آفاق السياسة الدولية والإقليمية في الأزمة السورية

 

عندما هبّت رياح التغيير في سوريا كان الشعب مستعدًّا لها؛ لأنه عانى الأمرين في ظل النظام الفردي المستبد والقبضة الأمنية المحكمة، هذه الرياح أجّجت المظاهرات العارمة التي توالت وتتالت بشكل دراماتيكي لتشمل كامل الجغرافيا السورية، حيث لاقت آفاقاً واصداءً في المشرق والمغرب إيذاناً بإسقاط النظام الفاسد، وعلى أثر ذلك تدخّلت دول لتفعيلها أكثر ولإدارتها وتوجيهها وفقاً لبوصلة مخططاتها، وأوجدوا في الساحات والمناطق تنظيمات وميلشيات بأسماءٍ غريبة وألقابٍ عجيبة واختطفوا الثورة والثوار لضرب الأمن والأمان بدون رحمة، ولم تسلم من شرّهم الحدود والمقدّسات والتاريخ وسفك الدماء وهتك المحرّمات، وأدخلوا البلاد في الفوضى الخلاّقة –والتي تعني تقويض الاقتصاد وتدمير البُنى التحتية وتحويل المدن إلى هياكل وأوابد- بموجبها قضوا على مكوّنات وعناصر الحياة في البلاد وأصبح البلد مباحاً دولياً وإقليمياً وداخلياً. هذه السياسة المتّبعة إنّما هي سياسة ذات حدّين:

الحد الأول: النظام دكتاتوري فاسد ومستبد لا يراعي حقوق الأقليات ولا يعير اهتماماً لحقوق الناس في حرية الرأي والتعبير والصحافة وتكافؤ الفرص وحقوق المواطنة، حيث أصبحت البلاد مزرعة له يتصرّف بكل شاردة وواردة حتى أصبح الوضع كبرميل بارود انفجر في البلاد، لعلّ وعسى أن تسنح الظروف للإطاحة بهذا النظام.

أمّا الحد الثاني: فإنّما هو مخطّط ومبرمَج مختلَق ومفبرَك ومنسجِم مع قناعات الناس وينفتح على آفاق شتى، ألا وهي رسم خرائط للمنطقة من جديد في شرق أوسط جديد، ومن هنا بدأت المصالح تتضارب وتتشابك وتتناقض حول شرق أوسط كبير – فلذلك أخذت هذه المظاهرات والاحتجاجات بُعداً دولياً وإقليمياً وداخلياً.

 ولكي نفهم حقيقة الصراع لا بدّ من الوقوف على البُعد الدولي لنفهم طبيعة المصالح وأهداف هذه الدول على نحو أعمق. فالقضية السورية دوّلت:

-على الصعيد الدولي: لنتناول دخول هذه الدول ومصالحها دولة بدولة لكي نستنتج ما هو المنطقي من الأسباب والأهداف والنتائج.

والسؤال الأول: لماذا استجابت روسيا دعوة بشار الأسد مشكورةً؟

الجواب: سوريا دولة مهمة ذات موقع جغرافي هام؛ فهي عقدة المواصلات ومهد الحضارات وغنية بثرواتها الباطنية، وهدف روسيا هو الوصول إلى المياه الدافئة حيث الغاز الوفير، ولتعزز موطئ قدم لها في هذه البقعة الهامة لتواجه الغرب ومخططاته، فلذلك عقدت اتفاقات واتفاقات مع النظام المتأزّم وسلمت لروسيا الموانئ والمرافئ والمطارات، وبدورها روسيا استخدمت قوّتها الجوية المفرِطة ضد المعارضة واستطاعت أن تسترجع 70 بالمئة من الجغرافية السورية، وأصبحت روسيا هي المقاتلة وهي المدافعة إعلامياً في المنابر الدولية عن سوريا ونظامها البائد الذي غدا ألعوبة في يدها وأصبح القرار الروسي هو الساري في سوريا.

السؤال الثاني في البُعد الدولي: لماذا تدخّلت أمريكا وحلفاؤها في شرق الفرات؟

الجواب: أينما وُجِد التوتر وُجِد الأمريكان، وأينما دخلت روسيا فأمريكا لها بالمرصاد؛ فدخول أمريكا إلى سوريا ليس محض صدفة، بل هو دخول مخطّط وممنهَج وذو بعد استراتيجي ولو كان غامضاً وضبابياً، فهم مَن صرّحوا بالفوضى الخلاقة وهم من قالوا شرق أوسط جديد وكبير والذي يعني تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ، ستختفي دول مركزية وتظهر دول وتنقسم دول وتتحد دول، فأمريكا دائماً تجد أسباباً منطقية لدخولها في أية بقعة، لذلك تبرر دخولها بمحاربة التنظيم الإسلامي المتطرّف الذي هتك وارتكب أفظع الجرائم بحق البشرية، ووصلت جرائمه إلى الدول الأوروبية التي سارعت مع الأمريكان لخلق التحالف الدولي لمحاربة هذا التنظيم، والذي بموجبه قضوا عليه جغرافياً لحماية الأمن العالمي من شرّه، والذي لا يزال قائماً فكرياً وبشرياً بخلاياه النائمة والتي تنشط بين الفينة والفينة، وبدخول الأمريكان والتحالف في سوريا اتخذ الصراع بُعداً دولياً.

أما على الصعيد الإقليمي:

-لماذا تدخّلت تركيا في الشأن السوري؟

الجواب: تركيا دولة إقليمية مهمة ومتاخمة لبؤرة التوتر والصراع الدولي ولها مصالحها وأجنداتها الخاصة؛ فهي التي فتحت الباب على مصراعيه لدخول اللاجئين الذين استخدمتهم لمصلحتها، وهي التي ابتزّت أوروبا؛ وهدفها من هذا الدخول هو “أخونة” المنطقة وإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية وأحياء الميثاق الملي واحتلال أجزاء من سوريا وضمها ومحاربة الوجود الكردي وإجهاض مشروع الإدارة الذاتية بحجة أمنها القومي، وهي التي تدّعي بأنّها تحارب الإرهاب علماً أنها سلّحت وموّلت ودرّبت وأدخلت من مطاراتها وأوصلت بقطاراتها كل العناصر المتطرّفة وضخّتهم إلى كل من العراق وسوريا، بل أكثر من ذلك فهي التي سلّطت هذه المنظمات المتطرّفة على المناطق الكردية تحت ذرائع شتّى وتسميات مختلفة، بدءاً من عفرين /غصن الزيتون/ درع الفرات ونبع السلام انتهاءً برأس العين، وهدفها فصل المناطق الكردية عن بعضها ومنعها من الوصول إلى البحر، والطريف في الأمر أنّ تركيا تدّعي محاربة الإرهاب وهي راعية لخلق هذا الإرهاب.

أمّا على الصعيد الإيراني: فلماذا تدخّلت إيران ومنذ الأيام الأولى من الثورة السورية؟

الجواب واضح وبسيط: فالعلاقة السورية الإيرانية هي علاقة استراتيجية قديمة منذ حكم حافظ الأسد، فهي تعتبر سوريا دولة تدور في فلكها وممرّاً لها للوصول إلى البحر، إيران دولة متأزّمة داخلياً وهي دولة تحكمها حفنة من العقول العفنة ونظامها فريد من نوعه في العالم نظام ولاية الفقيه، تقيم أجنداتها على إدارة البلاد بالنار والحديد ولا مجال لحقوق الإنسان فيها وتبعثر مقدّراتها الاقتصادية في الخارج بهدف تصدير أزمتها المتفاقمة لكل من الحوثيين في اليمن وحماس في فلسطين وحزب الله في لبنان والميلشيات والأحزاب الموالية لها في العراق وسوريا لخلق ممر “الهلال الشيعي” ناهيك عن برنامجها النووي الذي يؤرق العالم ويهدّد الأمن والاستقرار في العالم.

أما على الصعيد الإسرائيلي: فهي دولة مدعومة شرقاً وغرباً، همّها القضاء على كل ما يهدّد أمنها في الداخل من قبل المنظمات الفلسطينية، وفي الخارج من قبل حزب الله ومن ورائه إيران التي تمده بالمال والسلاح لخلق البلبلة والفوضى فيها، لذا تضرب بلا هوادة كل الأماكن التي توجد فيها الميلشيات الإيرانية وحزب الله ومستودعاته وكذلك برنامجها النووي ومحاربته بشتى السبل والوسائل، فهي دولة داخلة في الصراع وبقوة.

أما على الصعيد العربي: فهي دول عصفت في بعضها رياح التغيير وما زالت تعاني من تداعياتها مثل ليبيا والعراق وتونس ومصر، ومنها من ركنت للهدوء النسبي، ومنها ما زال الصراع متأججاً فيها مثل السودان وليبيا واليمن، أما الدول الخليجية فهي دول غنية بثرواتها مستقرة نسيباً تظلهم المظلة الأمريكية.

بعد كل هذا السرد في البُعدَين الدولي والإقليمي، لا بدّ من إسقاطه على الوضع الداخلي السوري.

نتيجة لصراع جاوز عقداً من الزمن أصبح النظام متهالكاً اقتصادياً وعسكرياً بل من كل النواحي انعدمت فيه الحياة وفاحت منه رائحة الموت والدمار، أصبحت دولة منكوبة مسلوبة الإدارة تتحكم فيها روسيا إعلامياً وإيران بشرياً وهي متوغلة في مفاصلها بشكل كبير، كلتا الدولتين تقاسمتا سوريا اقتصادياً وجغرافياً بموجب اتفاقات مختلفة. هما الدولتان اللتان رسّختا كرسي الدكتاتور وأعادتا 70 بالمائة لحوزته لكنها أصبحت دولة فاشلة، وكتعويض لاستمرار نهجها لجأت إلى صناعة المخدّرات وأغرقت الخليج والدول المجاورة بالمخدرات ووصلت شظاها إلى مختلف الدول، فهي دولة بعيدة كل البعد عن الحل السياسي، راهنت وما زالت تراهن على الحل العسكري الذي تجد فيه بقاءها فهذا النظام مخادع ومراوغ ولا يمكن الوثوق به أبداً، يجيد اللف والدوران والتلاعب بالأدوار والمواقف لكسب المزيد من الوقت في إطالة أمد بقائه، مفتاحه في روسيا وإيران.

يرفض الجلوس مع المعارضة جملةً وتفصيلاً ويرفض الجلوس مع قوات سوريا الديمقراطية، علماً بأن هذه القوات تملك 30 بالمئة من الجغرافية السورية، هذه القوات والتي هي مكونة من النسيج السوري من عرب وكرد وكلدان وآشور، وهي التي دحرت أعتى منظمة إرهابية في العالم وهزمته في آخر معقل له في الباغوز، هي قوات بمشروع وطني هو مشروع “الأمة الديمقراطية” يعني الخط الثالث، وهي مع وحدة الأراضي السورية وسلامتها وبعيدة كل البعد عن مشاريع الانفصال والنيل من وحدة سوريا، هي التي حافظت على المؤسّسات وأرست  قواعد الأمن والاستقرار في شرق الفرات، واستطاعت إدارة المنطقة وأنجزت العديد من الإنجازات الضخمة في أهم القطاعات منها  الصحية والتعليمية والخدمية معتمدة على كل المكونات، وهي التي أنصفت المرأة وأبدت بها اهتماماً كبيراً لما لها من دور فعال في الحرب والسلم، وهي التي تمد يدها وباستمرار للدولة المركزية لإيجاد الحلول لكن عبثاً ما تحاول؛ فالنظام يضرب بكل هذه المواقف والإنجازات عرض الحائط.

 هذا السرد الكامل للأبعاد دولياً وإقليميا وداخلياً يقودني لهذا السؤال الذي هو مطلب كل سوري، إذن: ما هو الحل؟

-الحل في سوريا برأي ليس سهلاً، والحل في سوريا أيضاً ليس سهلاً والحل في سوريا أيضاً ليس قريباً. حالياً أمريكا تحاول أن تنظف المنطقة من العناصر الدخيلة في منطقة الميادين ودير الزور من الميلشيات الأجنبية والإيرانية، وتحاول الضغط وتشديد الخناق على النظام من خلال سن القوانين مثلاً / زعيم الكبتاغون / كذلك جرّ المنظومة العربية للكشف عن عورته وإظهار حقيقته بأنه لا يمتثل للشرعية الدولية/54 22/ فهذا النظام لا يستجيب ولا يزول بالحل السلمي، بل ربما بانقلاب عسكري وهذا الأمر مرهون بالتجاذبات الدولية والإقليمية، وسيظل الحل بعيداً ما لم تتبلور مصالح الدول الداخلة في الصراع.

زر الذهاب إلى الأعلى