التخبّط التركي المستمرّ في السياسات الداخلية والخارجية

من الأخطاء التاريخية في فهم جغرافية المنطقة وإفرازاتها في القرن الماضي هي أنّ الدولة التركية ما بعد عام 1923م، وبالتحديد ما بعد اتفاقية لوزان، هي الوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية والخلافة الإسلامية المسروقة من العباسيين، من الأهمية بمكان تحليل هذه النقطة الهامة، وعليه يجب طرح أو تأكيد أنّ الدولة المدنية التركية الحالية هي دولة قومية منبثقة عن الإمبراطورية أو الخلافة الإسلامية المنهارة، مثلها مثل باقي الدول التي تشكّلت عقب الحرب العالمية الأولى في تطبيق للنموذج الإنكليزي للدولة القومية الضيّقة، والتي تحدّد القومية الواحدة وتحصرها في جغرافية محدّدة لها ورسم الحدود على هذا الأساس، تركيا وبعد خسارتها مع ألمانيا ودول المحور الأخرى في الحرب العالمية الأولى رضخت لإملاءات الطرف المنتصر بطبيعة الحال، وقد وقّعت مرغمة على عدّة اتفاقيات ومعاهدات تكون بطبيعة الحال استسلاميه وحسب فرض شروط المنتصر، فقد كانت هناك الكثير من هذه المعاهدات والاتفاقيات، نذكر منها معاهدة فرساي ومعاهدة سيفر ومعاهدة لوزان…….الخ، ونخصّ بالذكر هنا معاهدة لوزان 1923م لأنّها تعتبر المعاهدة الأكثر انهزامية للإمبراطورية العثمانية، وأيضاَ تعتبر بداية لنهاية حقبتها، وبدء ونقطة انطلاق الدولة المدنية التركية بشكلها الحالي، كما أنّ هذه المعاهدة تعتبر الأكثر غبناً بحق الشعب الكردي الذي خسر فيها كامل حقوقه في العيش على أرضه التاريخية بلغته وثقافته.

العلاقة الكردية – التركية خلال القرن الماضي:

لا الاتفاقيات مع الدول المنتصرة ولا سياسات القمع المتلاحقة للحكومات التركية استطاعت القضاء على الإرادة الكردية في المطالبة بحقوق الشعب الكردي في العيش الكريم، وعليه لم تنقطع الثورات الكردية منذ ما يقارب المئة سنة، ابتداءً من ثورة الشيخ سعيد بيران سنة 1925م، مروراً بثورة إحسان نوري باشا في أرارات وأكري سنة 1937م، وصولاً إلى ثورة حزب العمال الكردستاني سنة 1978م التي كانت بمثابة القفزة النوعية في تاريخ الثورات الكردية في تركيا وعموم أجزاء كردستان الأخرى، الثورة التي اعتمدت على أيديولوجيا وفكر حديث بعيد عن القيادة التقليدية والتي كان يقوم بها زعيم قومي قبلي أو رجل دين معتمد على التيار الديني من أتباع ومريدين، فلم يعد خافياً على أحد مدى أهمية هذه الثورة في التاريخ الكردي الحديث؛ حيث استطاعت هذه الحركة ومن خلال منظّريها الأوائل -وعلى رأسهم السيد عبد الله أوجلان- من تحقيق خطوات هامة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وطرح القضية الكردية في المحافل الدولية على أنّها قضية أرض وشعب، وأنّها ليست كما يريد المحتل لكردستان طرحها على أنّها مسألة أمن للدولة وإرهاب.

من سياسة “صفر مشاكل” إلى ما لا نهاية مشاكل:

منذ نشوء تركيا المدنية الحديثة، وفصل الدين عن الدولة، وهي تحت سيطرة شبه تامة لهيمنة حزب الشعب الجمهوري والذي كان مصطفى كمال أتاتورك يعتبر الأب الروحي له، وعليه فقد كان المزاج العام التركي بشكل عام يعتبر أو يرى في هذا الحزب المخلص والمنقذ الدائم له، في عام 2002م ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم فقد كانت بمثابة الضربة لقيادات الحزب، وبالتالي خلق إشارات استفهام لهذا الوصول وكيفية طرح هذا التيار الإسلامي كبديل عن التيار القومي المتزمّت، وفعلاً كانت سياسات حزب العدالة والتنمية الناعمة مصدر ارتياح محلّي وإقليمي ودولي، وإمكانية طرحه هكذا نوع من البدائل لبعض القيادات القوموية في المنطقة، وعليه فعلاً تم تداول مصطلح (الإسلام المعتدل) كبديل عن الإرهاب الذي ألصق بالإسلام الراديكالي المتشدّد، والذي كان يمثّله وقتها وفي ذروته تنظيم القاعدة في “تورا بورا” بأفغانستان، بطبيعة الحال إنّ هذه الصورة لم تتوضّح إلّا بعد مرور أكثر من عقدين على ما مضى، وفعلاً ومع صول العدالة والتنمية بدأت الكثير من الأمور في التغير، منها ما هو جذري ومنها ما هو مرحلي، وبدأ بخطوات اقتصادية هامة على صعيد الاقتصاد التركي وفسح المجال أمام الحريات العامة؛ وبالتالي فإنّ الخطّة المرسومة كانت تسير على قدم وساق، هكذا حتى بدأ ما بات يعرف بالربيع العربي أو ربيع الشعوب مع نهاية عام 2010م والذي انطلق من الشمال الافريقي وصولاً إلى الشرق الأوسط، ومع انحراف تركيا عن الخط المرسوم لها بدأت سياسة “اللانهاية مشاكل” بتدخّلها في أزمات المنطقة ودول الجوار والعودة إلى نقطة البداية في خلق الأزمات، منها ما هو قديم ومنها ما هو جديد، ابتداءً من الأزمة في رسم الحدود المائية مع الجارة اليونان، والتدخّل المباشر في الأزمة السورية، والدعم المباشر لجماعة الإخوان المسلمين في كل من مصر وليبيا، والتدخّل والدعم المباشر لأذربيجان على حساب الجار الأرمني، ومشاكل الحدود مع الجار العراقي تحت مسمّيات وحجج مكافحة الإرهاب …….الخ. كل ما سبق كان من الأسباب المباشرة لخروج تركيا العدالة والتنمية بوجهها الإسلامي المعتدل عن مسار الخط المرسوم لها.

بقاء أو إبقاء أردوغان في قمّة السلطة نعمة أم نقمة:

إنّ المتابع للانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة في تركيا، ومن خلال تحليلها، يجد أنّ أردوغان ربما تم إعادة تعيينه أكثر من إعادة انتخابه، ويتبيّن ذلك جلياً وبشكل واضح من خلال عدم الشفافية الانتخابية أو متابعة دولية أو حتى محلية لسير عملية الانتخاب وتشكيك الكثير من الجهات في مدى مصداقيتها، ويتبيّن ذلك بشكل أكثر وضوحاً من خلال النتائج المتقاربة جداً ما بين أردوغان وبين منافسه في حزب الشعب الجمهوري، وبالتالي يبدو أنّ الدور الوظيفي لأروغان بالنسبة للسياسات العالمية لم ينتهِ بعد؛ وعليه فإنّ بقاء أردوغان في قمة هرم السلطة ضرورة لا بدّ منها لأسباب يمكن ذكر بعضها لا حصرها في:

– عدم وجود رأس للعالم الإسلامي للمذهب السنّي، عكس المذهب الشيعي الذي يعتمد بشكل أساسي على وجود المرجع الديني الأعلى.

– إتاحة فرصة لخلق أو إيجاد البديل المناسب مع انشقاق الكثير من رفاقه عنه أمثال (عبد الله غول – داوود أوغلو– علي باباجان) وكان قد تم طرح أسماء مثل صهره (بيرات البيرق)، ووزير خارجيته الحالي ورجل المخابرات الأول سابقاً (هاكان فيدان).

السياسة التركية الجديدة تقاربات وتفاهمات أم رضوخ وتنازلات؟

كما أسلفنا فإنّ سياسات تركيا خلال العقد الأخير بشكل خاص كانت دائماً مصبوغة بالتأزيم والمواجهة والتضاد، وعليه فقد كانت تخلق الأزمات من اللاشيء ولأجل اللاشيء؛ وبالتالي فقد أصبحت منبوذة إقليمياً ودولياً، ومن أهم التناقضات التي عاشتها خلالها التقارب مع التيار الشرقي على حساب التيار العالمي الغربي المنتمي له أساساً من خلال منظومات وتحالفات دولية والمتمثلة بحلف الشمال الاطلسي (الناتو)، ومع إبرامها لصفقة صواريخ S400)) مع روسيا الاتحادية فقد وضعت نفسها في متاهة تسليحية لا يمكن الخروج منها بسهولة، لأنّ هذه الصواريخ بالأساس هي موجّهة للدفاع عن أيّ اعتداء من التحالف المنتمي إليه؛ وبالتالي فانّ هذا التناقض أو التضاد من شأنه خلق المزيد من الهوة ما بين تركيا والغرب، وبالتالي فإنّه في نهاية الأمر لا بدّ من تحديد للسياسة الاستراتيجية، وتحديد طرف على حساب الطرف الآخر، وأنّ سياسة “اللعب على الحبلَين” لا يمكن أن تدوم إلى ما لا نهاية.

مصر وزيارة أردوغان الأخيرة لها تؤكّد مدى أهميتها كإحدى الدول العربية والإقليمية الهامة في رسم سياسات المنطقة، وبالتالي التقارب معها أمر مفروغ منه، خاصةً وأنّ مصر لها دور تاريخي في العلاقات التركية – العربية، وكان لاتفاق القاهرة من الأهمية في وضع الخطوط العريضة لاتفاقية لوزان، كما كان لها الدور الرئيسي في إنهاء الأزمة ما بين تركيا وسوريا في نهاية عام 1998م، على أثر الخلاف بينهما بسبب الملف الكردي، ووضع ورعاية اتفاقية أضنة الأمنية ما بين الجانبين على حساب الحقوق الكردية.

العلاقات مع الجار العراقي والزيارات المكوكية للمسؤولين الأتراك -بمناسبة أو بدونها- والتأكيد الدائم على مكافحة الإرهاب وضبط الحدود، مع العلم أنّ النقاط والقواعد التركية ضمن الأراضي العراقية أصبحت موضوع شكّ وقلاقل بالنسبة للشعب العراقي الكردي والعربي على حدّ سواء، ولكن بسبب بعض المصالح الضيقة لبعض الفئات المستفيدة مادياً واقتصادياً يتم التغاضي عنها.

أمّا بالنسبة لسياسة العدالة والتنمية تجاه القضية العربية والإسلامية المركزية (الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني) فقد أصبحت واضحة وضوح الشمس، فهي لا تتعدّى اتّخاذها شماعة إعلامية للاستفادة منها قبل أي استحقاق انتخابي، أو لحشد بعض الأصوات التي تنادي للاتجار بالقضية ليس إلّا.

أمّا بالنسبة للملف السوري فقد أصبح واضحاً وجلياً أيضاً لكل متابع مدى تبعية المعارضة السورية الانهزامية والمستسلمة لقرارات أنقرة وخروجها من مسار الثورة والمطالب السورية وخضوعها التام للإملاءات التركية، وتحويل القوة العسكرية المعارضة إلى مرتزقة تستفيد منهم في ملفاتها العسكرية في كل من ليبيا وأذربيجان ….. الخ.

الأطماع التركية في الطاقة السورية:

لقد أصبح بديهياً لكل متابع للشأن التركي بأنّ رأس النظام -وقبل أي استحقاق انتخابي- يقوم ببعض الحركات البهلوانية وحروب دونكيشوتية مع دول الجوار، وعلى رأسها ساحة شمال وشرق سوريا وجنوب كردستان، بحجج واهية تدّعي تركيا فيها الحفاظ على أمنها القومي، وربّما تعتبر تصريحات زعيم الحركة القومية التركية المتطرّف (دولت بخجلي) الأخيرة حول ضرورة التوغّل ضمن الأراضي السورية لمسافة 60 كم خير دليل على ذلك، وأيضاً الاستهدافات الأخيرة لآلة الحرب التركية للبنى التحتية الخدمية والمدنية من محطّات للطاقة النفطية والكهربائية، للتغطية على فشلها العسكري في مناطق الدفاع المشروع في مواجهة مقاتلي حركة التحرّر الكردستانية في جبال كردستان، بكل تأكيد تعتبر تركيا في رأس هرم الدول التي كانت على علاقة وثيقة مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش)، وذلك  بحسب ما ظهر للعلن من وثائق وكتب ملموسة، من خلال التعاملات المالية الضخمة التي حصلت عن طريقها وشركاتها وبنوكها ومكاتب الحوالات والصيرفة، فبعد خسارة داعش للحدود المباشرة مع تركيا انقطعت عن تركيا موارد الطاقة السورية المسروقة والتي كانت تبيعها داعش بأبخس الاثمان لتمويل عملياتها الإرهابية والتي أثّرت بشكل مباشر على الاقتصاد التركي المتهالك أصلاً، وبالتالي فإنّ كل هذا الضغط ربّما هو نوع من المساومة للحصول على حصّة لها في الثروات السورية، حتى مسألة المساومة على مياه الفرات أيضاً يمكننا ربطها بهذا المحور.

في النتيجة وكما يبدو أنّ حزب العدالة والتنمية ورأس هرمها قد خرجا عن الخط المرسوم لهما، ويبدو أنّهما أصبحا يشكّلان القلاقل للغرف المعتمة التي ترسم السياسات الدولية، وبالتالي فانّ العمر الافتراضي قد انتهى ومسألة التغيير باتت مسألة وقت، خاصةً مع وجود هذا الكمّ الهائل من الأزمات الداخلية والخارجية، وعلى رأسها المطالب الكردية الداخلية والحريات والاقتصاد؛ وبالتالي فإنّ الانتخابات البلدية ربّما تكون بمثابة الفرصة الأخيرة له.

زر الذهاب إلى الأعلى