السياسات المهدّدة لشمال وشرق سوريا

تكتسب مناطق شمال وشرق سوريا أهمية كبيرة في استراتيجية مختلف القوى الفاعلة في الأزمة السورية، لما تمتلكه من موارد طبيعية وبشرية، وموقع يتوسّط ثلاث دول، وبشكل عام لكل طرف من أطراف الصراع مشروع واستراتيجية معيّنة يرغب بتمريرها على كامل الجغرافية السورية، بما فيها مناطق شمال وشرق سوريا التي خالفت توقّعات مختلف القوى بانحدارها نحو الحرب الأهلية، بسبب تمكّن نخبها السياسية والثقافية من حماية مناطقها من الحرب العبثية والداخلية عبر اتفاقها على عقد اجتماعي وتعزيزها لحالة السلام الداخلي والديمقراطية المجتمعية، إلى جانب نجاح تكاتفها في القضاء على إرهاب داعش، إلّا أنّه في الوقت الحالي هناك قوىً تسعى للتأثير على هذا المشروع ووضعه في خدمة أجنداتها، وقوىً أخرى تسعى إلى القضاء الكلّي على هذه الإدارة والإرادة التي تبلورت في هذه المنطقة.

بشكل عام تواجه مناطق شمال وشرق سوريا تحدّيات مستقبلية جمّة؛ كون مختلف القوى تحاول اختراق مناطقها ومجتمعاتها وإحداث خلخلة في منظومتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، عبر اتّباع القوة الصلبة والناعمة بشكل يمكّنها من الهيمنة على المنطقة ومكوّناتها وإلحاقها بمشاريعها الاستراتيجية؛ ومن أبرز تلك التحدّيات:

  • الاحتلال المباشر، ويُعتبَر من أخطر السياسات التي يواجها إقليم شمال وشرق سوريا.
  • نشر وتعزيز كلّ من الأفكار الدينية المتطرّفة بشقيها السنية والشيعة من جهة، والأفكار القوموية من جهة أخرى لدى أبناء المنطقة.
  • السياسات البراغماتية الدولية.

هذه التحدّيات تشكّل محور السياسات المهدّدة لأمن مناطق شمال وشرق سوريا، الأمر الذي يفرض على المهتمّين بالشأن السياسي والعسكري البحث عن سُبل مواجهتها وامتصاص صدماتها باتباع مزيد من المرونة في الاستجابة لمختلف القضايا الداخلية، ودفع المجتمعات المحلية من خلال نخبها إلى مزيد من المشاركة في الإدارة والدفاع والرقابة.

الاحتلال المباشر كوسيلة من أجل إخضاع المجتمعات:

بعد أن فشل النظام التركي في الهيمنة على شمال وشرق سوريا من خلال التنظيمات التابعة له ومرتزقة داعش، اتّجه إلى فرض الاحتلال المباشر على المنطقة؛ واستناداً إلى نتائجه يُعدّ الاحتلال من أخطر السياسات التي تواجه أمن مناطق شمال وشرق سوريا ومكوّناتها، كونه يقضي على النظام الإداري لتلك المنطقة، ينفّذ عمليات تغيير ديمغرافي؛ عبر التلويح بسيف الإبادة أو تهجير السكان الأصليين من مناطقهم التاريخية لصالح أناس غرباء ووافدين من مناطق أخرى، الأمر الذي من شأنه إحداث خلل في التركيبة الديمغرافية والتاريخية والثقافية وحتى الذهنية والفكرية لتلك المنطقة المحتلّة، وهذا ما حصل ويحصل في مناطق عفرين وكري سبي وسري كانييه المحتلة من قبل الدولة التركية التي لا تزال متمسّكة بهذا النهج تجاه أبناء المنطقة، وما يشير إلى استمرار هذا التهديد هي تصريحات أردوغان الأخيرة حول القيام بعملية برية في مناطق شمال وشرق سوريا في الصيف المقبل، ومساعيه لرصف الأرضية لمثل هكذا عمليات مستقبلية، عبر الزيارات المكوكية لمسؤوليه إلى كل من أمريكا وعدد من دول المنطقة، ومحاولة الحصول على موافقة ضمنية منها، مستفيداً من الفوضى التي تلفّ المنطقة وخاصة تلك التي أفرزتها الحرب بين حماس وإسرائيل، والتي تراها الدولة التركية فرصة مناسبة من أجل احتلال مناطق جديدة من مناطق شمال وشرق سوريا، عبر إحداث اختراف في توازن القوى التي تتقاسم النفوذ على سوريا وكسب صمتها في أي اجتياح محتمَل، فهي تحاول أن تتظاهر وكأنّها مُسانِدة للقضية الفلسطينية ومعادية للوجود الأمريكي في المنطقة، وإيهام روسيا وإيران كقوة صديقة أو محايدة على الأقل في صراعهما مع الغرب، وبنفس الوقت استغلال علاقتها مع إسرائيل، ومنع تحوّل تركيا إلى قوة معادية لها بشكل يوهم الغرب بأنّ النظام التركي هو ضمانة استمرار ضعف أعداء إسرائيل.

نشر وتعزيز الأفكار الدينية المتطرفة:

لا تزال فكرة السيطرة على القلعة من الداخل من أقلّ الوسائل تكلفة للسيطرة على شمال وشرق سوريا مقارنة بالتدخّل العسكري المباشر، ويُعتبَر نشر الأفكار الدينية المتطرّفة بين المجتمعات المحلية هي الأخرى من إحدى السياسات الخطيرة والممنهَجة التي تتّبعها كلّ من تركيا وداعش من جهة انطلاقاً من فرض وصايتها على المذهب السنّي، وإيران وميلشياتها من جهة أخرى التي تعتنق الأفكار الشيعية المُسيّسة بالأيديولوجية الخمينية، فكلا الطرفَين يحاولان الهيمنة على مكوّنات المنطقة سواء بالترغيب أوالترهيب، من أجل تنفيذ مخطّطاتهما سواء في المناطق المحتلة ويسيطرون عليها أو المحرّرة، فدولة الاحتلال التركي تعمل على تحويل المناطق الخاضعة لسيطرتها في المناطق المحتلة إلى كتلة من نار تجاه الكرد وباقي المكوّنات الأخرى عبر اتّهامهم بالكفر والإلحاد، وتعمل على استغلال حالة الفقر الموجودة في المنطقة من أجل تشكيل ميلشيات مرتزقة وموالين لسياساتها وإيديولوجيتها؛ كي يتسنّى لها اختراق مجتمعات شمال وشرق سوريا وإدارتها السياسية والعسكرية عبر الإغراء بالأموال والسلطة. أمّا داعش والذي تتماشى مصلحته مع مصلحة دولة الاحتلال التركي فيتبع نفس سياستها، ويحاول الاستفادة من الفوضى والحرب الإسرائيلية على غزة؛ من خلال تصويرها كحرب بين المسلمين واليهود، من أجل كسب موالين جدد لأيديولوجيتها، وتعبئة صفوفها ورفدها بدماء جديدة، هذا ويمكن فهم الانتعاش الأخير لداعش وقيامها بعمليات ضد قوات سوريا الديمقراطية في هذا الإطار.

أما إيران وميلشياتها فهي أيضاً تحاول سحب تجربتها في مناطق غرب الفرات إلى مناطق شمال وشرق سوريا ونشر أيديولوجيتها بين مكوّناته، وخاصة في مناطق التماس كدير الزور، وذلك عبر عدةّ آليات؛ أولًا التجربة المريرة لأصحاب المذهب السنّي مع داعش وإظهارها للمذهب الشيعي كمبدأ للخلاص من الظلم. ثانيا تنسيب العديد من العشائر الموجودة في مناطق شمال وشرق سوريا إلى آل البيت من أجل تسهيل تشييعهم. ثالثا استغلال حالة الفقر الموجودة في عموم سوريا وتنظيم الأعمال الخيرية، من أجل كسب متعاطفين لأيديولوجية الخميني، وتنظيم الشباب منهم في ميلشيات عسكرية هدفها محاربة قوات سوريا الديمقراطية وقوات التحالف الدولي على السواء عبر تصويرهم كقوة كافرة، إلى جانب هذه الأمور تستفيد إيران وميلشياتها من الحرب بين حماس وإسرائيل؛ عبر تصوير نفسها على أنّها القوة الوحيدة في المنطقة التي تقف في وجه المخطّطات الغربية والإسرائيلية.

تُعتبر هذه السياسات من أخطر السياسات؛ كونها تتم باستغلال نقاط ضعف المؤيّدين لهذه الأفكار والإيديولوجيا المتطرّفة، إلى جانب ذلك يتحوّل المعتنق على إثر ذلك إلى شخص معادٍ لمكوّناته وبيئته المحيطة، وبالتالي التحوّل إلى مرتزق يعمل لدى أصحاب هذه الأفكار المتطرّفة الراغبة في السيطرة والهيمنة على مكوّنات المنطقة.

الأفكار القوموية البعثية:

يعمل أصحاب هذه الأفكار على تجديد وتغيير أطروحاتهم وكسب مؤيّدين جدد في مناطق شمال وشرق سوريا عبر سلسلة من الاتّهامات والادّعاءات، أوّلها تحريض المكوّنات ضد الإدارة الذاتية، عبر اتّهامها بالانفصال عن سوريا والادّعاء بعروبة الأخيرة. ثانيا تصوير الإدارة الذاتية بـ”الكردية” من أجل خلق حالة من التوتّر بين المكوّنات، وتحريض الأفكار القوموية المتطرّفة والعنصرية، عبر اتّهام قوات سوريا الديمقراطية بالتعاون مع أمريكا. ثالثا الترويج لعودة النظام السوري إلى المنطقة طيلة عقد من الزمن، وتسخير كوادر حزب البعث من أجل القيام بهذه المهمة، وذلك عبر حثّ الأشخاص على القيام بعمليات تسوية مع النظام السوري من أجل تعزيز سلطة الأخير في المنطقة، وتشكيل خلايا نائمة للقيام بالعمليات التخريبية ونشر الشائعات وأعمال الجريمة المنظّمة…إلخ.

السياسة البراغماتية الدولية في المنطقة:

تُعتبَر السياسات الدولية القائمة على اعتبار المصالح الاستراتيجية تجاه أي أزمة في العالم مصدراً للعديد من الأزمات الأخرى، وهذا ما يمكن تلمّسه في الأزمة السورية؛ فالدول المتدخّلة في الصراع السوري تسعى إلى توسيع مناطق نفوذها بغضّ النظر عن نظرة ورغبة مكوّناتها، كما أنّها تسعى إلى تحويل المنطقة إلى ساحة للتنافس الجيوسياسي في المنطقة وربطها بسياسة المحاور، من أجل تحقيق أجنداتها ومشاريعها في المنطقة، كما أنّها تستغلّ هواجس الشعب تجاه المخاطر المختلفة من أجل زيادة رصيدها في المنطقة؛ لذلك فخطر تعرّض المنطقة لمقايضة جيوسياسية ليس بالأمر المُستبعَد.

هذه السياسات المذكورة ووسائل أخرى كالحرب الخاصة والعمليات التآمرية من شأنها أن تقوّض استقرار مناطق شمال وشرق سوريا، والتي تُعتبَر من أكثر المناطق أمانًا وتنوّعًا على مستوى سوريا، مقارنة بمناطق النظام السوري والمناطق التي يحتلّها النظام التركي والتنظيمات المتشدّدة. إنّ مواجهة هذه السياسات ليس بالأمر السهل، ولكن يمكن التقليل من تأثيرها من خلال تعزيز الأمور التي تركّز عليها تلك السياسات المهدّدة، تتمثّل هذه الأمور بالديمقراطية وتماسك المجتمعات المحلية، وإقامة علاقات دبلوماسية متينة مع برلمانات الدول الديمقراطية والقوى الاجتماعية والثقافية في الدول الأخرى.

بالنسبة لمواجهة الاحتلال المباشر؛ يُعدّ امتلاك أسلحة نوعية من الأمور التي تعزّز السياسة الدفاعية لقوات سوريا الديمقراطية التي تعمل جاهدة على ردع القوى التي تحاول النيل من مكتسبات أبناء المنطقة واحتلال مناطق جديدة، وعلى رأسها الدولة التركية التي ستحاول- دون أدنى شك- زعزعة أمن واستقرار المنطقة على المستوى القريب والبعيد. في ظل الفوضى والحروب الخاطفة والهجينة على مختلف الجغرافية السورية والتصريحات المتوالية من قبل المسؤولين الأتراك حول غزو مناطق في شمال وشرق سوريا؛ وبما أنّ تنظيم داعش يشكّل أحد أدوات تركيا لاحتلال المنطقة، تتوجّب زيادة وتيرة عمليات مواجهته والقضاء على خلاياه، وهو ما يتم على أرض الواقع، إلّا أنّ هناك حاجة لإشراك المجتمع في مواجهة أيديولوجيته، بالإضافة إلى تطوير الدبلوماسية العسكرية مع القوى الرئيسية المنخرطة في الأزمة السورية، كونه لا يمكن حدوث أي احتلال مباشر دون ضوء أخضر من هذه القوى.

بالنسبة لمواجهة نشر وتعزيز الأفكار الدينية المتطرّفة والأفكار القوموية البعثية؛ فهذه السياسة تحتاج إلى وعي كبير من قبل مكوّنات المنطقة بهذه الأفكار العنصرية والمتطرّفة التي لا تطوّر واقعها الفكري بل تحوّلها إلى مجرّد أدوات لدى الآخرين، ويمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح في منطقة ديرالزور التي شهدت سلسلة من العمليات التآمرية الهادفة إلى زعزعة أمن واستقرار مكوّناتها، وجرّ شبابها إلى بحر من الدماء تحت مسمّيات وهمية وممنهَجة؛ لذلك ومن أجل إفشال هذه السياسة يتوجّب على مكوّنات المنطقة تعزيز مبادئ الأمة الديمقراطية بشكل أكبر؛ كونها تُعتبَر الحلّ الأنسب لمختلف القضايا التي تواجهها، علمًا أنّ هذه المبادئ والرؤى قد أثبتت فعاليتها على الأرض، من خلال الحفاظ على المنطقة من الأفكار القوموية والدينية المتطرّفة التي تحاول التغلغل في أفكار السوريين لضمان ديمومتها وديمومة الفوضى، كما أنّها تمكّنت من الحفاظ على ما تبقّى من الهوية الوطنية السورية التي اهترت في خضم الصراع الدموي الذي شهدته البلاد منذ آذار عام 2011م، بالإضافة إلى ذلك تقع على عاتق النخبة السياسية والثقافية وحتى مؤسّسات الإدارة الذاتية مواجهة الدعاية السوداء التي يشنّها النظامان التركي والسوري على المنطقة؛ عبر تكثيف تواصلها مع المجتمع المدني والأحزاب السياسية الديمقراطية والمثقّفين في مناطق النظامَين؛ بسبب وجود جهل كبير بحقيقة الإدارة الذاتية ومساعيها لإيجاد حلّ للأزمة التي تشهدها البلاد، إلى جانب ذلك يحاول النظامان المذكوران كسب الشعب في مناطقهما وإخماد الاحتجاجات التي تنطلق بين الفينة والأخرى عبر ربط جميع مآسيه وتدهور حالته الاقتصادية بالإدارة الذاتية وقسد؛ بغية معالجة مشاكلهما الداخلية وإيجاد مخرج لهما بعد فشل سياساتهما، وبروز طبقة كليبتوقراطية وأمراء الحرب في مناطقهما.

بالنسبة لكيفية التعامل مع السياسة البراغماتية الدولية في المنطقة، تُعدّ عملية إقامة علاقات دبلوماسية متينة مع برلمانات الدول الديمقراطية والقوى الاجتماعية والثقافية في الدول الأخرى، ومعالجة الذرائع التي تتّخذها بعض الدول مبرّراً لاتخاذ مواقف غير ودّية مع شمال وشرق سوريا، مثل الاتفاقية التي وقّعتها قسد مع التحالف الدولي لمحاربة داعش، ومذكّرات التفاهم مع روسيا، وبناء العلاقات المؤسّساتية مع مختلف مؤسّسات الدول الغربية والعربية والروسية، في المجالات التعليمية والصحية والثقافية والبلدية والتجارية والحقوقية.

زر الذهاب إلى الأعلى