ من خلال دعم المركزية في سوريا والوقوف في وجه أي تغييرات ديمقراطية في سوريا قد تؤثّر على النظام المركزي؛ وهو ما يفسّر إصرار النظام الجديد على النظام المركزي، والترويج بأنّ اللامركزية تعني التقسيم، وهو ما يفسّر كذلك رفضه لأي حوار وطني يهدف لبناء سوريا المستقبلية. وقد تحاول تركيا، وبدعم من بعض الدول العربية مثل قطر، تحريك العشائر العربية لمهاجمة شرقي الفرات وارتكاب المجازر بحق مكوّنات المنطقة.
- بناء حكومة سلفية بعد فشلها في إنشاء حكومة إخوانية في دمشق، والسيطرة على الجيش السوري الجديد من خلال ضمّ مرتزقتها من الفصائل المسلّحة (الحمزات والعمشات وأحرار الشرقية والمقاتلين الأجانب) إلى الجيش السوري، وتقديم الدعم العسكري واللوجستي للنظام الجديد.
إسرائيل
سوريا كانت طرفاً رئيسياً فيما يُسمّى بـ”محور المقاومة”، وتمتلك نفوذاً كبيراً على الحركات الجهادية في فلسطين ولبنان، وتستخدمها ورقة ضغط ضدّ إسرائيل، إلّا أنّ النظام السوري لم يقم بأي عملية عسكرية مباشرة ضدّ إسرائيل لا قبل الأزمة السورية ولا بعدها، بل أصبحت سوريا مستباحة من قبل إسرائيل؛ وذلك من خلال استهداف التنظيمات الراديكالية ومخازن الأسلحة الاستراتيجية ومنع وصول تلك الأسلحة ليد التنظيمات التي تشكّل تهديداً على الأمن القومي لإسرائيل، وكذلك من خلال استهداف أي تحرّكات من شأنها إعادة النفوذ الإيراني إلى سوريا. وإسرائيل لديها أهداف استراتيجية في سوريا:
- منع امتلاك سوريا أي قوة عسكرية (العدد والعتاد) مستقبلاً والذي قد يشكّل تهديداً لأمنها القومي، ومنع أي قوة عسكرية تدخل إلى الجنوب السوري باستثناء المجالس العسكرية المحلية التي قد تتشكّل والتي لا تشكّل أي تهديد على أمنها القومي، مع إبقاء سوريا دولة ضعيفة، وخصوصاً في المجال الاستخباراتي، وضبط المقاتلين الأجانب والحركات الجهادية في سوريا.
- بقاء إسرائيل في المناطق التي تحتلّها في الجنوب السوري، وإقامة منطقة منزوعة السلاح تشمل المحافظات الثلاث (القنيطرة ودرعا والسويداء). كما أنّ ما يسمّى بـ”مقاتلي البدو” أو “قوات العشائر” في الجنوب السوري تشكّل تهديداً على أمن إسرائيل؛ نتيجة ارتباطها بأجندة خارجية يمكن تفعيلها ضدّ إسرائيل وقت الحاجة؛ والضربات التي تنفّذها إسرائيل ضدّ هذه القوات المنفلتة في ريف السويداء ومنعها من دخول السويداء مؤشّر واضح على مدى الخطر الذي تشكّله على الأمن القومي لإسرائيل.
- التطبيع مع سوريا وفق شروط إسرائيل. وقد لا يحدث تطبيع مع النظام السوري الجديد في الوقت الحالي، وتبقى الاتصالات بين الطرفين حول الملفات الأمنية والعسكرية فقط، إلّا في حال تم الاعتراف بالجولان كأرضٍ إسرائيلية والقبول بتحويل الجنوب السوري إلى منطقة منزوعة السلاح وتحت إشراف ومراقبة من الجيش الإسرائيلي.
أمّا إيران فتحاول إعادة بعض نفوذها في سوريا؛ وذلك عن طريق بعض العشائر العربية في دير الزور، بعد خسارة إيران لكامل نفوذها في سوريا بعد سقوط النظام البعثي البائد.
أمّا بالنسبة للدول العظمى ذات الصلة بالملف السوري، كالولايات المتحدة وروسيا، فإنّ لها أجندة أخرى تختلف عن الأجندة الإقليمية، إلّا أنّها مرتبطة بالأمن الإسرائيلي في سوريا، وقد تختلف عن الأجندة الإقليمية نسبياً في إبقاء سوريا دولة فاشلة وبنظام مركزي؛ فبعض الدول الإقليمية تريد بقاء سوريا دولة مركزية فاشلة أمنياً وعسكرياً واقتصادياً وحتى سياسياً، كون هذا الوضع يناسب أجندتها في سوريا، أمّا الولايات المتحدة فتهمّها مصالحها بالدرجة الأولى، والمرتبطة إلى حدّ ما بالاستقرار السياسي والعسكري في سوريا دون التدخل المباشر في شكل النظام، خاصة إن كان النظام الجديد يقدّم فروض الطاعة؛ فالولايات المتحدة بحاجة إلى استقرار في المنطقة شرط أن تكون المنطقة خاضعة لها؛ وذلك لمواجهة التمدّد الصيني، ولتنفيذ المشاريع الاقتصادية للولايات المتّحدة في المنطقة.
مستقبل سوريا ضمن هذا المشهد
كِلا الطرفين الرئيسيين في سوريا (النظام الجديد وقوات سوريا الديمقراطية) بينهما ملفات خلافية، وكل طرف يتمسّك برؤيته المستقبلية في سوريا، مع تأكيد قسد الانضمام إلى الجيش السوري الجديد ودمج مؤسسات الإدارة الذاتية مع مؤسسات الحكومة المركزية؛ لكن وفق معايير محدّدة، إلّا أنّ كليهما حتى الآن يرفضان الحلّ العسكري لإنهاء خلافاتهما، وهذا الرفض إمّا أن يكون لمنع انتقال سوريا إلى أزمة داخلية تؤدّي إلى حرب أهلية، أو أنّ النظام الجديد لا يمكنه خوض حرب ضدّ قوات سوريا الديمقراطية، حتى وإن كانت هناك ضغوط إقليمية للدفع بهذا الاتجاه، أو أنّ النظام الجديد بانتظار أي تغييرات دولية تجاه الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، ويمكن ربط تلك التغييرات بالتطبيع مع إسرائيل؛ فالعلاقة القوية التي تربط قوات سوريا الديمقراطية بالولايات المتحدة، وشراكة قسد مع التحالف الدولي، إلى جانب القوة العسكرية والشعبية التي تمتلكها قسد؛ تشكل أكبر تحدٍّ أمام النظام الجديد؛ لذا يحاول النظام الجديد الانفتاح أكثر على الولايات المتحدة وعقد اتفاقيات معها ومع إسرائيل، بما يخدم مصالحه الضيّقة وسحب البساط من تحت قوات السوريا الديمقراطية وإنهاء شراكتها مع التحالف، وخلق الفتن في المناطق ذات الغالبية العربية المنضوية تحت راية الإدارة الذاتية، وذلك بالاعتماد على الدعم القوي من دولة الاحتلال التركي.
أمّا قوات سوريا الديمقراطية فتصرّ على مراعاة خصوصيتها ضمن هيكلية الجيش السوري الجديد، وتصرّ كذلك على اللامركزية، وترفض النظام المركزي والاستمرار في تهميش مكوّنات المنطقة على مدى عقود طويلة، وتعمل على منع عودة سوريا إلى ما قبل الأزمة السورية 2011؛ سواء في شكل النظام أو في السياسة التي انتهجها النظام البائد بحق المنطقة، والتي يسير حالياً النظام الجديد على خطاه، وتستند قوات سوريا الديمقراطية في كلّ ذلك على أيديولوجيتها الديمقراطية، وعلى تأييد أغلب المكوّنات والطوائف للامركزية ولمشروعها الديمقراطي.
إنّ تعثّر المفاوضات بين الطرفَين رغم وجود أرضية يمكن الاستناد عليها (اتفاقية عبدي – الشرع) يدفع المشهد السوري نحو؛ إمّا:
- بقاء الوضع كما هو دون الوصول إلى اتفاق ينهي الأزمة السورية، بانتظار المواقف الدولية المنخرطة في سوريا، والتي قد تغيّر من المعادلة السياسية والعسكرية في المنطقة، والتي قد تعطي الأفضلية لطرف دون آخر في تثبيت مطالبه؛ إلّا أنّ هذا الاتجاه قد يؤدّي إلى إشعال نار الحرب بين الطرفين، كون أحد الأطراف ينتظر تغييراً جذرياً من قبل الدول الفاعلة في سوريا لفرض سلطته، بدلاً من السير في طريق المفاوضات.
- الوصول إلى اتفاق بدعم من بعض الدول الغربية (فرنسا والولايات المتحدة) والبدء بعملية بناء سوريا الديمقراطية؛ إلّا أنّ هذا يتوقّف على مقدار الضغوط الدولية على بعض الدول الإقليمية التي تؤثّر على القرار السياسي في دمشق، لمنع تلك الدول من التدخّل في الشأن الداخلي السوري. وقد يكون هذا الاتجاه صعباً في المرحلة الحالية، وقد يتوقّف على مبادرة القائد عبد الله أوجلان لإحلال السلام في تركيا والمنطقة.
- تحريك العشائر العربية (ما تُسمّى بقوات العشائر)، والتي كانت خاضعة لسلطة النظام البائد أو لإيران أو لتركيا، ضدّ مناطق الإدارة الذاتية وبدعم من بعض الدول الإقليمية، خاصة أنّ هذه العشائر أصبحت لعبة بيد النظام الجديد وبعض الدول الإقليمية، وهي خارجة عن سلطة النظام كما يدعي النظام الجديد، بيد أنّ أغلب عناصرها من الجيش السوري الجديد الذي يضمّ فصائل إرهابية وقوات الأمن العام؛ وهو ما قد يؤدّي بسوريا للعودة إلى المربع الأول، كون مناطق الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية تختلف اختلافاً جذرياً عن منطقة الساحل والجنوب السوري من حيث التنظيم والقوة العسكرية.
إذاً؛ الوضع الداخلي السوري – رغم سقوط النظام البعثي في دمشق – ما يزال يعاني من أزمات داخلية؛ نتيجة سياسة الفوضى والفلتان الأمني والعسكري والسياسي التي ينتهجها النظام الجديد بحق مكوّنات الشعب السوري، والمرتبطة بالعقلية التي يحملها النظام الجديد تجاه سوريا المستقبلية؛ فالمجازر المرتكبة بحق المكوّن العلوي والدرزي، وقبلها العمليات الديمغرافية بحق الكرد، والتي تقوم بها الدولة التركية في الشمال السوري المحتل، قد أثّرت على التعايش السلمي بين مكوّنات الشعب السوري، وخلقت حالة من الاحتقان الداخلي وتنامي النعرات الطائفية والدينية في سوريا، كما أنّ أي تحرّك عسكري تحت أي مسمّىً ضد قوات سوريا الديمقراطية سيخلق فوضى عارمة في سوريا، وقد تؤدّي بسوريا إلى حرب طائفية. كما يتوقّف الوضع العسكري والسياسي في سوريا على نجاح مبادرة القائد عبد الله أوجلان لإحلال السلام في تركيا، والتي قد تُنهي الأجندة التركية في سوريا، وتعطي دفعاً لإنجاح المفاوضات بين الإدارة الذاتية والحكومة الجديدة، وتُنهي المجازر التي ترتكبها الحكومة الانتقالية بحق الطوائف السورية، لتبدأ معها مرحلة تشكيل نظام لا مركزي، والبدء ببناء سوريا الحديثة.