الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إعادة ترتيب للشرق الأوسط

الصراع الديني في المنطقة تاريخياً:

ممّا لا شكّ فيه أنّ الشرق الأوسط هو مهد الأديان السماوية والحضارات الإنسانية التي انطلقت وانتشرت في أصقاع العالم، وعليه فإنّه يُعتبر من أهمّ المناطق جغرافياً في العالم، حيث تتجمّع فيها الأعراق والأديان في تشكيل صورة فسيفسائية متنوّعة، ولكن بالرغم من ذلك فإنّها تعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، لا بل إنّها كانت في حالة من الصراعات الدائمة على شكل صراع ديني أحياناً وعلى شكل صراع عرقي أحياناً أخرى، وربّما يكون هذا الصراع الدائم على هذه الجغرافيا هو بالأساس نواة الصراعات الأخرى في العالم بشكل مباشر أو غير مباشر. تُعتبَر الديانات السماوية الثلاث الرئيسية (اليهودية، المسيحية، الإسلامية) من الديانات الإبراهيمية نسبةً إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وعليه فإنّهم يُعتبَرون من أهل الكتاب والموحّدين لله الواحد في العقيدة والعبادة، وفي بداية عهد الإسلام ومع ظهوره في شبه الجزيرة العربية كان اليهود من المسيطرين على مفاصل الاقتصاد في تلك المنطقة، ومع ظهور الإسلام وانتشاره اعتبرهم محمد رسول الإسلام عليه السلام جزءاً من الأمم المتعايشة معهم ومن أهل الكتاب، حتى أنّ بعض المصادر التاريخية تؤكّد على مقاتلة اليهود مع المسلمين للبيزنطيين والفرنجة مع بداية ظهور الإسلام وانتشاره، كما تؤكّد بعض المصادر الإسلامية على أنّهم انقلبوا على المسلمين فيما بعد وتحالفوا مع قريش في محاربة الإسلام، لتبدأ من هنا حالة عدم التوافق ما بين الديانتين ويبدأ الشرخ فيما بينهما، ولتبدأ رحلة اليهود بالهجرة نحو الشمال من الجزيرة العربية وتمركزهم في بلاد الشام او ما باتت تُعرَف اليوم بفلسطين حالياً.

دولة قومية لمجموعة دينية:

كما هو معلوم فإنّ نموذج الدولة القومية هو نموذج بريطاني إنكليزي، بدأ العمل عليه مع نهاية القرن التاسع عشر وتطبيقه مع بداية القرن العشرين، حيث بدأت الغرف السرية البريطانية في تطبيق سياسة “فرّق تسُد” وتقسيم المقسّم مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية  العثمانية ومن ضمنها الخلافة الإسلامية وتشرذم الجيش الإنكشاري، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914م وبدء تبلور صورة القوة والضعف في الأطراف المتنازعة بدأت بالفعل القوى المهيمنة على العالم حينها وبالتحديد (بريطانيا – فرنسا) عن طريق ممثلَيهما (مارك سايكس وجورج بيكو) برسم خارطة الشرق الأوسط والعالم من جديد، وإعادة هيكلة التوزّع على أساس توزيع الحصص فيما بين المتحالفين، وبما أنّ اللوبي اليهودي كان ولا يزال مسيطراً على العالم اقتصادياً، فقد تمكّن وقتها من التواصل والحصول على وعد من وزير الخارجية البريطاني في آنذاك (آرثر جيمس بلفور)، وذلك بإنشاء وطن قوميّ للشعب اليهودي يضمّ جميع اليهود المؤمنين بفكرة وجود دولة جامعة لهم على أساس جغرافي موحّد ضمن دولة يكون فيها الأساس والعامل المشترك هو الدين اليهودي، ومن هنا فإنّنا نرى أنّ تشكيل دولة إسرائيل تناقض نفسها؛ وذلك لأنّها دولة دينية على أساس قومي.

إعلان إسرائيل وبدء الصراع:

بعد أخذ وعد صريح ومباشر من الوزير البريطاني سنة 1917م بتأسيس دولة قومية لليهود في جميع أنحاء العالم وجمعهم في جغرافية معينة طُرِح أكثر من خيار أمام المحفل اليهودي، وكما هو معروف فقد كانت الخيارات هي أوغندا والأرجنتين، ومن ضمن الخيارات المتاحة أمامهم فلسطين أيضاً، والتي تم اختيارها على أساس استنادهم تاريخياً إلى وجود هيكل سليمان فيها، والذي يعتبره اليهود أول معبد يهودي بناه النبي سليمان بأمر من والده النبي داؤود، والذي هدم أول مرة على يد الملك البابلي نبوخذ نصر 587 ق.م، وفي المرة الثانية على يد الملك المكدوني أنطيوخوس الرابع 170 ق.م، وفي المرة الثالثة على يد الرومان عام 70 م. ويؤكّد اليهود أنّ بقايا الهيكل أو آثاره ما زالت متواجدة تحت مسجد قبّة الصخرة التي بناها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بعد غزو الإسلام للمنطقة، وتعتبر هذه النقطة هي من أهم النقاط الخلافية ما بين اليهود والمسلمين على الأحقّية التاريخية لجغرافية المنطقة، ومن هنا بدأ الخلاف العقائدي والديني الذي امتدّ منذ أكثر من قرن.

اختزال الأزمات في الشرق الأوسط بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني:

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور القطب الأمريكي على الساحة الدولية أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تضع الخطط الاستراتيجية للسياسات الخارجية والداخلية لسيطرتها على العالم، وبطبيعة الحال كان اللوبي الإسرائيلي من الأوائل الذين تنبّهوا إلى ذلك، وتم ربط الأمن القومي الإسرائيلي مع الأمن القومي الأمريكي؛ وعليه فإنّ أي خطر على إسرائيل يمثّل خطرًا اعلى الولايات المتحدة الأمريكية مباشرةً، ومع إعلان دولة إسرائيل سنة 1948م بدأ تهجير الفلسطينيين وبدأ الشرخ الاجتماعي والديني فيما بينهم، وتطوّر فيما بعد حتى إلى حروب دموية سنة 67 و 73 والكثير من المجازر الدموية التي أودت بحياة الأبرياء، وتعتبر حركة التحرّر الوطني الفلسطيني أو ما باتت تُعرَف بحركة فتح هي الممثل الرسمي والشرعي للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، خاصة بعد التسوية التي حصلت ما بينهم وبين إسرائيل في اتفاقية أوسلو سنة 1993م في واشنطن برعاية أمريكية بحتة، خاصةً بعد هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على القرار الأممي بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي وظهور سياسة القطب الواحد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لكن هذا لا يعني عدم وجود أطراف وحركات أخرى تعارض أو تناقض توجّه حركة فتح، وعلى رأسها حركة حماس الإسلامية التي تأسّست على يد رجل الدين الإسلامي أحمد ياسين، والتي تتبنّى في خلفيتها فكر جماعة الإخوان المسلمين، والتي لا تؤمن بوجود إسرائيل أو الاعتراف بها أساساً، ولكنّها لا تمانع من وجود حلّ سياسي على أساس حدود عام 67 وحلّ الدولتين في الوقت الحالي.

حماس غزة عقبة أمام المشاريع الجديدة:

بحسب المتابعة والتحليل من قبل الكثير من المهتمين بالشأن الإسرائيلي الفلسطيني، هناك الكثير من الشكوك في نشأة حركة حماس من حيث الزمان والمكان، وعلى الأغلب ربّما تم اتخاذ القرار بتأسيسها كبديل أو منافس لحركة فتح ذات التوجّه والميول اليسارية، وبعضها  يتبنّى الفكر الماركسي (كالجبهة الديموقراطية والجبهة الشعبية وحزب الشعب الفلسطيني) وربما تكون النشأة كجزء من تسويق للإسلام السياسي الذي تم به محاربة الشيوعية والاشتراكية وقتها، كما حصل ما بين تنظيم القاعدة والاتحاد السوفيتي، كما هو معلوم فقد بدأ نجم حركة حماس بالسطوع بعد مشاركتها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية ونجاحها فيه وتفوقها على حركة فتح سنة 2006م والسيطرة على المجلس التشريعي، لكن ما تم بالفعل هو توجّه وتمرّد حماس في عدة اتجاهات أخرى وارتباطها بعدة محاور إقليمية، وأحياناً تكون هذه المحاور متناقضة فيما بينها أو ذات مصالح متباينة، هناك عدة مشاريع اقتصادية استراتيجية يمكن طرحها منها ما هو مطروح بالفعل ومنها ما هو مجرّد أفكار يمكن أن تكون بمثابة الطرح في المستقبل القريب، وحماس غزة تقف حجر عثرة في وجه هذه المشاريع من وجهة نظر إسرائيل والغرب وهي:

  • طريق التوابل الهندي بديلاً عن طريق الحرير الصيني: تم عرض هذا المشروع قبل فترة بشكل علني خلال قمّة مجموعة الدول العشرين والتي انعقدت في نيودلهي الهندية وتحت رئاسة الهند نفسها، ويتضمّن المشروع ربط الشرق بالشرق الأوسط وأوروبا عبر شبكة من السكك الحديدية والموانئ، ضمن استفادة مباشرة لكل من الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وصولاً لأوروبا.
  • مشروع بديل عن قناة السويس المصرية: يعتبر هذا المشروع مشروعاً قديماً وجديداً ويتم طرحه حالياً حيث أن إسرائيل تطرح مشروع خليج العقبة – ايلات – عسقلان، كخط بديل عن قناة السويس التجاري، حيث كان توقّف هذا المشروع مؤقّتاً بسب عدم وجود مموّل له، لكن في ظلّ توقيع المعاهدات الإبراهيمية الأخيرة مع عدة دول عربية وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة، وربما يكون هذا المشروع مرادفاً ومكمّلاً لطريق التوابل الهندي أساساً.
  • الشرق الأوسط الجديد: والذي تم طرحه بالشكل العلني بعد الدخول الأمريكي للشرق الأوسط بشكل مباشر عبر العراق سنة 2003م وإسقاط النظام العراقي المتمثل بحزب البعث العربي الاشتراكي وشخص رئيسها صدام حسين، وتقديم العراق على طبق من ذهب لإيران، إيران التي لا توفّر أي فرصة في تمرير مشروعها (الهلال الشيعي) وفرضه على المنطقة والهيمنة على المنافس في المعسكر المقابل السنّي العربي، وبكلّ تأكيد كلّ ذلك في خدمة صاحب المشروع الأساسي المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية والتي تريد تجسيد سايكس بيكو بعد مئة عام على مضيّه ولكن بنكهة ومصالح أمريكية بحته.

من أعطى الضوء الأخضر لحماس:

في الثالث والعشرين من شهر أيلول والخامس من شهر تشرين الأول المنصرمين رفعت تقارير استخباراتية لكل من وكالة الاستخبارات الأمريكية ال (CIA) ووكالة الاستخبارات الإسرائيلية ال (موساد)، عن وجود تحرّكات غير طبيعية في قطاع غزة وخاصةً في شمال القطاع، ولكن لم تؤخذ هذه التقارير على محمل الجد أو كما يجب التعامل معها من متابعة، وهذا يدل على أنّ هناك أكثر من إشارة استفهام على ما سبق وتحديد مَن يقف وراء هذه الحرب:

  • إسرائيل نفسها: بحسب المعطيات أعلاه فإنّنا نرى أو لا نستبعد بأن تكون إسرائيل هي من افتعلت هذه الحرب لغايات استراتيجية تتمثل فيما سبق ذكره من تطبيق للمشاريع الاقتصادية والتي تمرّ عبر الجغرافية الإسرائيلية، وعليه يجب خلق أرضية مناسبة لها من حيث الأمن والاستقرار والقضاء على حماس.
  • إيران كلاعب أساسي: يمكننا طرح اسم إيران أيضاً في افتعال هذه الأزمة وذلك لخلق بلبلة في المنطقة، وتحريك أحجارها على رقعة الشطرنج، وتصدير أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، وتخفيف الضغط الداخلي من الشعب الإيراني الذي يعيش في أسوأ حالاته بعد الضغوط الاقتصادية عليه، وتحريك الشارع المجتمعي منذ أكثر من سنة، بسبب حادثة الناشطة الكردية (جينا أميني)، ولكن وبعد مضي ما يقارب الشهر على هذه الحرب وبحسب التصريحات الرسمية من طهران والتصريحات الصادرة من أذرعها في المنطقة والمتمثل في خطاب رجلها الأول زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، يتبيّن أنّه ربّما يكون هذا الاحتمال ضعيفاً نوعاً ما.
  • حركة الإخوان المسلمين: حركة حماس هي حركة ذات خلفية إخوانية وترتبط بعدة محاور لدول إقليمية مثل قطر، تركيا، مصر في عهد مرسي، وبشكل عام فإنّ جماعة الإخوان المسلمين تكون ذات رؤية مشتركة وموحّدة نوعاً ما، وإذا ما استبعدنا الاحتمالَين السابقَين في خلق هذه الحرب فإنّ رأس النظام التركي يكون من ضمن الخيارات التي ربّما يكون لها يد في افتعال ما جرى؛ وذلك للتغطية على فشلها في محاربة الكرد وفتح جبهة جديدة من القتال في الشرق الأوسط، وخلق حالة من الفوضى الخلّاقة المبشّرة بها أمريكياً.

وبحسب آخر تصديق على ميزانية الدفاع الأمريكية، فإنّها أفرزت 61 مليار دولار لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، كما أنّها أفرزت 14 مليار دولار لإسرائيل في سبيل تسليحها ضد الحركات الراديكالية المعادية لها، وهذا يدلّ على مدى جدية الولايات المتحدة في القضاء على هذه الحركات التي تندرج تحت مسمّى الإرهاب وتطبيق مشاريعها الاستراتيجية في المنطقة، أمّا بالنسبة للأسرى الإسرائيليين في القطاع فيمكن المفاوضة عليهم في صفقات تبادل أو تطبيق بروتوكول هانيبال العسكري عليهم، والذي يتلخّص في (جندي قتيل خير من جندي أسير). أمّا مدى إمكانية تطبيق هذا البروتوكول على المدنيين فيتوقّف على تقديرات القادة الإسرائيليين أنفسهم.

مصير غزة وحماس والسيناريوهات المحتملة:

بحسب المتابعة وبحسب المجريات على أرض الواقع، فإنّ الحلّ العسكري أو الحسم العسكري ربّما يكون نوعاً ما بعيداً وصعب المنال في الوقت الحالي، كما يمكننا استنتاج أنّ هذه الحرب كان لابدّ منها، خاصّةً بعد وصول التطرّف الديني اليهودي إلى الحكومة في إسرائيل، وسيطرة حماس على قطاع غزة في الطرف المقابل والذي يمثل التشدّد الديني أيضاً، وعليه فإنّ هذه الحرب تُعتبَر بمثابة الانتحار لكلّ من حركة حماس وأيضاً التيّار الديني المتشدّد في إسرائيل والقضاء عليهم سياسياً كجزء من إمكانية تطبيق الاستراتيجيات في المنطقة، وربّما تكون هذه الحرب بداية جديدة لتطبيق مبدأ “حل الدولتين” واستبعادًا لكل مَن يقف عائقًا أمام هذا المشروع، خاصةً وأنّ التشدّد والتزمّت والراديكالية والأيادي الخفيّة لها سوابق في إفشال هكذا خطوات، وكمثال على ذلك اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين على يد المتشدّدين اليهود، وأيضاً اغتيال الرئيس التركي (توركوت أوزال) في حادثة تسميم مباشرة، لأنّه حاول إيجاد حلّ سياسي وسلمي للقضية الكردية في تركيا، ويمكننا أيضاً النظر في هذا الاتجاه وقراءة الأحداث على أن تكون بمثابة خطوة نحو الأمام في فرض حالة من التوازن والاستقرار في المنطقة، وتبقى الاحتمالات مفتوحة.

زر الذهاب إلى الأعلى