الجمهورية التركية الثانية الإسلاموية واستغلال الأحداث في المنطقة

 

لا يتوانى النظام التركي الإخواني في استغلال القضايا العربية المحورية “كالقضية الفلسطينية”، والأزمات كالأزمة السورية والليبية والعراقية، والأحداث الجارية كالتي تحدث بين إسرائيل وقطاع غزة، أو ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط في سبيل خدمة مشروعه الاستعماري واستغلال البلاد العربية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.

من أجل ذلك تتبع تركيا سياسة المعايير المزدوجة في سياستها الخارجية، فالخلافات العربية – العربية واختلاف أيديولوجياتها أفسحت المجال للنظام التركي للتدخّل في الشؤون العربية واستغلالها لخدمة أطماعه التوسعية، دون وجود أي قرار عربي رادع للأطماع التركية العثمانية الجديدة في المنطقة العربية.

النزعة الإسلامية أداة أيديولوجية خاصة بالرأسمالية

يقول المفكّر الكردي عبد الله أوجلان في المجلّد الخامس “القضية الكردية وحلّ الأمة الديمقراطية” (ص 498): إنّ النزعة الإسلامية أداة أيديولوجية خاصة بالرأسمالية، إذ تسلّطها على البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط، ولا علاقة لها بالحضارة الإسلامية، بل هي نسخة مشتقة من القوموية المتصاعدة في كنف هيمنة الحداثة الرأسمالية. وإنّ عجزها عن أداء دور يتخطى تجذير القضايا الوطنية والاجتماعية داخل الشرق الأوسط خلال القرنين الأخيرين، إنما يؤيّد هذه الحقيقة، وعليه فهي تشكّل العوائق الأيديولوجية والسياسية الأساسية، أمام الكومونالية والوطنية الديمقراطية، أما الإسلام الثقافي، فهو موضوع مختلف وتبنّي هذا الإسلام والدفاع عنه – ارتباطاً بالتقاليد – له جانبه الثمين والإيجابي”.

فالنظام التركي بقيادة حزب العدالة والتنمية هو حزب الدولة بامتياز، أكثر من كل الأحزاب السابقة، والنظام التركي حكومة “حرب خاصة” بامتياز، أكثر من كل الحكومات التي قبلها التي لم تتجرّأ على فعل ذلك لا بحق الكرد ولا بحق دول الجوار ولا حتى بحق العرب وحتى العالم.  فالنظام التركي الحالي يندفع وراء خلق تنظيم إسلامي للكونترا، بحيث يكون أشمل نطاقاً ويعمل على تسخير جميع التنظيمات والأحزاب والجمعيات الدينية في خدمة حربه الخاصة، إلى جانب تسخيره ثقافة الحياة الدينية في خدمة أطماعه ومآربه.

والسؤال الذي يمكن طرحه، ما هي ماهية الدولة التركية، هل هي دولة إسلامية تعمل على حماية ونشر الإسلام وتناصر القضايا العربية بحكم أنّها كانت يوماً ما تحتل معظم الدول العربية خلال الحكم العثماني؟

يدّعي أردوغان أنّه باني الجمهورية الثانية “الجمهورية الإسلاموية” وتبنّيه لزعامة الإسلام السنّي. بل الحقيقة أنّ الجمهورية الثانية هي من صنيعة النظام العالمي، وأردوغان ما هو إلّا أداة بيدها.

الرجل المناسب لتنفيذ مخططات النظام العالمي في الشرق الأوسط

 “أردوغان” لم يكن قادراً على الوصول إلى السلطة، وتغيير النظام التركي العلماني الذي بناه مصطفى كمال أتاتورك بعد انهيار السلطنة العثمانية إلى نظام إسلاموي سنّي إلّا بعد تقديمه فروض الطاعة للغرب وإسرائيل، وأنّه هو الرجل المناسب لتنفيذ مخطّطات النظام العالمي في الشرق الأوسط، فهو أول من اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل أثناء زيارته لدولة إسرائيل عام 2005 قبل اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما أنّه الرئيس الوحيد بين الرؤساء المسلمين والعرب زار قبر مؤسّس دولة الإسرائيلية، ومتحف الهولوكوست؛ لذا فإن النظام العالمي ولاستمرار سيطرته على الشرق الأوسط كان يتوجّب عليه أن تكون تركيا ذات توجّه إسلامي، بغية تنفيذ مخططاتها في منطقة الشرق الأوسط؛ كون التغييرات التي حدثت في عشرينيات القرن الماضي في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص الدول العربية، بدأت مع قيام الجمهورية التركية العلمانية الأولى على يد الغرب واليهود.

فتركيا الإسلاموية ما هي إلّا ورقة بيد النظام العالمي يحرّكها كما يشاء، ولا يمكن للنظام التركي الخروج عن الطريق المرسوم له، لذا فإنّ أردوغان ولحاجة الغرب إلى تركيا يعمل على زيادة حصّته من المكاسب التي يجنيها النظام العالمي من الشرق الأوسط؛ حيث حصل أردوغان مقابل ذلك على عفرين وكري سبي وسري كانيه والشمال السوري، والسماح له بالتدخّل في الأزمة الليبية والأزمة الأذربيجانية الأرمنية، كما أنّ الصمت الدولي تجاه الجرائم الإنسانية بحق شعوب شمال وشرق سوريا بشكل خاص وسوريا وبعض الدول المتأزّمة بشكل عام أو حتى في الداخل التركي هي نتاج الدور التركي في المنطقة. كما أن ادّعاء أردوغان مناصرته للقضية الفلسطينية، بما فيها حركة حماس الإخوانية، ما هي إلّا لخدمة مصالحه الداخلية والخارجية وعلى حساب الشعب الفلسطيني، وذلك من أجل تقوية علاقته مع إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً واستخباراتيا. فقد ذكر الرئيس التركي بعد استقباله للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في أنقرة “الزيارة التاريخية على حد وصف أردوغان” إنّ حجم التبادل التجاري بين بلاده وإسرائيل سجّل العام الماضي زيادة بنسبة 36% ليبلغ 8.5 مليار دولار، معربا عن ثقته في زيادة قيمته إلى 10 مليارات، وعلى عمق التعاون الاستخباراتي بين تركيا وإسرائيل. وعلى الرغم من ذلك نجد اليوم بعض الحركات الفلسطينية الإخوانية تدعم تركيا ونظامها الفاشي، وتؤيّد الجرائم الوحشية بحق أبناء مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا؛ وخير مثال على ذلك ما يحدث في عفرين من بناء مستوطنات بأموال قطرية.

 ازدواجية المعايير

أردوغان الذي يدّعي مناصرته للقضية الفلسطينية ويرفض القتل والتهجير، يكتفي فقط بالتنديد بالعملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، ويعلن الحداد على مقتل المدنيين، إلى جانب الخطابات المناهضة لإسرائيل التي “لا تسمن ولا تغني من جوع”، دون أن تكون هناك خطوات أو إجراءات “سياسية أو اقتصادية” تضغط فيها على إسرائيل لوقف عدوانها على الشعب الفلسطيني، وفي نفس الوقت كان هو نفسه قبل العملية الإسرائيلية يقتل ويدمّر البنى التحتية لمناطق الإدارة الذاتية؛ فقد دمر 17 منشأة نفط وغاز، و11 محطة كهرباء، ومحطتين للمياه، ومشفيين، و48 مدرسة ومركز تعليمي، و3 منشآت صناعية، و580 قصفًا جويًا وبريًا، و12 قتيلاً و55 جريحاً معظمهم  من المدنيين عدا العسكريين، وخلق أزمة اقتصادية كبيرة في المنطقة، كل ذلك خلال خمسة أيام فقط وهو ينادي بالإسلام.

لم يعد خافياً على أحد سياسة المعايير المزدوجة التي يقوم بها النظام التركي واستغلال جميع الأطراف، بحكم أنّ هذا النظام هو صنيعة النظام العالمي. ومع ذلك يفتخر بأنّه مؤسّس النظام الإسلاموي ويروّج للشعارات الرنانة، ويتشدّق بالأخلاق، ويلعب على وتر الدين؛ فأردوغان الذي حوّل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، وأوهم السذّج من المسلمين بأنّه سلطان المسلمين الجديد، في نفس الوقت يعمل على نشر الدعارة والرذيلة في تركيا.

فتركيا من أكثر البلاد الإسلامية التي تنتشر فيها الدعارة، ولها نقابة خاصة، فقد ارتفعت نسبة الدعارة منذ تولّي حزب العدالة والتنمية السلطة أضعافاً مضاعفة، وأشار تقرير صادر عن مؤسّسة “ماعت” للسلام والتنمية وحقوق الإنسان إلى أنّ تركيا تحتلّ المرتبة العاشرة حول العالم في تجارة الدعارة، موضحا أنه طبقًا للمادة 227 من قانون العقوبات القانون رقم 5237 تعتبر ممارسة الدعارة مهنة قانونية في تركيا، حيث تدرُّ تجارة الجنس على تركيا 4 مليارات دولار سنويا، كما ويعمل أردوغان على طرد اللاجئين السوريين الذين هاجروا من جرائم البعث وآلة الحرب الروسية والمليشيات الإيرانية وإعادتهم بشكل قسري إلى الشمال السوري لأهداف وغايات محلية وخارجية، بعد أن فقدت ورقة اللاجئين تأثيرها على الغرب وخضوع أردوغان للعنصريين القومويين الأتراك.

الخطر التركي على الأمن القومي العربي

 لا يتوقّف الأمر عند ازدواجية المعايير بين دعم القضية الفلسطينية قولًا ودعم إسرائيل فعلًا، ولا عند الجرائم الإنسانية في مناطق الإدارة الذاتية أو غيرها من المناطق، فتركيا الإسلاموية  لها وظيفة أخرى يُراد منها ( النظام العالمي  ) أكثر خطورة، وقد تمسّ الأمن القومي للبلاد العربية بشكل عام، حيث يُراد منها استلام زعامة التنظيمات الإرهابية ورعايتها، بحيث يكون النظام العالمي أكثر تحكّما بهذه التنظيمات الإرهابية عن طريق الدولة التركية ذات الصبغة الإسلاموية، وذلك من خلال قيام تركيا وبتمويل قطري بدعم التنظيمات الإرهابية وتحويلها إلى مرتزقة يعملون وفق الأجندة التركية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وتأثير ذلك يبدو واضحاً في سوريا وليبيا والعراق، وقد تمتد إلى بقية الدول العربية في المستقبل مع تغير موازين القوى الدولية. إلى جانب وجود أحزاب وتنظيمات سياسية ودينية ضمن الدول العربية، وأغلب هذه الأحزاب والتنظيمات وبمختلف تسمياتها تتبع لتنظيم الإخوان المسلمين أو للقاعدة أو لتنظيم داعش، وتؤمن بتوجّهات الدولة العثمانية الجديدة، وتهدّد الأمن والسلم الداخلي للبلاد العربية والأمن القومي العربي، باعتبارها تشكّل خلايا نائمة ستستيقظ عندما يُطلَب إليها في الزمان والمكان المحددَين لها، والمرتبطة بالتوجهات السياسية للدول العربية تجاه الصراع الغربي الروسي والصراع الغربي الصيني، ونظرتها المستقبلية للنظام العالمي.

الجمهورية التركية “الإسلاموية “ودورها في المنطقة والعالم

وفي هذا السياق لم تكن الجمهورية التركية الثانية “الإسلاموية ” داعمة للمسلمين وللقضايا العربية وبالأخص القضية الفلسطينية، بل تُعتبَر من أكثر الدول خطراً على الإسلام وعلى الدول العربية؛ فمن خلال ستار الدين بدأ أردوغان بتنفيذ مخطّطاته الاستعمارية باحتلال الأراضي العربية في شمال سوريا والعراق مستغلاً مخاوف العرب من الكرد بإقامة دولة لهم، ومشروع الأمة الديمقراطية -على حد زعمه- يهدف لتجزئة سوريا، في حين هو الذي يحتلّ الشمال السوري، ويرفض الانسحاب، ويعمل على تجزئة سوريا، ويحاول احتلال إقليم كردستان في العراق ولديه (40)قاعدة عسكرية في الإقليم، ويتدخّل في الأزمة الليبية عن طريق تنظيم الإخوان من أجل السيطرة على ليبيا سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، وهو ما شكّل خطراً على الأمن القومي المصري، إلى جانب استغلال الخلافات العربية – العربية، كالخلافات القطرية الخليجية والمخاوف الخليجية من التمدّد الإيراني، دون أن يكون له أي دور إيجابي ينهي أو يخفّف الأزمات التي تشهدها الدول العربية والعالم الإسلامي، بل في الحقيقة إنّ الدور التركي سلبي على  كافة الأصعدة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ودينياً؛ كون الجمهورية التركية الثانية هي من صنيعة النظام العالمي، ولعبة تحرّكه تحت ستار الدين، تهدف لإبقاء الشرق الأوسط تحت وصاية النظام العالمي ومنعه من التحرّر. فجميع المقاربات الإسلامية القوموية التي يُراد إحلالها محلّ الحداثة الرأسمالية “سواء الإسلام الراديكالي أو الإسلام المعتدل أو الإسلام الشيعي، كادّعاء تركيا بأنّها مناهضة للغرب” إنّما هي محض رياء، فهذه النزعة الإسلامية لبعض الدول ما هي إلّا أداة أيديولوجية خاصة بالرأسمالية، وتسلّطها على البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط، ولا علاقة لها بالحضارة الإسلامية؛ وبالتالي فهي لا تتعدّى كونها عميلة مقنّعة للهيمنة الرأسمالية.

زر الذهاب إلى الأعلى