الأطراف المتصارعة وشكل النظام في سوريا المستقبلية
منذ انطلاقة الأزمة السورية سنة 2011 وحتى عام 2019 العام الذي احتلّت فيه دولة الاحتلال التركي سري كانيه وكري سبي تغيّرت خريطة الحرب السورية؛ فتوسّعت وتقلّصت مساحة سيطرة الأطراف الموجودة على الساحة السورية، ومنذ عام 2019 بقيت خريطة السيطرة في سوريا دون أي تغيير، وحافظت الأطراف على مناطق سيطرتها منذ ذلك التاريخ. اليوم باتت الجغرافية السورية منقسمة بين أربعة أطراف، ولكل طرف حلفاؤه وأيديولوجيته في إدارة مناطقه ورؤيته لحل الأزمة السورية، وهذه الأطراف هي:
الطرف الأول: النظام السوري، والذي يسيطر على أكثر من 63 % من المساحة السورية، مع وجود بعض المناطق “السويداء ودرعا” التي ما تزال صورتها غير واضحة، وهو طرف لا يملك القرار السياسي بل مرتبط بروسيا وإيران، ويعاني من عزلة عربية ودولية، وتدهور في الوضع المعيشي.
الطرف الثاني: ما يسمّى بالائتلاف السوري المعارض والذي يسيطر اسمياً على الشمال السوري (فعلياً الفصائل المسلحة “المرتزقة” هي المسيطرة) بمساحة تبلغ قرابة 6 % من المساحة السورية وهو مرتبط بالأجندة التركية بشكل كامل ويعمل على تنفيذها داخل المناطق المحتلة (عمليات التغيير الديمغرافي) وخارج سوريا (في ليبيا وأذربيجان وباشور كردستان)، وتعاني مناطقه من فلتان أمني وصراعات بين الفصائل “المرتزقة”، وبعض تلك الفصائل مصنّفة على قوائم الإرهاب.
الطرف الثالث: جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً) وحكومتها التي تُسمّى بحكومة “الإنقاذ” وتسيطر على إدلب بمساحة تبلغ قرابة 5% من مساحة سوريا، وتصنّف ضمن قوائم الإرهاب، وهي مرتبطة بتركيا وتفرض قبضة أمنية كبيرة على مناطقها بسبب الرفض شعبي لها.
الطرف الرابع: الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، وتدير مناطق شرقي الفرات بمساحة تزيد عن 25% من المساحة السورية، تربطها شراكة مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة الإرهاب، وتتميّز مناطقها بالأمن والاستقرار النسبي؛ كونها تتعرّض لمؤامرات داخلية وخارجية (داعش والنظام وتركيا وإيران وحتى من روسيا وبعض الدول العربية مثل قطر) وذلك لضرب الاستقرار وخلق الفتن في مناطقها، من خلال دعم بعض العشائر المرتبطة بالنظام وتركيا وإيران تحت مسمّى “جيش العشائر”، وخاصة في مناطق ريف دير الزور.
لكن في الآونة الأخيرة ظهرت بوادر الانفتاح على النظام السوري وخاصة من قبل الدول العربية وتركيا التي ترغب بالتطبيع مع النظام وبرعاية روسية، هذا الانفتاح قد يكون بداية للتطبيع العربي مع النظام ولكن ليس لحلّ الأزمة السورية، فالتطبيع لا يعني انتهاء الأزمة السورية؛ كونه مرتبطًا بالدولة الفاعلة في الملف السوري “الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا” وبتواجد القوى الإقليمية على الجغرافية السورية، ويمكن – إلى حدّ ما – اعتبار هذا الانفتاح بداية لحلّ الأزمة السورية، وذلك لأنّ التطبيع مرتبط بموافقة الولايات المتحدة بسبب مشروع “مناهضة التطبيع مع نظام الأسد”، بمعنى أنّ هذا الانفتاح قد يكون برضى الولايات المتحدة ولكن ضمن حدود معينة، أي؛ لا يوجد تطبيع كامل ما لم تسمح به الولايات المتحدة.
لذا؛ ما مصير الأطراف المسيطرة في سوريا؟ وكيف سيكون شكل سوريا في المرحلة المقبلة في ظل الانفتاح العربي والإقليمي على النظام السوري؟
مستقبل الأطراف الأربعة في ظل الأوضاع الراهنة:
من المستحيل أن يعود الزمن إلى الوراء، بمعنى أنّه من المستحيل عودة سوريا إلى ما قبل 2011 وذلك لسببين أساسيين: الأول هو التدخّل الإقليمي والدولي في الأزمة السورية واختلاف استراتيجية الأطراف المتدخّلة في المنطقة؛ فلكلّ دولة أطماعها في سوريا والتي تتضارب في نفس الوقت (الأطماع الأمريكية والروسية من جهة والأطماع العثمانية والفارسية من جهة أخرى)، وبالتالي؛ لا يمكن الوصول إلى حلّ واحد ينهي الأزمة السورية.
أمّا السبب الثاني فهي القوى المحلية (النظام والإدارة الذاتية وما يُسمّى بالائتلاف المعارض) فلكلّ منها أيديولوجيتها الخاصة واختلافها في شكل سوريا المستقبلية؛ وهو ما يعني استحالة عودة سوريا إلى ما قبل 2011.
النظام السوري:
الأمر سيّان بين بقاء النظام أو رحيله؛ فهذا النظام لم يعد يمتلك القرار السياسي داخلياً ولا حتى خارجياً، كون القرار مرتبطًا بروسيا وإيران. كما أنّ تغيير هذا النظام ليس بالأمر السهل، ولا بديل عنه حتى الآن؛ لأنّ البديل لا بدّ أن يحافظ على مكاسب الدول المنخرطة في الأزمة السورية إلى جانب المحافظة على أمن إسرائيل، وهو أمر مُستبعَد في الوقت الحالي؛ لأنّ للنظام حلفاءً لا يمكنهم الاستغناء عنه، حتى وإن كانت هناك تصريحات من بعض الحلفاء تفيد بأنّهم غير متمسّكين برأس النظام، إلّا أنّ الواقع على الأرض مختلف تمامًا، فهذا النظام – وبفضل حلفائه – ربّما يستطيع زيادة مساحة المناطق التي يسيطر عليها، خاصة في الشمال السوري المحتل، إذا تم الأخذ بالحسبان حاجة دولة الاحتلال التركي للتطبيع معه وتسليم الشمال السوري المحتل (ضمن شروط واتفاقيات معينة) بعد أن يتم اللقاء بين أردوغان والأسد ونجاح هذا اللقاء، مقابل محاربة الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية ووأد مشروعها (مشروع الأمة الديمقراطية القائم على مبدأ سوريا لا مركزية). كما يمكن للنظام أن يتوسّع في إدلب في مناطق جبهة تحرير الشام؛ كون هذه الجبهة مُصنّفة على قوائم الإرهاب، لكن هناك مخاوف دولية من حدوث حركة نزوح كبيرة، وبالتالي؛ فإنّ النظام وحلفاءه (روسيا وإيران) لا يمكنهم شنّ عملية عسكرية واسعة في الوقت الراهن. وعلى العكس من ذلك أيضاً؛ فقد يخسر النظام مناطق في الجنوب السوري التي يمكن وصفها بالمناطق “المترنّحة” بين البقاء تحت سيطرة النظام وأفرعه الأمنية أو اتّخاذ منحىً مغاير قد يكون شبيهًا للإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، ويمكن تسميتها بإقليم الجنوب. لذا؛ فمناطق النظام بانتظار حالة من المد والجزر تتوقّف على المتغيّرات الدولية والإقليمية في المنطقة.
أمّا بالنسبة لمناطق الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا فلا يمكن للنظام أو حتى حلفائه شنّ عملية عسكرية ضدّها؛ لوجود اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا لمنع الاشتباك، ويُعتبَر نهر الفرات الخط الفاصل بين القوّتين، إلى جانب بعض المناطق (كمنبج ومنطقة التنف). أمّا فيما يتعلق بإيران فهي تعمل على قصف بعض القواعد الأمريكية عبر بعض حلفائها في مناطق الإدارة الذاتية، وهذا القصف مرتبط بتوتّر العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، إلّا أنّها غير قادرة على القيام بعملية عسكرية برّية. أمّا النظام فلا يملك القوة الكافية لمواجهة قوات سوريا الديمقراطية، لذا يكتفي بالعمل مع حلفائه ومع تركيا لزعزعة استقرار المنطقة وخلق الفتن.
مناطق الشمال السوري المحتل:
هذه المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلّحة “المرتزقة” على الأرض بشكل فعليّ، أمّا اسمياً فالسيطرة لما يُسمّى بالائتلاف السوري المعارض الذي تسوده الخلافات والانشقاقات، وفَقَد داعميه الدوليين والإقليميين باستثناء تركيا وقطر، وما يزال يحتفظ بنوع من الشرعية الدولية، ويؤيّد النظام “المركزي” للدولة ويرفض أي شكل جديد لسوريا المستقبلية تتمتّع فيها المكوّنات في جميع المناطق السورية بكامل حقوقها، لذا؛ يمكن اعتباره الوجه الآخر للنظام السوري.
إلّا أنّ هذه المنطقة – بفصائلها المسلّحة وبائتلافها – مرتبطة بالسياسة التركية، وبالتالي؛ تتوقّف على العلاقة التي تربط تركيا بروسيا وعلى التطبيع مع النظام. هذه المنطقة أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن تبقى كما هي تحت حكم دولة الاحتلال التركي ومرتزقتها من الفصائل المسلّحة، أو قيام تركيا بإجراء مصالحة مع النظام وتسليم المنطقة له وضمّ مرتزقتها إلى قوات النظام بعد إجراء المصالحة بهدف محاربة الإدارة الذاتية. كما أنّ دولة الاحتلال التركي لم تعد قادرة على الضغط على الولايات المتحدة – بالمقام الأول – أو روسيا لمنحها الضوء الأخضر للقيام باجتياح برّي لمناطق الإدارة الذاتية؛ فجميع محاولاتها ووعيد أردوغان قد ذهبت أدراج الرياح، ولم يعد لديها خيار سوى التوجّه نحو النظام والتطبيع معه كآخر محاولة لها لوضع يدها بيد النظام وروسيا وإيران لمحاربة الإدارة الذاتية ومشروعها الديمقراطي وحماية شكل النظام في سوريا “النظام المركزي”.
لذا؛ فالمنطقة بانتظار مصير مجهول، فالقوى الشعبية في مناطق الشمال السوري إلى جانب بعض الفصائل المسلحة ترفض التطبيع التركي مع النظام، وتسعى جاهدة لمنع عودة النظام إلى مناطقها، وبالتالي؛ فالمنطقة معرّضة لاقتتال داخلي بين الرافضين للتطبيع والمؤيّدين له، وبتعبير أدقّ؛ بين القوى الشعبية والمؤيّدين للسياسة التركية المتجاهلة للتطلّعات الشعبية في سوريا حرّة ديمقراطية.
منطقة إدلب:
هذه المنطقة التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام “النصرة” وحكومتها التي تُسمّى بحكومة “الإنقاذ”، تختلف عن مناطق الشمال السوري المحتلّ، خاصة أنّها تتمتّع بموقع استراتيجي؛ فهي قريبة من قاعدة “حميميم” الروسية، والساحل السورية “قاعدة طرطوس البحرية” والتي قد تلعب دوراً كبيراً في حال توتّرت العلاقات بين روسيا والغرب؛ فعلى الرغم من إدراج الهيئة على قوائم الإرهاب، ورغم الدعم الكبير الذي تتلقّاه من دولة الاحتلال التركي، ووجود قواعد عسكرية لها في المنطقة، إلّا أنّ دولة الاحتلال التركي لا تسطيع المساومة عليها مع روسيا والنظام إلّا في مناطق محدودة، وهي المناطق القريبة من طريق(M4)؛ كون الهيئة لا ترتبط بتركيا بشكل كامل مثل الفصائل المسلحة في الشمال السوري ذات الولاء الكامل لتركيا، كما أنّ روسيا والنظام لا يمكنهما القيام بأية عملية عسكرية كبيرة لتحرير المنطقة من هيئة تحرير الشام إلّا بضوء أخضر غربيّ (على الرغم من محاولات روسيا والنظام البدء بتنفيذ عمليتهما العسكرية)؛ كون المنطقة مكتظّة بالسكان وتخشى الدول الغربية من حركة نزوح كبيرة تجاه أوروبا في حال نشوب حرب في المنطقة. أمّا بالنسبة لموقف تركيا الرافض فإنّ السبب لا يتعدّى الحفاظ على قواعدها العسكرية في المنطقة ودعمها.
لذا؛ فإنّ مصير إدلب قد يكون متوقّفًا فقط على التوافق الروسي – الغربي وحلّ الأزمة السورية.
مناطق الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا:
والتي كانت تضم شرقي الفرات بالكامل ومنبج وعفرين، إلّا أنّ منطقة عفرين قد احتلّتها دولة الاحتلال التركي عام 2018 إلى جانب منطقتَي سري كانيه وكري سبي عام 2019. وتوجد فيها قواعد عسكرية أمريكية ضمن التحالف الدولي الذي تربطه شراكة مع قوات سوريا الديمقراطية في محاربة الإرهاب، خاصة خلايا تنظيم داعش.
هذه المنطقة والتي تديرها إدارة مكوّنة من أبناء المنطقة بجميع مكوناتها (كرد وعرب وسريان وآشوريين وتركمان …) وقوة عسكرية كبيرة (قوات سوريا الديمقراطية)، ولها ممثّليات في بعض العواصم العربية والعالمية، تختلف عن باقي الأطراف بأيديولوجيتها ومشروعها الديمقراطي “مشروع الأمة الديمقراطية” في سوريا، فهي إدارة تعمل من أجل سوريا مستقبلية ديمقراطية تتمتّع فيها جميع مكوّنات الشعب السوري بحقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى العسكرية، لذا؛ فهي نموذج الحل للأزمة السورية.
إلّا أنّ المنطقة تعاني، نتيجة مشروعها الديمقراطي ونظرتها لسوريا المستقبلية، من عدوان تركي مستمرّ على البنى التحتية للمنطقة واستهداف قادة قوات سوريا الديمقراطية من خلايا داعش المدعومة من قبل دولة الاحتلال التركي، ومن النظام الساعي لخلق الفتن في المنطقة؛ عن طريق تحريك بعض العشائر الموالية له في ريف دير الزور، وتشكيل ما يسمّى بـ”جيش العشائر” لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية في المنطقة، فعلى الرغم من فشل جميع محاولات دولة الاحتلال التركي والنظام (نتيجة توحّد جميع مكوّنات المنطقة والتفافها حول قوات سوريا الديمقراطية وإدارتهم الذاتية)؛ إلّا أنّ تلك المحاولات تلقي بظلالها على الوضع الاقتصادي بالدرجة الأولى، وعلى الوضع الأمني بالدرجة الثانية.
حيث تعمل الأطراف والقوى المعادية للإدارة الذاتية على وأد مشروعها الديمقراطي؛ فهي – من وجهة نظرهم – تشكّل خطراً على أنظمتها القوموية المركزية؛ لأنّ مشروع “الأمة الديمقراطية” يستند على نظام لا مركزي تتمتّع فيه جميع المناطق بحقوقها ضمن سوريا موحّدة غير مجزّأة، ويعمل على تحرير المناطق المحتلّة في الشمال السوري؛ فالنظام المركزي يزيد من تعميق الأزمة السورية.
على الرغم من تقلّص مساحتها من بعد احتلال دولة الاحتلال التركي “عفرين وكري سبي وسري كانيه” والمخاطر المحدقة بها، إلّا أنّ مشروعها الدمقراطي آخذ بالتمدّد وبات مثالاً يُحتذى به في بقية المناطق السورية وبالأخص في الجنوب السوري، وليس فقط في سوريا بل وخارج سوريا، إقليمياً ودولياً، كحل أمثل للأزمة السورية.
الوضع السوري الراهن والنظرة المستقبلية له:
على الرغم من بوادر انفتاح عربي على النظام، ومحاولات روسيا للتطبيع بين تركيا والنظام إلّا أنّ ذلك لن يؤثّر بشكل كبير على وضع النظام وعلى حلّ الأزمة السورية، فما زالت العقوبات الأمريكية مستمرة على النظام “قانون قيصر” ومنع إعادة إعمار سوريا ضمن هذه الظروف، إلّا أنّها قد تلقي بظلالها على بعض الأطراف؛ فالانفتاح التركي العربي “دول الخليج ومصر” قد تلقي بظلالها على الأزمة السورية وتزيد من تعقيدها في حال تم تجاهل تطلّعات الشعب السوري وتجاهل المبادرات الوطنية لحل الأزمة السورية والاكتفاء فقط بمصالحها. وضمن هذا الإطار فإنّ التوافقات الإقليمية – كحلول مؤقّتة – لن تكون لصالح الشعب السوري. كما أنّ التطبيع التركي مع النظام قد يؤثّر بشكل كبير على بعض الفصائل المسلحة وعلى فئات الشعب في الشمال السوري المحتلّ؛ من خلال تسليم ملفات تلك الفصائل للنظام وإعادة سيطرة النظام على الشمال السوري المحتل ضمن تفاهمات واتفاقيات بين أردوغان والأسد وبرعاية روسية من جهة، وقد يؤثّر على مناطق الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا؛ فالتطبيع التركي مع النظام لا يخدم تطلّعات شعوب المنطقة، بل يخدم أنظمتها وأجندتها في المنطقة، لذا؛ فإنّ مناطق الإدارة الذاتية قد تعاني من ضغوط أمنية من خلال توحيد الجهود لتحريك خلايا داعش المدعومة من قبل الدولة التركية لزعزعة الأمن في المنطقة، وضغوط عسكرية من خلال دعم ما يسمّى بـ”جيش العشائر” المؤيّد لتركيا والنظام لتنفيذ عمليات عسكرية في ريف دير الزور الشرقي.
لذا؛ فإنّ الانفتاح سيخدم مصالح الأنظمة ولا يخدم مصالح الشعب السوري، وسيزيد من تعقيد الأزمة السورية ويزيد من الصراعات الداخلية، وقد يلقي بظلاله ليس على سوريا فقط بل على دول الجوار أيضًا. فالتفاهمات الإقليمية حول الأزمة السورية يجب أن تقوم على خروج جميع القوى المحتلّة من سوريا كشرط أساسي، والأخذ بعين الاعتبار المبادرات الوطنية كحلٍّ للأزمة السورية، وإلّا فإنّ سوريا مقبلة على سنوات عجاف تلقي بظلالها على الدول المجاورة لها.
النظرة المستقبلية لسوريا
إنّ الأنظمة الشرق أوسطية والعربية “الأنظمة المركزية” التي أنشأها الغرب في القرن العشرين لم تكن حلّاً لإنهاء مشكلات المنطقة اقتصادياً واجتماعياً، بل أُنشِئت لخدمة مصالحه وتعميق الخلافات والصراعات بين هذه الأنظمة؛ لتكون تحت رحمته ولخلق شرخ كبير بين النظام الحاكم والقاعدة الشعبية، لتكون تلك القاعدة أداة بيدها لضرب أي نظام يخرج عن الدائرة المرسومة له، لضمان سيطرته على الشرق الأوسط والبلاد العربية، فمن يسيطر على هذه المنطقة يضمن سيطرته على العالم. لذا؛ نجد الدول العظمى تعمل على إيجاد موطئ قدم لها في المنطقة.
لم تعد الأنظمة المركزية تخدم المصالح الغربية في المنطقة في ظل الصراع الدولي على النظام العالمي، كما أنّ ظهور الأنظمة الديمقراطية والإدارات الذاتية المتشكّلة من قبل شعوب ومكوّنات المنطقة يشكّل خطراً على مصالحها في المنطقة. لذا؛ فهي بحاجة إلى أنظمة جديدة وضعيفة يمكن لها السيطرة عليها.
سوريا في ظل نظام مركزي
وهو ما تعمل عليه جاهدة كلّ من النظام السوري وتركيا وروسيا وإيران إلى جانب ما يُسمّى بالائتلاف السوري المعارض، من خلال مؤتمرات آستانا وقمم سوتشي التي لم تقدّم أي حلّ للأزمة السورية، بل زادت من معاناة الشعب السوري؛ فهذه الاجتماعات كانت تخدم مصالح هذه الدول فحسب على حساب دماء الشعب السوري. هذا النظام “النظام المركزي” لم يكن حلاً للأزمة السورية بل زاد من تأزيمها أكثر؛ فالأنظمة المركزية لم تكن يوماً ما بديلاً لحلّ المشكلات الداخلية؛ فمعظم الأنظمة المركزية الشرق أوسطية هي أنظمة شوفينية تعاني من مشكلات داخلية ومن انعدام للديمقراطية، تسيطر على البلاد بقبضتها الأمنية وتعمل على ترهيب السكان وخلق صراعات داخلية بين مكوّنات المنطقة من أجل استدامة أنظمتها.
لذا؛ فإنّ أهم أسباب الأزمة السورية هو النظام المركزي الذي يقوم على إلغاء مكوّنات المنطقة (سياسياً واقتصادياً وثقافياً)، ومن أبرز الخلافات بين النظام السوري والإدارة الذاتية هو شكل النظام، كما أنّ هناك مناطق في سوريا تتطلّع لإنشاء إدارات ذاتية شبيهة بالإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، إلّا أنّ القبضة الأمنية للنظام والتدخّلات الإقليمية تقف في وجه تطلّعاتها؛ فالخلافات بين المناطق السورية حول شكل النظام وتمسّك هذه الأطراف بالنظام الحالي تجعل من الأزمة السورية عصيّة على الحلّ.
سوريا في ظل نظام لا مركزي
وهو ما تعمل عليه الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا بمشروعها الديمقراطي “الأمة الديمقراطية”، فهي ترى أنّ الحلّ الأمثل لإنهاء الأزمة السورية وحلّ الصراعات الدموية إنّما هو نظام لا مركزي، وهو ما أثبتته الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا في مناطقها؛ من التفاف مكوّنات المنطقة حول إدارتها وقواتها (قوات سوريا الديمقراطية) وتقف يداً واحدة في وجه الفتن التي تعمل عليها القوى المعادية لمشروع الأمة الديمقراطية (كروسيا وتركيا وإيران والنظام السوري)، وحتى الولايات المتحدة (شريكة قوات سوريا الديمقراطية في محاربة الإرهاب) لا تريد إدارة ذاتية قوية ومتماسكة تستمدّ قوّتها من قاعدتها الشعبية ومن جميع مكوّنات المنطقة. لم تكن الإدارة الذاتية، منذ نشأتها، عائقاً أمام أي حلّ ينهي الأزمة السورية، ولم تدخل في أي صراع مع الأطراف الأخرى لزيادة مساحة سيطرتها، بل كانت المحور الرئيسي في محاربة الإرهاب، في حين كانت الأطراف الأخرى في صراع دائم يخدم أجندة الدول الداعمة لها في سوريا، لذا؛ نجد أنّ جميع الأطراف والدول الإقليمية المنخرطة في الأزمة السورية تحارب الإدارة الذاتية ومشروعها الديمقراطي، كما يُقال “الشجرة المثمرة تُرمى بالحجارة”. ولنجاح هذا المشروع فإنّ المرحلة القادمة تتطلّب بذل المزيد من الجهود لمشاركة جميع أطياف الشعب السوري في الحلّ، وإيجاد حلّ سياسي يخدم السوريين في المقام الأول على أساس سوريا ديموقراطية.
لا يمكن التنبؤّ بمسألة أي من النظامَين (المركزي أم اللامركزي) سيسود في ظل الصراعات الدولية والإقليمية؛ فالأزمات والصراعات والتدخّلات الإقليمية قد لعبت دوراً كبيراً في تجاهل الأزمة السورية وجعلها بعيدة عن الحل لخدمة أجندتها في سوريا والمنطقة، وستلعب دوراً مهمّاً في تحديد شكل النظام في سوريا؛ فروسيا وحلفاؤها بالإضافة إلى دولة الاحتلال التركي تعمل على تثبيت النظام المركزي في سوريا؛ للحفاظ على مصالحها في سوريا، وتحارب بشكل مباشر وغير مباشر مشروع الأمة الديمقراطية التي تبنّتها الإدارة الذاتية، وبدورها تعمل الإدارة الذاتية على تثبيت مشروعها كحل للأزمة السورية، كما أنّ للولايات المتحدة دور كبير في شكل سوريا المستقبلية؛ فالعقوبات الأمريكية تستهدف النظام، وتدعم قوات سوريا الديمقراطية في مواجهة الإرهاب، ولا يمكن إغفال دور الشعب السوري في تحديد شكل النظام في سوريا.