تحدّيات الحاضر وآمال المستقبل الشرق الأوسط والإدارة الذاتية أنموذجاً

بُعَيد التجاذبات العسكرية بين إيران وإسرائيل وظهورها جلياً من الظلّ إلى الردّ العسكري المباشر، تبدو هذه الحادثة وغيرها سبباً بأن يكون الشرق الأوسط مأدبة للتنافس بين الدول، وقابلاً للانفجار في أي وقت.

في غضون ذلك، تطرح العديد من التساؤلات حول ما ستؤول إليه الأوضاع في الشرق الأوسط مستقبلاً، وتأثير المفاعيل والمتغيّرات إزاء مناطق الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا!

أولاً. أوضاع الشرق الأوسط مستقبلاً:

ممّا لا شكّ فيه أنّ الشرق الأوسط يئنّ تحت وطأة التوتّرات والتدخّلات الأجنبية، والحروب العسكرية التي تأخذ أشكالاً مباشرة وغير مباشرة عبر الوكلاء، ولا تنتهي بفرض عقوبات اقتصادية في كلّ من سوريا وإيران، وعمليات تهجير قسري من تركيا ولبنان وإسرائيل تجاه الفلسطينيين، ممّا يخلق حالة من عدم الاستقرار.

وما زاد من أزمة الشرق الأوسط دعم تركيا لتنظيم داعش وتحركاته ونشره للإرهاب؛ حيث كانت تركيا المستفيد الأوّل من انتشار هذا التنظيم في سوريا والعراق ومصر وليبيا وبالأخص في مناطق الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، وخلق ذرائع واهية للاحتلالات لتنفيذ جوهر الميثاق الملّي، ما يبرّر التهديد التركي الدائم لها في كل وقت.

من زاوية أخرى، إنّ انغلاق الأفق للحلول السياسية في المنطقة، بدءًا من الملف النووي الإيراني، والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وكذلك الحرب الروسية الأوكرانية، والأزمات الداخلية في كلّ من العراق ولبنان، وتدهور الاقتصاد في مصر وغيرها، يعني أنّ الفضاء السياسي شبه معدوم لأي حلّ ما خلا مناطق الإدارة الذاتية المتأثّرة بانسداد أي بوادر للحل في سوريا وبتراجع الليرة السورية، ممّا يتطلّب الاعتراف بمشروع الإدارة الذاتية وخروج القوات الأجنبية وردع الاعتداءات التركية.

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ الشرق الأوسط يشهد العديد من التحدّيات السياسية والعسكرية التي تواجهه، نتيجة تدخّل الفاعلين الأساسيين الدوليين والإقليمين، وتحويل الساحة السياسية فيه إلى ميدان لتصفية حسابات بين بعضهم بعضًا، كما شهد تحوّلاً هاماً نحو كسر التعدّدية القطبية الواحدة، والخروج من قيود التحالفات التقليدية إلى توسيع نطاق علاقاتها وإعادة توازنها.

وحرصاً على تنفيذ هذا التوجّه تسعى دول الشرق الأوسط لبناء شراكات جديدة وتنويع علاقاتها، مع انفتاحها بشكل متزايد على قوى إقليمية وعالمية جديدة، مثل الصين وروسيا. وتسعى من خلاله إلى تأسيس روابط جديدة وتنويع علاقاتها، بهدف تعزيز الفرص الاقتصادية، وتحقيق التعاون الأمني، وتوسيع نفوذها الدبلوماسي على الساحة الدولية.

ومن هذا المنطلق، يُمثّل هذا التحوّل صيغة جديدة للنظام الدولي في المنطقة، حيث لم يعد هناك قطب واحد مهيمن، بل تتوزّع القوى والتأثيرات على لاعبين متعدّدين. ويترتّب على ذلك مشهد أكثر تعقيداً، لكنّه في نفس الوقت أكثر تنوّعاً، حيث تتداخل القوى الإقليمية والدولية الجديدة مع القوى التقليدية، وتتأثّر جميعها بالتحوّلات الجيوسياسية العالمية.

ووفقاً لهذا التنافس الحاد، فمن البديهي أن يعجّ الشرق الأوسط بالتوتّرات المتزايدة، تغذّيها صراعات إقليمية مشتعلة، ونزاعات على النفوذ، وسباق تسلّح مقلق. وفي مقدمة ذلك الحرب في سوريا، والصراع المذهبي في العراق واليمن، حيث تسعى كلّ من إيران وتركيا لتعزيز نفوذها في هذه الدول، بينما تُقاوم دول أخرى، بدعم من الولايات المتحدة هذا التمدّد. ناهيك عن توسّع الاجتياح الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية مهدّدة آفاق حلّ الدولتين.

ومن الضروري التأكيد على أنّ ما يدفع إلى هذا الوضع المتأزّم أنّ كثيرًا من الدول قد غيّرت استراتيجياتها مع دول أخرى بعد فشل السياسات العدوانية فيما بينها، ولجأت إلى تبنّي أساليب  أكثر دبلوماسية، مع الحفاظ على مكتسباتها ومواجهة التحدّيات. فضلاً عن تعزيز قدراتها العسكرية ما يدفع سباق التسلّح هذا أن يلقي بظلاله على الاستقرار الإقليمي.

على المستوى الإجرائي، يشهد الشرق الأوسط تحوّلاً إيجابياً نحو التنمية الاقتصادية، حيث تتصدّر مشاريع البنية التحتية وإعادة الإعمار أولويات الدول، وتتركّز الجهود على تطوير الطرق والجسور والموانئ والمطارات، ممّا يعزّز الترابط الإقليمي ويسهّل حركة التجارة والاستثمار. هذا التوجّه يساهم في خلق فرص عمل، وتحسين مستوى المعيشة، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، ممّا يدفع عجلة النموّ الاقتصادي المستدام في المنطقة إلى الأمام.

كما وتشمل خطط التنمية في دول الشرق الأوسط تحديث الاقتصادات الوطنية، من خلال تعزيز الاستثمار وتطوير القطاعات الصناعية والزراعية وإنشاء مراكز لوجستية لتعزيز الاقتصادات المحلية وتطوير القدرات والتركيز على التعليم وتدريب الشباب، باعتباره جزءاً أساسياً من هذه الاستراتيجية.

بطبيعة الحال مستقبل الشرق الأوسط بكل إفرازاته السياسية والعسكرية، يبقى مرهوناً بقدرة الدول على إدارة صراعاتها بشكل سلمي من خلال الحوار والتفاوض، والتخلّي عن سياسات الهيمنة والتوسّع وتوحيد الجهود لاستقرار الأوضاع السياسية، وتعزيز التعاون الإقليمي في المجالات الأمنية والاقتصادية، وإدارة الموارد المتاحة بكفاءة وفعالية.

ثانياً. أوضاع الإدارة الذاتية في المستقبل:

تنفرد الإدارة الذاتية بتركيبة بنيوية فريدة بنظامها الفيدرالي الديمقراطي، ممّا يمنحها قدرة على التفاعل والتموضع كفاعل رئيسي في المشهد السوري، بدءاً من طرح مشروع فيدرالية شمال وشرق سوريا، مروراً بتشكيل الإدارة الذاتية الديمقراطية على كامل جغرافية المنطقة التي تنتشر فيها، وصولاً إلى طرح مظلّة سياسية جامعة لكل السوريين دون إملاءات من أحد.

وما من شكّ أنّ أيّة رؤية لمستقبل الإدارة الذاتية يرتبط بشكل وثيق بمسار الأزمة السورية، سواء كان ذلك من خلال تنفيذ القرار الأممي 2254 بضغوط غربية، أو من خلال التوافق مع الحكومة السورية وقبوله لنظام الإدارة الذاتية شريطة الحفاظ على خصوصيتها. فضلاً عن انخراطها في أيّة مظلّة سياسية جديدة تضمن الحفاظ على مكتسباتها، والتغلّب على التهديدات الخارجية، وضمان مشاركتها برسم مستقبل سوريا بشكل عام.

ومن المتوقّع أن تشهد الإدارة الذاتية انفتاحاً على عدّة أصعدة، مستندة على ما انبثق من مخرجات المؤتمر الرابع لمجلس سوريا الديمقراطية، الذي عقد في 20 كانون الأول 2023 والذي شدّد على الحوار مع المعارضة الوطنية السورية المؤمنة بالحلّ السياسي، والالتزام بقواعد حسن الجوار، والوقوف ضدّ جميع محاولات فرض التغيير الديمغرافي، وتهجير السكّان الأصليين، ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم، والعمل وفق برنامج وطني لإنهاء شتّى أشكال الاحتلال، والتحضير لانتخابات محلّية في مناطقها.

إنّ التطوّرات الأخيرة على الساحة السورية والإقليمية فيما يتعلّق بالحرب على تنظيم داعش، ومحاولات النظام السوري إشعال الفتن ونشر المخدّرات، ومحاولات تركيا تغيير معالم المناطق المحتلة في عفرين وكري سبي وسري كانيه، تشير إلى أنّ الإدارة الذاتية تسعى للحفاظ على مكانتها كفاعل مستقلّ قادر على ترتيب أوراقه في أي ملف منها أو فيما يتعلّق بملفّات أخرى كتسوية سياسية قادمة، مع التأكيد على التزامها بوحدة سوريا وسيادتها، وقدرة عالية على بناء مؤسّسات قوية، وتعزيز التماسك الاجتماعي، والحصول على اعتراف دولي، والانخراط بفعالية في العملية السياسية السورية.

ولا تدّخر الإدارة الذاتية أيّ جهد من أجل فتح حوار جادّ بين الأحزاب الكردية الرئيسية، وهو ما دعا إليه قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي لتوسيع مشاركة المكوّنات السياسية والشعبية في إدارة منطقة شرق الفرات، بهدف حلّ المسائل العالقة وتشكيل جبهة كردية موحّدة لتمثيل جميع المكوّنات الكردية وتعزيز شرعيتها على الصعيد الوطني، خصوصًا بعد فتح مكاتب المجلس الوطني الكردي كبداية للتوافق على رؤية سياسية موحّدة حول الحل السياسي، وشكل الحكومة، وحصص الإدارة، وغيرها من القضايا الهامة.

ولابدّ من التأكيد على أنّ الإدارة الذاتية تسعى لتحسين العلاقات مع تركيا عبر رسائل إيجابية ومبادرات سياسية، مثل استعدادها لمحادثات سلام بدون شروط مسبقة. بينما موقف تركيا في المقابل غير واضح، بالإضافة إلى صعوبة بناء الثقة وتلبية المطالب الأمنية والسياسية، غير أنّ الانفتاح على المعارضة السورية قد يفتح قنوات جديدة مع تركيا، والرغبة المشتركة في تجنّب الحرب قد تدفع نحو التعاون.

وتنطوي وجهة النظر حول الإدارة الذاتية باستثمار دورها الفعّال في مكافحة تنظيم داعش والمساعدات الدولية التي تلقّتها في هذا السياق لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية مع الغرب أو مع الدول العربية.  ولا يقتصر هذا المسعى على تسليم أبناء عناصر داعش الأجانب، بل يمتدّ إلى الحصول على دعم سياسي أوسع، وتحويل هذه العلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية من مجرّد تعاون أمني ضد داعش والنفوذ الإيراني إلى دعم سياسي لحل الأزمة السورية، وفقًا لبيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2254

ترى الإدارة الذاتية أنّ الانضمام إلى مظلّة سياسية معترف بها دوليًا سيعزّز موقفها التفاوضي، ويخفّف الضغوط الروسية الداعمة لعودة نظام الأسد وسيطرته على مناطق شرق الفرات.  هذا الاعتراف الدولي سيوفّر للإدارة الذاتية أوراق قوة إضافية في مفاوضاتها مع الروس والنظام، ممّا يمكّنها من تحقيق مكاسب سياسية وتحقيق مطالبها المتعلّقة بشكل الحكم والحفاظ على مكتسباتها الأمنية والإدارية.  بالإضافة إلى ذلك، قد يساهم هذا الاعتراف في الحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة وتعزيز الاستقرار والأمن.

زر الذهاب إلى الأعلى