استراتيجيات المشروع الإيراني في وادي الفرات وأبعاده

بالنظر إلى الخلفية التاريخية والاستراتيجية للمشروع الإيراني في وادي الفرات نجد أنّ إيران تعتبر وادي الفرات، الممتدّ عبر سوريا والعراق، منطقةً حيوية ضمن مشروعها الإقليمي في الشرق الأوسط.

 فمنذ عام 2003 بعد سقوط النظام العراقي، بدأت إيران بتوسيع نفوذها في العراق، وسرعانَ ما استغلّت الأزمة السورية في عام 2011 لتعزيز نفوذها في سوريا أيضاً.

 وادي الفرات، إذًا، يمثّل محورًا مركزيًا يصل بين أراضيها ومجال نفوذها الممتدّ نحو لبنان، هذه المنطقة تشكّل ممرّاً برّيًا استراتيجيًا يساعد إيران على تأمين خطّ إمداد غير منقطع لحلفائها في سوريا ولبنان، خاصة حزب الله.

وتسعى إيران إلى تعزيز وجودها في المنطقة العربية؛ من خلال توسيع نفوذها في دير الزور شرقي سوريا، حيث تمتدّ رؤيتها لتحقيق نفوذ أيديولوجي وسياسي في هذه المنطقة عبر نشر المذهب الشيعي بين السكان، فهذا المشروع يعتمد على استراتيجية استغلال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهشّة، والتأثير على التركيبة السكانية والهوية المذهبية، لتمكين مشروعها الإقليمي.

وتهدف إيران من خلال هذا المشروع إلى:

 – ضمان خطّ إمداد برّي دائم: يسعى المشروع إلى إقامة ممرّ آمن يصل إيران بلبنان عبر العراق وسوريا، هذا الممرّ يتيح لإيران نقل الأسلحة والمعدّات اللوجستية إلى حلفائها، ممّا يعزّز من قدرتها على التأثير في الشأن الإقليمي.

– بسط النفوذ المذهبي والاجتماعي: تعمل إيران على نشر الفكر المذهبي من خلال دعم الجماعات المسلّحة ذات الخلفية الطائفية، وإقامة مراكز دينية وثقافية لتغيير البنية السكانية والثقافية في المنطقة.

– السيطرة على الموارد الطبيعية: تسعى إيران للوصول إلى الموارد الحيوية كحقول النفط والغاز في المنطقة؛ لضمان تمويل عملياتها وتحقيق الاكتفاء الذاتي لمجموعاتها المسلّحة.

– إضعاف النفوذ الأمريكي والغربي: بسط النفوذ في وادي الفرات يمكّن إيران من تعطيل عمليات التحالف الدولي في محاربة الإرهاب وتعقيد الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة.

– إنشاء قاعدة شعبية محلّية: تهدف إيران إلى إنشاء قاعدة محلية موالية، تعمل كامتدادٍ ثقافي وعقائدي لمصالحها الإقليمية؛ من خلال استنساخ تجاربها في لبنان (حزب الله) واليمن (الحوثيين). وتعتبر هذه القاعدة ضرورية لتحقيق نفوذ طويل الأمد في سوريا، خاصةً مع احتمالية إجبارها دوليًا على مغادرة البلاد.

 تسعى إيران إلى بناء هذه القاعدة بشكل تدريجي وهادئ؛ بحيث تتجنّب الظهور العلني الصارخ وتتجنّب التدخّلات الدولية المباشرة.

– تقطيع أوصال المناطق السُّنّية: تركّز إيران في استراتيجيتها على المناطق الحدودية التي تصل بين العراق وسوريا، وتحديدًا بين الأنبار العراقية ودير الزور والرقة السوريتَين، لتكون حاجزاً أمام تواصل المجتمعات السُّنّية المنتشرة من شمال بغداد إلى المدن الكبرى في سوريا.

هذا الحاجز العقائدي والسياسي يُقصَد به قطع الروابط السُّنّية العابرة للحدود، وجعل المنطقة أداةً لضمان السيطرة الإيرانية وإبعاد النفوذ السُّنّي.

– استغلال التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية: في ظلّ تردّي الأوضاع المعيشية والاجتماعية في دير الزور ووادي الفرات بشكل عام، تقوم إيران بتقديم مساعدات ودعم مالي عبر مؤسسات إيرانية أو شخصيات محسوبة على المشروع الإيراني، لجذب ولاءات محلّية؛ وهو ما يعزّز من تواجدها في المنطقة. ويؤدّي هذا الدعم إلى تشكيل قاعدة اجتماعية تتقبّل الوجود الإيراني كجزء من حلٍّ اقتصادي، فيما تخضع تلك القاعدة تدريجيًا للتأثير العقائدي والسياسي.

– الاعتماد على شخصيات محلّية موالية: توظّف إيران شخصيات محلّية من أبناء المنطقة ممّن لديهم قَبول نسبي، مثل نواف البشير من قبيلة البكارة، وذلك لتدعيم نفوذها وإضفاء طابع محلّي على مشروعها. هذه الشخصيات تقدّم ولاءها لإيران بدافع منافع شخصية ضيّقة، وتدّعي أنّ معظم عشائر المنطقة تعود أصولها إلى آل البيت، وذلك لتبرير التحاقها بالمشروع الإيراني، ممّا يسهّل الترويج للمذهب الشيعي بين السكان المحلّيين.

كل تلك الاستراتيجيات التي تتّبعها إيران في سبيل تحقيق أهدافها في المنطقة تُنفَّذ دون ضجيج إعلامي، ويبدو أنّها حركة مضبوطة ومدروسة لوضع أساسات متينة، ويعتمد المشروع الإيراني في وادي الفرات على عدّة آليات مُحكَمة، منها:

– دعم وتجنيد الجماعات المسلّحة: عبر الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس، حيث قامت إيران بإنشاء مجموعات مسلّحة محلّية تدين بالولاء لها، وبتدريب ودعم هذه المجموعات، تفرض إيران سيطرتها على المنطقة من خلال تشكيلات عسكرية مؤيّدة لها، أبرزها الحشد الشعبي في العراق وميليشيات شيعية في سوريا.

– استراتيجية التغيير الديمغرافي: من خلال تشجيع العائلات الشيعية على الانتقال إلى مناطق ذات أغلبية سُنِّية وتقديم الحوافز المالية لهم، إضافة إلى إقامة مراكز دينية وثقافية؛ تهدف إيران إلى إحداث تحوّل ديمغرافي في المنطقة.

– التأثير الأيديولوجي والديني: تعمل إيران عبر رجال دين مدعومين ومؤسّسات دينية على نشر الأيديولوجيا الشيعية الإيرانية، وتعزيز الولاء الديني والاجتماعي لإيران بين السكان المحلّيين.

– السيطرة الاقتصادية: تعمد إيران إلى السيطرة على قطاعات اقتصادية مهمّة في المنطقة، وخاصة قطاعَي النفط والزراعة، ما يتيح لها موارد مالية مُستدامة تعزّز نفوذها.

– التغلغل في المؤسسات المحلّية: عبر العمل على تشكيل وإدارة وحدات إدارية محلّية في المنطقة، تعمل إيران على تكوين بُنية سياسية موازية للدولة، بهدف تعطيل القرار السياسي للحكومات المحلّية وتقوية سَطوة الميليشيات.

تأثير المشروع الإيراني على المجتمع المحلّي:

بالنظرة العامة لأهداف المشروع الإيراني واستراتيجيات وآليات تنفيذه نستحضر مضارّه الكبيرة على التماسك الاجتماعي أوّلا، وعلى الاستقرار والأمن وضمان التطوّر ثانيًا، وفي هذا السياق يمكن تحديد المخاطر المستقبلية للمشروع الإيراني في وادي الفرات في النقاط التالية:

– زعزعة الاستقرار الإقليمي: المشروع الإيراني يهدّد أمن واستقرار المنطقة عبر تعزيز الطائفية وتقويض الهياكل الحكومية الرسمية؛ ممّا يزيد من احتمالات الصراعات الداخلية والإقليمية.

– تفاقم النزاعات الطائفية: بسبب التغيير الديموغرافي والطائفي، يخلق المشروع الإيراني بيئة من الاحتقان الطائفي؛ ممّا يزيد من فُرَص اندلاع صراعات بين الجماعات المختلفة.

– تنامي النفوذ الإيراني في الإقليم: تحقيق المشروع الإيراني يعني زيادة النفوذ الإيراني على حساب دول المنطقة؛ ما يشكّل تهديدًا للدول ذات السيادة الضعيفة وللمصالح الغربية والأمريكية في المنطقة.

– المخاطر الأمنية على الدول المجاورة: انتشار الأسلحة الإيرانية في المنطقة قد يشكّل تهديدًا مباشرًا لجيران سوريا والعراق، ويزيد من صعوبة تحقيق الاستقرار الأمني في منطقة الشرق الأوسط.

– تحويل المنطقة إلى ساحة صراع دولي: المشروع الإيراني يستفزّ القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل؛ وهو ما قد يؤدّي إلى تصعيد عسكري طويل الأمد في المنطقة.

– التحوّل الاجتماعي والمذهبي: يؤدّي مشروع التشييع إلى تغييرات في الهوية المذهبية لسكان المنطقة، ويُحدِث انقساماً اجتماعياً داخل المجتمع المحلّي السُّنّي؛ هذه التحوّلات تهدّد نسيج المجتمع، وتخلق شرخًا بين المكوّنات المختلفة، ممّا يزيد من التوتّرات المذهبية ويؤدّي إلى تآكل الروابط التقليدية والتآلف الاجتماعي.

– زيادة التوتّرات الطائفية: مع ازدياد التأثير الإيراني المذهبي، تزداد التوتّرات الطائفية في المنطقة، حيث يمكن أن تتفاقم الصراعات بين المجتمعات الشيعية الناشئة والمجتمعات السُّنّية التقليدية؛ هذا التوتّر قد يؤدّي إلى بروز حالة من عدم الاستقرار، ويفتح المجال لأطراف خارجية للتدخّل، ممّا يزيد من تعقيد الوضع الأمني والسياسي.

– استغلال الفئات الأقلّوية اجتماعياً: يُعتبَر استغلال إيران لشخصيات تنتمي إلى الفئات الأقلّوية اجتماعيًا، مثل البشير، وسيلةً لتسويق المشروع الإيراني، وهذه الفئات قد ترى في المشروع الإيراني منفعة خاصة لها، لكنّ ذلك يتم غالبًا على حساب مصالح القبيلة الكبرى أو المجتمع المحلّي؛ ممّا يزيد من النقمة والتوتّرات المجتمعية.

خطر المشروع الإيراني على مشروع الأمّة الديمقراطية:

يمثّل المشروع الإيراني تحدّيًا بارزًا لمشروع الأمّة الديمقراطية في الشرق الأوسط، حيث يعتمد المشروع الإيراني على التوسّع الإقليمي وتعزيز الهيمنة الدينية والسياسية في المنطقة. يسعى النظام الإيراني لتوسيع نفوذه من خلال تعزيز سلطة الأنظمة الموالية له أو القوى المتحالفة معه، مثل الحركات الطائفية المسلّحة، لفرض نموذج “ولاية الفقيه” الذي يتناقض بشكل جوهري مع المبادئ التي يقوم عليها مشروع الأمّة الديمقراطية.

ففي حين يهدف مشروع الأمّة الديمقراطية إلى تعزيز قيم التعدّدية والحرية والمساواة والإدارة الذاتية، يقوم المشروع الإيراني على أساس تعزيز الهيمنة الأيديولوجية والتقسيم الطائفي، ممّا يؤدّي إلى زعزعة استقرار الدول وتغذية الصراعات الداخلية. ويُعتبَر التدخّل الإيراني في شؤون دول مثل سوريا والعراق واليمن مثالاً بارزًا على السعي نحو تعزيز نفوذها الإقليمي على حساب استقرار هذه الدول ووحدتها الوطنية. لذا؛ يمثّل المشروع الإيراني خطرًا على مشروع الأمّة الديمقراطية، كونه يقوّض الجهود الرامية إلى بناء شرق أوسط يعتمد على التعايش السلمي واحترام التنوّع الثقافي والاجتماعي والسياسي بين الشعوب.

فمشروع الأمّة الديمقراطية يسعى إلى بناء مجتمع قائم على التعدّدية والمساواة والحرية، على النقيض من المشروع الإيراني الذي يعتمد على الهيمنة المذهبية وتفكيك الهويات المحلّية لصالح النفوذ الأيديولوجي الإيراني.

ويمكن تحديد المخاطر ملخّصة في النقاط التالية:

  1. تقويض الهوية المجتمعية: يسعى المشروع الديمقراطي إلى تعزيز الهوية الجماعية والتعدّدية بين مكوّنات المجتمع السوري. بالمقابل، يعمل المشروع الإيراني على فرض هوية مذهبية ضيّقة تسعى لتغيير انتماءات السكان؛ وهو ما يقوّض المبادئ الديمقراطية ويؤدّي إلى استبعاد الفئات الرافضة للهيمنة الإيرانية.
  2. التأثير على الاستقلال السياسي: يسعى مشروع الأمّة الديمقراطية إلى بناء مجتمع سوري مستقلّ، غير خاضع للهيمنة الخارجية، لكنّ المشروع الإيراني يقوّض هذا الاستقلال عبر بناء ولاءات محلّية لإيران؛ ممّا يجعل المنطقة مرتهنة للقرار السياسي الإيراني ويؤدّي إلى تضاؤل القدرة على بناء دولة ديمقراطية مستقلّة.
  3. زيادة التبعية الاقتصادية: تعتمد إيران في جزء من مشروعها على تقديم الدعم المالي والمساعدات، ما يجعل المجتمعات المحلّية رهينة لهذا الدعم، ويزيد من التبعية الاقتصادية لإيران؛ ممّا يصعّب تحقيق التنمية المُستدامة والاستقلال الاقتصادي الذي يسعى إليه مشروع الأمّة الديمقراطية.

جميع تلك الآليات، التي يتم اتباعها في سبيل تحقيق أهداف تُعَدُّ خطراً حقيقياً على النسيج الاجتماعي في سوريا عمومًا ووادي الفرات خصوصاً، تحتاج الى مواجهة حقيقة وتضامنية بين أبناء المنطقة، واصطفاف حول إدارة أهل المنطقة للمنطقة بشرط المنهجية الواضحة وعدم التبعية، وفي هذا السياق يمكن تحديد سبل مواجهة المشروع الإيراني من قبل أبناء المنطقة.

لمواجهة المشروع الإيراني، يمكن لسكان وادي الفرات تبنّي استراتيجيات متعدّدة، منها:

– تعزيز الوحدة الداخلية وتجاوز الطائفية: يمكن لأبناء المنطقة التركيز على تعزيز الهوية الوطنية والتعايش بين المكوّنات المختلفة، للحدّ من استغلال إيران للخلافات الطائفية.

– تنشيط الوعي المجتمعي ضدّ النفوذ الأجنبي: العمل على توعية السكان بخطورة المشروع الإيراني وأبعاده على المستقبل السياسي والاقتصادي للمنطقة؛ يمكن تحقيق ذلك عبر الحملات الإعلامية ونشر الحقائق حول دور إيران في زعزعة الاستقرار.

– تعزيز دور المؤسسات المدنية والمجتمع المحلّي: يمكن تكثيف الجهود لبناء مؤسسات مدنية قوية مستقلّة، قادرة على التصدّي للنشاطات الإيرانية في المنطقة، والعمل على توفير الدعم للخدمات الاجتماعية المحلّية.

– توسيع التحالفات الإقليمية والدولية: يمكن لسكان المنطقة التحالف مع القوى الإقليمية والدولية المتضرّرة من المشروع الإيراني، بهدف تقوية الموقف المحلّي أمام التدخّلات الأجنبية.

– تشجيع بدائل اقتصادية مستقلّة: يجب العمل على تطوير اقتصاد محلّي مستقلّ بعيدًا عن سيطرة إيران؛ من خلال دعم المشاريع الصغيرة وتوفير فرص العمل للشباب بعيدًا عن الجماعات المسلّحة.

يُعَدُّ المشروع الإيراني في وادي الفرات تحدّيًا استراتيجيًا لأمن واستقرار المنطقة، ويحتاج إلى استجابة شاملة تضمّ الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ ومن خلال بناء وعي محلّي وتحالفات قوية، يمكن لسكان المنطقة مواجهة هذا التهديد وتحقيق مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.

المشروع الإيراني في دير الزور لا يقتصر فقط على نشر المذهب الشيعي، بل يمتدّ إلى تشكيل بُنية اجتماعية وسياسية موالية لإيران، ويتناقض مع التعدّدية والمبادئ الديمقراطية. هذه الاستراتيجية تهدّد الهوية المحلّية، وتزيد التوتّرات الطائفية، وتُضعِف فرص تحقيق مجتمع سوري مستقلّ. وبهذا يصبح المشروع الإيراني أحد التحدّيات الكبرى التي تواجه مشروع الأمّة الديمقراطية وسوريا المستقبلية ككلّ؛ وهو ما يستدعي مقاومته بأساليب تركّز على تعزيز الوعي المجتمعي، ودعم مشاريع التنمية المستقلّة، وبناء بُنية تحتية تضمن الاستقرار بعيداً عن التبعية لأيّة قوّة خارجية.

زر الذهاب إلى الأعلى