الساحل السوري وكشف القناع

تشهد منطقة الساحل عمليات عسكرية تقوم بها إدارة العمليات العسكرية ومرتزقة الاحتلال التركي، وبحسب تعبيرهم، فإنّ هذه العملية تستهدف فلول النظام البائد؛ ومن نتائج هذه العملية وقوع آلاف الضحايا من المدنيين الذين أُعدِموا بطرق وحشية.

بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على السلطة في دمشق استلمت ملفّات شائكة ومعقّدة أفرزتها الأزمة السورية على مدار أربعة عشر عاماً، والتي لا يمكن حلّها إلّا عن طريق الحوار الوطني وإعادة ترتيب البيت السوري الداخلي؛ إلّا أنّ النهج الذي سلكه أحمد الشرع في حلّ تلك الملفّات قد زاد من تعقيدها؛ خاصة عندما نقل حكومته “حكومة الإنقاذ” من إدلب إلى دمشق، وقام بتعيين قادته العسكريين محافظين على المدن السورية، ووضع أسساً خاطئة لبناء الجيش السوري الجديد، وأقام مؤتمراً وطنياً من لون واحد، ولم يقدر على فكّ ارتباطه بالخارج؛ فكانت أحداث الساحل أول اختبار له كرئيس مؤقّت للجمهورية السورية الحديثة.

إنّ ما يحدث في الساحل السوري مرتبط بأخطاء داخلية وأجندات خارجية؛ فهذه المنطقة تتميّز بأنّها واجهة سوريا على العالم الخارجي، وتوجد فيها قاعدة حميميم الروسية وقاعدة طرطوس البحرية الروسية، كما أنّ معظم سكانها من الطائفة العلوية. إذاً؛ ما هي الأسباب التي أدّت إلى ذلك؟ وإلى أين تتّجه الأمور هناك؟

أسباب داخلية:

لا شكّ أنّ هناك بعض العناصر من فلول النظام السابق في منطقة الساحل، كونها كانت معقل النظام البائد، وما يحدث في الساحل والمجازر التي ارتُكِبت بحقّ الطائفة العلوية لا يمكن ربطها ببعض العناصر من فلول النظام، بل يتعلّق الأمر بالسياسة الداخلية التي انتهجها أحمد الشرع في إدارة البلاد بعد سقوط النظام البائد؛ وهذه السياسة قد أثبتت فشلها بكل المقاييس؛ إذ لا قدرة للشرع على التحكّم بفصائله المسلّحة “قادة أو أفراداً” أو حتى محاسبتها على الانتهاكات والمجازر التي ارتكبتها تلك الفصائل ضدّ الطائفة العلوية. ومن أبرز الأخطاء -إن صحّ التعبير- التي ارتكبها الشرع في سياسته الداخلية:

  1. تشكيل الجيش السوري الجديد: فبدلاً من تشكيل جيش سوري وطني عمل الشرع على ضمّ الفصائل التي لها باع طويل في القتل والنهب والخطف “الحمزات والعمشات وأحرار الشرقية إلى جانب الفصائل الإسلامية الراديكالية ” لتكون نواة للجيش السوري الجديد، كما أنّ تلك الفصائل التي ادّعت حلّ نفسها وانضمامها إلى الجيش السوري الجديد قد بقيت كما هي ولا توجد أي سلطة عسكرية عليها، بل إنّ ولاء عناصر هذه الفصائل ما زال لقادتها، وبالتالي؛ فإنّ هذه الفصائل ما تزال مرتبطة بالأجندة الخارجية وهو ما يشكّل خطراً على سوريا وعلى السلم الأهلي فيها؛ فالأحداث الجارية أو المجازر المرتكَبة في منطقة الساحل، من عمليات القتل والخطف والنهب التي تقوم بها تلك الفصائل، تكون باسم الجيش السوري الجديد، وبالتالي؛ فإنّ سياسة أحمد الشرع في تشكيل هكذا جيش تضعه في قفص الاتّهام، كما أنّه لا فرق بين هذا الجيش وجيش النظام البائد طالما أنّه مرتبط بأشخاص معيّنين، ويعمل على قتل أبناء الشعب السوري بدلاً من أن يكون الدرع والحامي له.
  2. مؤتمر الحوار الوطني: والذي تميّز باللون الواحد، حتى أنّ أعضاء اللجنة المكلّفة بالمؤتمر عليهم عدّة استفهامات وغير مقبولين لدى الشارع السوري، كما أنّ إقصاء أطراف وأحزاب وقوىً وشخصيات وطنية من الحوار الوطني قد جعل الشارع السوري أمام استفهامات كثيرة حول الهدف من هذا المؤتمر ونوايا النظام الجديد؛ وهو ما خلق نوعاً من الإحباط لدى الشارع السوي “مكوناتٍ وأحزاباً وقوىً وطنية”، كما ولّد حالة من عدم الثقة بهذا النظام الجديد.
  3. عدم الأخذ بالحسبان أوضاع المناطق السورية بعد الأزمة السورية وخصوصيتها؛ فبغضّ النظر عن مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وقوتها العسكرية “قوات سوريا الديمقراطية” وإلى حدّ ما السويداء، فإنّ باقي المناطق كانت مرتبطة بالنظام، وبسقوط النظام بقيت الساحة خالية من أي قوة تعمل على استتباب الأمن في تلك المناطق، حتى وإن كانت تحت مظلّة النظام الجديد، وكان من المفترض على النظام الجديد أن يقوم بتشكيل وحداتٍ أمنية جديدة من أبناء المنطقة لحفظ الأمن والاستقرار فيها، كخطوة أولية نظراً للنتائج التي أفرزتها الأزمة السورية، وبالأخص النعرات الطائفية والعرقية، لا أن يقوم باستقدام جهات مرتبطة بأجندات خارجية أو فصائل راديكالية لها تاريخ ملطّخ بالدم ولديها أحقاد تجاه طوائف معيّنة وتعمل وفق أجندة خارجية؛ وهذا هو أحد الأسباب التي دفعت بالسويداء لتشكيل مجلس عسكري لها ليشرف على أمن واستقرار السويداء وريفها، ولولا ذلك فلربّما يكون مصيرها مشابهاً لمصير الساحل السوري.
  4. إنّ السقوط السريع للنظام البائد لم يمنح الفرصة للطائفة العلوية لتشكيل إدارة خاصة بها، سواء سياسية أو عسكرية، لتقف في وجه أي تجاوزات بحق أبناء المنطقة على يد الفصائل التي تكنّ الحقد والكراهية لتلك الطائفة.

وغيرها من العوامل التي أوصلت البلاد إلى هذا المستوى من القتل والخطف والنهب وافتعال الأزمات؛ فالسياسة الداخلية التي انتهجها أحمد الشرع لم تكن بمستوى دولة عاشت أزمة لمدة أربعة عشر عاماً، وأفرزت الكثير من النتائج السلبية التي تتطلّب سياسة خاصة تقوم على إشراك جميع المكوّنات السورية والقوى والأحزاب والشخصيات الوطنية في إدارة البلاد، بدلاً من نقل حكومة إدلب لتحكم سوريا بالكامل والإصرار على النظام المركزي.

أسباب خارجية:

لا شكّ في أنّ سوريا هي جزء من خارطة (شرق أوسط جديد) يتم رسمها من قبل النظام العالمي، وتحاول دول الشرق الأوسط كتركيا وإيران امتلاك أوراق ضغط قوية يمكن المساومة عليها مستقبلاً لحماية أنظمتها من الانهيار، لذا؛ تحاول كل دولة إعادة ترتيب أوراقها في خِضَمّ ضبابية المشهد في منطقة الشرق الأوسط وبروز إسرائيل كدولة محورية لها أجندتها الخاصة بها وبدعم قويّ من الولايات المتحدة في المنطقة، هذا إلى جانب روسيا التي تحاول الحفاظ على وجودها في سوريا؛ وكل ذلك يشكّل تحدّياً كبيراً أمام الشرع الذي يمتلك بالأساس علاقات قوية مع دولة الاحتلال التركي، ويخشى من ردود فعل الولايات المتحدة وإسرائيل؛ وهو ما قد يعكس قدرته على تحقيق توازن بين هذه الأطراف يجنّب سوريا أزمات جديدة.

 الأجندة الدولية والإقليمية في سوريا:

روسيا:

تُعتبَر روسيا أحد الدول المهزومة في الملف السوري بعد سقوط حليفها الأسد؛ فهي تحاول الحفاظ على سوريا كحليف تاريخي لها وكذلك الحفاظ على قواعدها العسكرية “قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية إلى جانب قاعدتها في قامشلو” إلّا أنّها – كما يبدو – ما تزال متمسّكة بمحور أستانا “إيران وتركيا”، وتتودّد إلى النظام الجديد في دمشق، لكنّها من جهة أخرى تنسّق مع تركيا وإيران في سوريا، وتأتي الزيارة المكّوكية لوزير خارجيتها إلى طهران وأنقرة لإعادة رسم سياسة جديدة في سوريا؛ فهي بتعاونها مع هذه الدول تحاول الحفاظ على سوريا كدولة حليفة لها حتى وإن لم تشمل كامل الجغرافية السورية فهي تهمّها سوريا المفيدة؛ فمنطقة الساحل – حسب استراتيجية روسيا المتعلّقة بسوريا – تشكّل جزءاً رئيسياً في سوريا المفيدة، كما أنّها قد تستغلّ المجازر التي تُرتكَب بحقّ الطائفة العلوية، وكذلك قيام عدد كبير من أبناء تلك الطائفة بالاحتماء بالقاعدة الروسية من فصائل الجيش السوري الجديد، لفرض وجودها في منطقة الساحل.

إيران:

إلى جانب روسيا؛ تُعتبَر إيران من الدول المهزومة في الملف السوري بل الخاسر الأكبر، وتريد إعادة تموضعها في الساحل السوري عن طريق كسب الطائفة العلوية، على غرار الشيعة في لبنان والحوثيين في اليمن، وقد حاولت التودّد إلى النظام الجديد في دمشق دون جدوى، وأحداث الساحل – وإن لم يكن لإيران يد فيها – قد جعلتها تتريّث في التودّد إلى النظام، ولربّما تعمل على تغيير سياستها من خلال دعم الطائفة العلوية في الساحل، خاصة أنّ لمنطقة الساحل السوري حدود مع دولة لبنان، وبالتالي؛ هناك إمكانية التواصل بين حزب الله والطائفة العلوية.

تركيا:

ترى نفسها المنتصر الأكبر في الملف السوري؛ وذلك بحكم علاقتها الوثيقة بهيئة تحرير الشام وتحكّمها بمرتزقتها وبالفصائل الإسلامية الراديكالية، لذا؛ تحاول توسيع نفوذها في الشمال السوري ليشمل الساحل السوري، كونها لديها مطامع اقتصادية في الساحل السوري الغنيّ بالغاز، ووقف أو منع الطرق التجارية من العبور إلى أوروبا عبر الموانئ السورية؛ فافتعال الأزمات في سوريا قد يخدم مخطّطاتها في سوريا والمنطقة من خلال تشكيل تحالف إقليمي “تركيّ سوريّ عراقيّ أردنيّ” بحجّة – حسب وصفها – حلّ الأزمة السورية وضرب الإرهاب؛ كلّ ذلك من أجل استلام ملف مكافحة الإرهاب من الولايات المتحدة وفضّ الشراكة بين التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية لضرب الإدارة الذاتية ومشروع الأمة الديمقراطية، والتي تشكّل حجر الزاوية نحو سوريا ديمقراطية تعدّدية.

فعلاقة أحمد الشرع بدولة الاحتلال التركي، وتحكّم الأخيرة بالفصائل المسلّحة في سوريا التي تعمل وفق أجندتها، تشكّل عقبة رئيسية أمام تأسيس نظام ديمقراطي، وإنّ تحييد سوريا عن المطامع والأجندات التركية سيكون قفزة كبيرة نحو إيجاد حلول للكثير من الملفات الشائكة ونحو سوريا جديدة.

إسرائيل:

بعد السابع من أكتوبر برز الدور الإسرائيلي المباشر في منطقة الشرق الأوسط، وإنّ تمركز الدول – باستثناء روسيا – في سوريا يشكّل تهديداً على أمنها القومي، لذا؛ نجد صراعاً “إسرائيلياً – تركياً – إيرانياً” في سوريا، والتصريحات الإسرائيلية لحماية الدروز في الجنوب السوري هي جزء من أمنها القومي، كما أنّ الساحل السوري يشكّل أهمية اقتصادية كبيرة لإسرائيل في المستقبل القريب؛ وذلك بضم سوريا إلى “منتدى شرقي المتوسط” لنقل الغاز إلى أوروبا ومنع تركيا من عقد أي اتفاقيات لترسيم الحدود البحرية مع النظام الجديد، هذا إلى جانب النفوذ التركي الكبير على الجماعات الإسلامية الراديكالية في سوريا، والتي تشكّل أكبر تهديد لإسرائيل ولأمنها القومي.

هذا إلى جانب المصالح الأمريكية والغربية في سوريا كبوّابة لنقل الطاقة إلى أوروبا واحتمالية قيام الولايات المتحدة بتوسيع مشروعها الاقتصادي في منطقة الخليج العربي لتشمل سوريا.

إنّ تمسّك أو عدم قدرة الشرع على الخروج من تحت العباءة التركية، وعدم قدرته على تحقيق توازن دولي في سوريا، يجعله أمام أزمات جديدة؛ فأحد الأسباب الرئيسية للأزمة السورية كان فشل نظام الأسد البائد في تحقيق توازن دولي أو تحييد سوريا، والميل نحو المشروع الإيراني بدلاً من المشروع الغربي – القطري لنقل الغاز إلى أوروبا.

إنّ أحداث الساحل وما نجم عنها من إبادة بحق الطائفة العلوية قد كشفت ضعف وهشاشة النظام الجديد، وعدم قدرته على التحكّم بالفصائل العسكرية التي يُقال أنّها قد حلّت نفسها وانضمّت إلى الجيش السوري لكن الواقع يظهر عكس ذلك، كما أنّ التصريحات – سواء من الرئيس المؤقّت أحمد الشرع أو من المسؤولين – لم تكن على قدر المسؤولية كحكومة تعمل على حماية ورعاية مصالح الشعب السوري والحفاظ على النسيج السوري؛ فمقارنتهم للمجازر التي تحدث بحقّ الطائفة العلوية في منطقة الساحل مع مجازر النظام البائد، وادّعاءهم أنّ الانتهاكات التي تحدث في الساحل من قتل وخطف ونهب إنّما هي تجاوزات فردية وليست ممنهجة، هو تشويه للحقائق، لذا؛ فإنّ تلك التصريحات لا تمتّ للواقع بأي صلة، بل إنّ السياسة التي ينتهجها النظام الجديد شبيهة بسياسة النظام البائد، والمجازر التي ارتُكِبت بحق الطائفة العلوية قد كشفت عنه القناع. واستمرار الشرع وحكومته على هذا النهج سيؤدّي بسوريا نحو عنف طائفي “سُنّي – علوي) ولا يُستبعد أن تتسبّب هذه الحكومة مستقبلاً بافتعال صراع طائفيّ “كرديّ – عربي” أو حتى “سُنّي – درزي” وبالتالي؛ إدخال سوريا في دوامة من الصراعات الطائفية طالما بقي هذا النظام على نهجه الحالي، أمّا ما يخصّ جلسة مجلس الأمن التي ستُعقَد من أجل سوريا فلا يمكن استبعاد الوصول إلى إجماع كامل أعضائها على إدانة المجازر التي ارتُكِبت بحق الطائفة العلوية ومحاسبة مرتكبي تلك المجازر.

زر الذهاب إلى الأعلى