عاد التوتر مجدداً إلى العلاقات الأمريكية التركية بعد فترة من الهدوء النسبي وذلك بعد رفض أنقرة الإفراج عن القس الأمريكي أندرو برونسون المحتجز في تركيا منذ نحو عامين، ووضعه رهن الإقامة الجبرية، وتأجيل استئناف محاكمته إلى شهر تشرين الأول المقبل.
قرار المحكمة التركية الذي اعتُبر سياسياً أكثر منه قضائياً، شكل صدمة للإدارة الأمريكية التي كانت شبه ضامنة للإفراج عن برونسون خاصة مع توسطها في إطلاق سراح المواطنة التركية أيبرو أوزكان التي تم اعتقالها في إسرائيل بتهمة العلاقة مع “التنظيمات الإرهابية”، وبات من الواضح أن الحكومة التركية تريد مقايضةً أكبر من أوزكان ليصل سقف مطالبها إلى مبادلة القس برونسون بالمعارض الأبرز لنظام أردوغان فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، والمتهم الأول بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا صيف العام 2016، وكذلك بالنسبة لرجل الأعمال التركي هاكان أوتيلا (الصديق المقرب لأردوغان) والمعتقل في الولايات المتحدة بتهمة اختراق العقوبات الأمريكية على إيران.
التوجه التركي لاقى ردة فعل قوية من الجانب الأمريكي وكان اللافت توحد معظم الجهات الأمريكية مثل البيت الأبيض والكونغرس والحزبين الجمهوري والديمقراطي ضد هذا القرار، حيث تم التنديد على نطاق واسع بقرار المحكمة التركية والمطالبة برد قوي ضده ابتداءً من تجميد صفقة تزويد تركيا بــ 100 طائرة مقاتلة من طراز إف 35، وفرض عقوبات اقتصادية على أنقرة، ووضع القيود على منح القروض لتركيا من المؤسسات المالية الدولية، وكان الأبرز تصريحات صادرة عن الرئيس ترامب ونائبه مايك بنس والتهديد بالعقوبات على تركيا، في حين هدد أردوغان باللجوء إلى التحكيم الدولي رداً على قرار تجميد صفقة الـ إف 35، ومن الواضح أن ترامب لن يفرط بنجاحاته في ملف كوريا الشمالية “البلد العدو” وإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين المحتجزين لدى بيونغ يانغ لعقود من الزمن، في مقابل عدم القدرة على تحرير سجين أمريكي واحد لدى تركيا؛ التي من المفترض أنها بلد صديق للولايات المتحدة.
التوترات في العلاقة الأمريكية التركية ليس أمراً جديداً، وتأتي ضمن مسلسل الشد والجذب بين الطرفين منذ عدة سنوات وتحديداً بعد المحاولة الانقلابية في تركيا والتي تم اتهام الولايات المتحدة بالتورط فيها خاصة مع إيوائها للزعيم الانقلابي المفترض غولن، كما كان التوجه التركي نحو شراء منظمة الدفاع الصاروخي الروسية الحديثة من طراز إس 400 سبباً رئيساً لاحتدام الخلاف بين الطرفين حيث تعتبر هذه الخطوة هي الأولى لدولة عضو في حلف شمال الأطلسي، إضافة إلى الرفض التركي للعقوبات الأمريكية المفروضة على طهران وإعلانها أكثر من مرة على لسان أردوغان ووزير خارجيته أن تركيا لا تنوي قطع علاقاتها مع طهران، ولن تتخلى عن شراء الغاز من إيران، بينما يعتبر الملف السوري وبالأخص الدعم الأمريكي لقوات سورية الديمقراطية ووحدات حماية الشعب والمرأة النقطة الجوهرية للتخوف التركي حيث لا تزال تركيا الأردوغانية تعتبر هذه القوات تهديداً لأمنها القومي وتطالب واشنطن بوقف دعمها، في ظل رفض أمريكي والاكتفاء بتنسيق الجهود مع تركيا لحفظ أمن حدودها الجنوبية على غرار ما جرى في ملف منبج حيث لم تثمر محاولات أردوغان وتصريحاته المتتالية عن تسليم منبج لإدارة تركية.
لا شك أن تركيا تحاول عبر هذه التوجهات الاستمرار في ابتزاز الإدارة الأمريكية للحصول على مزيد من التنازلات في ملفات المنطقة، وإظهار تركيا في موقف البلد القوي والمتماسك والقادر على الوقوف في وجه القوى العالمية بعد فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية وسعيه للتغلغل في منطقة الشرق الأوسط ولعب دور فاعل في قضايا ومشاكل المنطقة، واللعب على وتر تمثيل العالم الإسلامي، وخلق رؤية لدى الداخل التركي أن تركيا أصبحت أقوى في ظل الحكم الرئاسي الفردي ومصادرة دور المؤسسات الديمقراطية. والتهديد بالتقارب مع روسيا والقدرة على الاستغناء عن الدعم الغربي والابتعاد أكثر فأكثر عن حلف الناتو واستبدال العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا بتطوير العلاقات مع روسيا في مختلف الجوانب، لكن أردوغان يغامر بتكليف تركيا الكثير من الخسائر في المجالات الاقتصادية والدفاعية والسياسية مع استمرار تدهور الليرة التركية، وتزايد الأصوات بوضع حد للسياسات التركية وتدخلاتها المتزايدة في الشؤون الداخلية لبلدان المنطقة، وخاصة احتلالها مناطق واسعة في شمالي سورية، ودعمها للجماعات والتنظيمات المسلحة المصنفة على لوائح الإرهاب وعلى رأسها جبهة النصرة (على الرغم من تغيير اسمها إلى هيئة تحرير الشام)، ومشاركاتها في اجتماعات حل الأزمة السورية إلى جانب روسيا وإيران دون مشاركة الولايات المتحدة.
التحدي التركي المستمر للولايات المتحدة منذ حرب العراق عام 2003 وصل إلى درجة المخاطرة بنفاذ الصبر من الجانب الأمريكي الذي بات مطالباً بضغط من الرأي العام في الداخل بإيجاد حل لقضية القس برونسون، وهذا الحل بالتأكيد لن يأتي منفصلاً عن بقية الخلافات والقضايا العالقة بين الجانبين التركي والأمريكي؛ ومن المستبعد أن تقدم الولايات المتحدة أية تنازلات لتركيا وخاصة مع تماديها في سياسة التهديد والابتزاز، ومن المتوقع أن تؤدي الضغوط الأمريكية إلى إطلاق سراح برونسون بأقرب وقت ممكن مع السماح لتركيا بمواصلة استيراد الغاز الإيراني خاصة مع قناعة الإدارة الأمريكية بعدم وجود بدائل بالنسبة لتركيا في مجال توفير الطاقة في الوقت الراهن، وهذه البدائل حتى إن وجدت لن تكون أفضل من التعامل مع إيران لأنها تتمثل في استيراد الغاز من روسيا ما يوثق العلاقة التركية الروسية بشكل أكبر، ولكن الخيارات الأخرى تتمثل في التفاهمات الأمريكية الروسية حول سوريا تحديداً وإمكانية التوصل إلى تسوية للازمة السورية بعيداً عن الدور التركي ما يشكل ضربة للمشروع التركي في شمالي سورية، والاستمرار في دعم قوات سورية الديمقراطية وإيجاد صيغة للتفاهم بينها وبين النظام السوري بما يضمن وقف الحرب السورية والانتقال إلى صياغة الحل السياسي النهائي في سورية.
وفي المقابل من المستبعد أن تتخلى تركيا عن صفقة شراء منظومة صواريخ إس 400 الروسية على الرغم من التحذيرات الأمريكية والغربية، في ظل رغبة أردوغان للتخلص من التحكم الأمريكي بمقدرات بلاده العسكرية ما يشير إلى إمعانه في التقارب العسكري مع روسيا وصولاً إلى استبدال مقاتلات إف 35 الأمريكية بالمقاتلات الروسية من طراز سوخوي 57، وعدم الرضوخ للتهديدات الأمريكية والمغامرة بالخروج من حلف الناتو خاصة بعد تبخّر الأحلام التركية بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مع التأكيدات المستمرة من جانب القادة الأوروبيين باستحالة قبول عضوية تركيا على المدى البعيد، لكن هذا التوجه التركي لن يمر دون عقاب أمريكي وغربي يسهم في إعادة تركيا عقوداً إلى الوراء في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية، ويمكن أن يشكل القشة التي تَقْصُمُ ظهر أردوغان وحزبه وتعيده إلى نقطة الصفر، وتبشّر بقيام انتفاضة شعبية ضده في عموم تركيا خاصة مع تزايد الرفض الشعبي لسياسات أردوغان في المنطقة والداخل التركي بشكل خاص.