المعادلة المعقّدة في شمال شرق سوريا
ما بين التصعيد التركي وطموح الإدارة الذاتية
مع تصاعد العمليات التركية ضدّ البنية التحتية الحيوية في إقليم شمال وشرق شوريا تدخل منطقة شمال شرق سوريا مرحلة جديدة من التعقيد السياسي والعسكري؛ وذلك بالتزامن مع إبداء أطراف تركية رغبتها في استئناف مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني.
في قلب هذا المشهد، تبرز الإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا كنقطة تصادُم بين المصالح الإقليمية والدوليةح ما يثير تساؤلات حول مستقبل الإدارة في ظل ضغوط أنقرة، ومواقف دمشق، ودور الولايات المتحدة.
تشكّل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا مشروعًا سياسيًا فريدًا في شمال شرق سوريا ونموذجاً جديداً في الحوكمة غير المركزية؛ لكنّ وجودها في منطقة تعجّ بالمصالح المتعارضة (وأبرزها تركيا وسوريا والولايات المتحدة وروسيا وإيران) مع التعقيدات المحلية، يثير تساؤلات جدّية حول إمكانية استمرار هذا المشروع السياسي ومستقبله.
يشكّل مستقبل الإدارة الذاتية عاملًا حاسمًا في تحديد مستقبل الحلّ السياسي في سوريا، ورغم تصاعد الضغوط العسكرية والاقتصادية، فإنّ الإدارة الذاتية تصرّ على الحفاظ على مكتسباتها، مُعتبرةً أنّ أيّ محاولة لزعزعة هذا المشروع لن تكون واقعية وستواجَه بمقاومة حازمة.
ورغم أنّ روج آفا في قلب الأزمة الإقليمية، فإنّ الإدارة الذاتية تشكّل ركنًا أساسيًا في توازنات الصراع السوري، وبناء عليه؛ تسعى أنقرة إلى إضعافها بوصفها تهديدًا للأمن القومي، في حين تدعمها الولايات المتحدة كحليف رئيسي في محاربة تنظيم “داعش”.
تسعى أنقرة إلى رفض وجود أي مشروع ديمقراطي على حدودها الجنوبية، مُعتبرة أنّ أيّ نجاح لهذا النموذج قد يشجّع الكرد داخل تركيا على المطالبة بهذا النموذج لحلّ القضية الكردية في شمال كردستان. لذلك؛ تنفّذ تركيا عمليات عسكرية متكرّرة في شمال وشرق سوريا، لإضعاف الإدارة الذاتية عسكرياً وسياسياً، وتزداد احتمالات توسّع هذه العمليات في ظلّ تصاعد التصريحات العدائية التركية ضدّ الوجود الكردي.
في السياق التركي؛ فإنّ التحرّكات التركية الأخيرة، بما في ذلك الضربات الجوية التي استهدفت المنشآت الاقتصادية في روج آفا، ورغم الحديث عن فتح قنوات تواصل مع القائد عبد الله أوجلان، فإنّ التحرّكات التركية الأخيرة تعكس نهجًا مزدوجًا، يجمع بين الحوار من جهة والضغط العسكري من جهة أخرى.
تبدو أنقرة مصمّمة على جعل إفشال الإدارة الذاتية شرطًا أساسيًا لأيّ تقدّم في مفاوضاتها المزعومة، وهو ما أكّده مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في حديثه لـ “المونيتور”، ولكنّه أوضح أيضا بجلاء أنّ أيّة محاولة لرضوخ الإدارة الذاتية “ستفشل”، وأنّ مصير القضية الكردية في سوريا لا يمكن أن يُملى من أنقرة، بل يجب أن يُناقش مع دمشق.
وبالنظر إلى المواقف الدولية؛ نجد أنّ الولايات المتحدة قد شكّلت حليفاً أساسياً للإدارة الذاتية عبر دعمها العسكري لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في حربها ضدّ تنظيم داعش، لكن الموقف الأمريكي تجاه الإدارة يبقى ضبابياً؛ فمن جهة ترغب الولايات المتحدة في الحفاظ على نفوذها في مواجهة النفوذ الإيراني والروسي، ومن جهة أخرى تسعى إلى تجنّب استعداء تركيا، حليفها في الناتو، وهذا التذبذب يجعل الإدارة الذاتية في حالة قلق مستمرّ أمام التهديدات التركية.
وبالتوازي؛ تزداد خيبة أمل المكوّنات في شمال وشرق سوريا من شركائهم الغربيين الذين “لا يمارسون الضغط الكافي” على تركيا لوقف عملياتها العسكرية.
في المقابل؛ يُبدي الروس موقفًا متردّدًا، بينما يواصل النظام السوري نهجه المتجاهل لما يجري رغم أنّ الهجمات التركية تنتهك السيادة السورية.
في هذا السياق، تُبرز تصريحات “مظلوم عبدي” أنّ تدهور الأوضاع الاقتصادية بسبب الحصار والعقوبات المفروضة على روج آفا يهدّد بإعادة تمكين تنظيم “داعش” واستقطاب الشباب العاطلين عن العمل. لذا؛ فإنّ استمرار الهجمات التركية لا يعرّض فقط الإدارة الذاتية للخطر، بل يُقوّض أيضًا جهود التحالف الدولي في مكافحة الإرهاب.
وفي احتمالات التسوية مع النظام السوري؛ يُشار إلى أنّ مستقبل العلاقات مع دمشق مرهون بتغيّر موقف أنقرة تجاه الكُرد؛ فطالما أنّ تركيا توحّد جهودها مع النظام ضدّ الإدارة الذاتية، فإنّ تحقيق أيّ تقدّم في المفاوضات السورية سيبقى بعيد المنال. ومع ذلك، فإنّ أي حلّ سياسي ناجح في تركيا، بخصوص المسألة الكردية، قد يفتح الباب أمام تسوية سياسية أوسع في سوريا؛ حيث أنّ الحكومة السورية تتبنّى رؤية رافضة لأيّ مشروع يتمتّع بالاستقلال عن السلطة المركزية. ورغم إبداء الإدارة الذاتية استعداداً للحوار، إلّا أنّ دمشق تصرّ على استعادة السيطرة الكاملة على كامل الأراضي السورية. لكنّ خيارات دمشق محدودة في ظل الانشغال بتثبيت سيطرتها في مناطق أخرى، وعدم رغبتها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الموجودة عسكرياً في مناطق الإدارة الذاتية. وبالتالي؛ تسير دمشق في سياسة احتواء وانتظار تآكل الإدارة الذاتية من الداخل، وتأليب بعض الأطراف للوقوف في وجه الإدارة لتتمكّن دمشق من فرض شروط تفاوضية قاسية عليها مع تغيّر الظروف الإقليمية.
كما تمثّل روسيا وإيران طرفَين أساسيَّين في المعادلة السورية؛ فتدعم موسكو دمشق في مساعيها لاستعادة الأراضي الخارجة عن سيطرتها، لكنّها في الوقت نفسه تحاول لعب دور الوسيط الخجول بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية. أمّا إيران، ورغم انشغالها بتعزيز نفوذها جنوباً، فإنّها تعارض أي مشروع ديمقراطي قد يفتح المجال أمام مطالب مشابهة للأقليات العرقية داخل إيران.
ومع فرضية سيناريوهات المستقبل؛ يعكس التصعيد التركي ضدّ الإدارة الذاتية استمرار التعقيد في شمال شرق سوريا، حيث تتشابك المصالح الإقليمية والدولية، وبينما تسعى تركيا إلى فرض إرادتها عبر الضغط العسكري، فإنّ السوريون في الإدارة الذاتية يصرّون على حماية مكتسباتهم السياسية والإدارية. وفي ظلّ هذا المشهد، يبقى دور الولايات المتحدة والتحالف الدولي حاسمًا في تهدئة التصعيد وضمان استقرار المنطقة.
استمرار الوضع الراهن:
قد تستمرّ الإدارة الذاتية على وضعها الحالي، معتمدة على التوازن بين الأطراف المختلفة، لكنّ هذا الوضع قد لا يدوم على المدى الطويل في ظلّ الضغوط المتزايدة من تركيا ودمشق.
تسوية سياسية مع دمشق:
قد يتم التوصّل إلى اتفاق بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية برعاية روسية، يضمن للإدارة شكلاً من الحكم الذاتي مقابل عودة مؤسسات الدولة إلى المنطقة.
عملية عسكرية تركية واسعة:
في حال تخلّت واشنطن عن دعمها للإدارة، قد تُقدم تركيا على توسيع عملياتها العسكرية لتفكيك الإدارة بالكامل؛ ما يؤدّي إلى نزوح واسع واضطرابات محلية.
تدخّل دولي أوسع:
قد تسعى قوىً غربيةٌ أخرى، مثل فرنسا وألمانيا، إلى دعم مشروع الإدارة الذاتية للحفاظ على الاستقرار ومنع عودة داعش، لكن هذا الدعم يبقى مرهوناً بالموقف الأمريكي.
بالمحصلة؛ تتداخل في مستقبل الإدارة الذاتية عوامل إقليمية ودولية معقّدة تجعل من الصعب التكهّن بمصيرها. تعتمد الإدارة حالياً على التوازن بين القوى المختلفة، لكنّها تواجه تهديدات وجودية من تركيا وضغوطاً من دمشق وتردّداً أمريكياً وغربياً. بناءً على السيناريوهات المذكورة أعلاه؛ يبدو أنّ أيّ استمرار لهذا المشروع يستلزم تسويات سياسية مع دمشق أو دعم دولي أكبر، وإلّا فإنّ احتمال فشل هذا المشروع تحت وطأة التهديدات يبقى قائماً.
وإنّ نجاح أيّة مفاوضات سلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني إنّما يعتمد على اعتراف أنقرة بالحقوق الكردية، ليس فقط داخل حدود تركيا، بل في سوريا أيضًا. أمّا إذا بقيت أنقرة متمسّكة بشرط إنهاء الإدارة الذاتية كشرط للسلام، فإنّ النزاع سيستمرّ، وستكون روج آفا على موعد مع جولة جديدة من التحدّيات والمقاومة.